يمكن للمرء أن يحدد بالضبط تاريخ بروز الصين كقوة عظمي. كان ذلك في مساء 8 أغسطس العام الماضي خلال الاحتفالات الافتتاحية لأوليمبياد بيجين. كان هذا الحدث يرمز بشكل تام إلي بروز الصين, وكان عرضا رائعا ومكلفا يعتمد علي قدرة تنظيمية هائلة, من إخراج حكومة البلد الشديدة الكفاءة. قد ننظر إلي الوراء بعد بضع سنوات ونحدد تاريخ حفل بروز الهند علي أنه كان في 18 مايو الجاري, وهو اليوم الذي أعلنت فيه نتائج الانتخابات التي أجريت أخيرا في البلد. هذه الانتخابات كانت أيضا رمزا ملائما, في هذه الحالة لمواطن قوة الهند الفريدة, التي تحددها قوة الشعب وليس قوة الدولة, بكل ما ينطوي عليه ذلك من فوضي. مع تصويت 420 مليون شخص, كانت الانتخابات الأخيرة أكبر ممارسة ديموقراطية في التاريخ.
لكن الأهمية العالمية للانتخابات ــ والسبب الذي قد يجعلها تعني بداية عصر جديد للهند علي الساحة العالمية ــ لا تكمن في حصول الانتخابات بحد ذاتها بل في نتائجها. خلال العقدين الماضيين, شهدت الهند انقسامات داخلية حادة كان لها تأثيرات عميقة: انقسامات طبقية وعرقية ودينية. وهذا صعب علي الحكومة في نيودلهي حشد القوة الوطنية لتحقيق أي غاية مجدية في الشئون الدولية. كما أن النظام السياسي اللامركزي والمنقسم كان له وزن أقل بكثير من وزنه الحقيقي علي الصعيد الدولي. هذا أمر سيئ بالنسبة إلي الهند والعالم أيضا. لكن كل ذلك قد يتغير الآن. للمرة الأولي منذ ثلاثة عقود, أعطي حزب واحد وهو المؤتمر الوطني الهندي تفويضا واضحا وشاملا.
الناخبون الهنود هم من بين الأفقر والأقل تعلما في العالم, ومع ذلك صوتوا بذكاء مدهش. وكوفئ حزب المؤتمر الوطني الحاكم علي النمو الاقتصادي الذي شهدته البلاد. وخلافا لآمال الكثير من النقاد اليساريين في الهند, فإن الناس يؤيدون الانتقال نحو اقتصاد أكثر انفتاحا (وبالتالي أكثر إنتاجية). ويتجلي ذلك في عدم فوز حزب المؤتمر الوطني في كل المناطق. فالحكومات الإقليمية التي سعت أيضا إلي تعزيز النمو (في أوريسا وبيهار) كوفئت بدورها. والأحزاب التي منيت بخسارة فادحة كانت تلك التي ركزت علي استغلال الخوف والحقد والهوية, مثل حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي, ومجموعات أصغر تركز علي الطبقية.
في السنوات الأخيرة, بدا أن الديموقراطية في العالم وقعت ضحية لشرين. أولا, بدا أن السياسة الشعبوية تتفوق علي الإصلاحات الاقتصادية. وثانيا, في زمن الإرهاب, أصبح الخوف وسيلة سهلة للحصول علي التأييد السياسي. (هذه المشاكل أثرت في الديموقراطية في بلدان غنية مثل أمريكا بقدر ما أثرت في بلدان فقيرة). غير أن النتائج الهندية تناقض كلا المفهومين. فحزب المؤتمر الوطني ركز علي الإصلاح الاقتصادي وتمتع بمسئولية عالية في مسائل الإرهاب والتسامح. واختار ضبط النفس بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة علي مومباي, وتهجمت عليه المعارضة باعتباره ضعيفا. لكن الناخبين لم يقتنعوا.
هذا الفوز هو تفويض ليس لحزب المؤتمر الوطني فقط بل للثلاثي المدهش داخله أيضا, المؤلف من رئيس الوزراء مانموهان سينج, وزعيمة الحزب سونيا غاندي, وابنها راؤول غاندي, البالغ 38 عاما. لقد أمضي هذا الأخير السنوات القليلة السابقة يحقق ما بدا مستحيلا, إعادة إحياء القواعد الشعبية لحزب المؤتمر الوطني, الذي كان قد أصبح علي مر السنوات الأخيرة ساحة للتملق والفساد أكثر منه منظمة سياسية. فقد قام بسلسلة من الرهانات الاستراتيجية الكبيرة خلال الحملة, لتقديم مرشحين شبان وعدم التحالف مع الأحزاب الطبقية. وكانت كل من هذه الرهانات رابحة.
لطالما شكك الإعلام, خصوصا في الهند, في قدرات سونيا وراؤول غاندي السياسية. ومع ذلك, قادا الحزب خلال فوزين انتخابيين في غضون ست سنوات, وهما يعيدان إحياء حزب مترهل, وقد حققا كل ذلك وحافظا في الوقت نفسه علي التزامهما بالعلمانية والإصلاح الاقتصادي والحكومة الصالحة. (سينج هو الرجل الأكثر نزاهة في السياسة الهندية منذ ثلاثة عقود علي الأقل). لم تشغل الوالدة أو الابن منصبا حكوميا حتي الآن, وبينما يمكن وصف ذلك بأنه تخطيط ذكي أو بأنه تحين للفرصة الملائمة, فكم شخصا كانوا سيظهرون هذا الانضباط لو عرض عليهم منصب رئيس وزراء ثاني أكبر بلد في العالم؟
التحدي الأكبر للعالم في القرن الـ21 يكمن في إيجاد طريقة لإدخال الهند والصين والبرازيل إلي النظام الدولي. وغالبا ما تعتبر هذه المهمة من مسئولية الغرب. لكن الأمر المهم بالقدر نفسه هو أنه يجب علي القوي النامية أن تلعب أدوارها الدولية وتتصرف بشكل مسئول علي الساحة العالمية. هذا يعني اعتماد وجهات نظر عالمية وليس وطنية ضيقة في مسائل مثل الإرهاب والطاقة والبيئة والتجارة والأمراض ومنع انتشار الأسلحة النووية. هذه الانتخابات فوضت الحكومة الهندية الأكثر ترجيحا ـ مقارنة بكل الخيارات الأخري ـ لاعتماد مقاربة مسئولة في دورها العالمي. وبالرغم من القيود السياسية الشديدة, تمكن رئيس الوزراء سينغ من إعادة توجيه سياسة البلد الخارجية. بفضل هذا التفويض الوطني, يمكنه أن يتصرف بشكل أكثر شمولية وأكثر جرأة علي كل الأصعدة.
قال وينستون تشرتشل: ##الهند تعبير جغرافي. فهي ليست أمة موحدة, تماما مثل خط الاستواء##. كان تاريخ إنجازات تشرتشل سيئا جدا فيما يتعلق بالهند. فحينما كان رئيسا للوزراء, رفض منح المستعمرة استقلالها قائلا: ##لم أصبح رئيس وزراء الملك كي أترأس عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية##. بعد خمس سنوات, نالت الهند استقلالها. الآن, وبعد أكثر من 60 عاما, تغلبت الهند من جديد بذكائها علي السير وينستون تشرتشل.
واشنطن بوست