بين السهول القاحلة والهضاب الصخرية الجرداء علي الحدود الجنوبية للصحراء الكبري, تقع مدينة جوبا التي تتكون من أكواخ طينية مسقوفة بأكياس بلاستيك تعتليها طيور الصقر في أوقات الظهيرة, ومن أطفال يغتسلون في المياه الموحلة لنهر النيل الأبيض. كما تتكون هذه المدينة, التي لا يوجد فيها أية خطوط هاتفية, أو وسائل نقل عام, أو شبكات كهرباء, أو صناعة, أو زراعة, من بعض المباني, التي هي عبارة عن فنادق ومستودعات لتخزين المساعدات, إلي جانب بعض الكبائن مسبقة الصنع, وحاويات الشحن التي تستخدم كمبان لبعض الوزارات الحكومية. وتوجد فيها أيضا بعض الشركات, إلي جانب مستشفي متهالك وحفنة من المدارس.
وبسبب وصول المزيد من عمال الإغاثة, فإننا نشاهد أحيانا في شوارعها المعبدة (البالغ عددها خمسة) بعض الازدحامات المرورية لسيارات الجيب البيضاء, كما يوجد فيها بعض البارات التي يؤمها الوافدون حصرا. لكن كل هذه الأمور لا تعتبر مؤشرا عن الواقع الجديد الذي بدأ يلقي بظلاله علي هذا المكان; ففي غضون 10 أشهر من الآن- هذا بالطبع إذا لم تتدخل الحرب والمجاعة والإبادة الجماعية للحؤول دون ذلك- ستصبح مدينة الأكواخ هذه, التي تشتهر بالحرارة العالية والملاريا, أحدث عاصمة لأحدث دولة في العالم: جنوب السودان.
كيف يمكن لجنوب السودان أن يصبح دولة مستقلة في الوقت الذي لا يمتلك من مقومات الدول سوي القليل؟ الكثير من عمال الإغاثة وخبراء التنمية في مدينة جوبا يشككون في إمكانية حدوث هذا الأمر, بل ابتكروا اصطلاح دولة دون الفاشلة لوصف الوضع الفريد من نوعه لجنوب السودان. ومع أن المجتمع الدولي يحاول أن يظهر بمظهر المتفائل, لكن يبدو أن التفاؤل صعب جدا في هذه المرحلة, وبخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار بأن المدة الزمنية المتاحة للتحضير للانفصال قصيرة جدا.
التوقعات تشير إلي أن الجنوبيين سيصوتون بشكل كاسح لمصلحة تقسيم أكبر دولة أفريقية, خلال الاستفتاء الذي سيتم في 9 يناير المقبل, إلا أن بعض المراقبين, مثل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر, الذي يتولي المركز التابع له دعم الصحة والترويج للديموقراطية في السودان, يقولون إن الإقليم غير مستعد لمثل هذا الأمر في الوقت الحالي.
أي ولادة في غير أوانها مرشحة لمواجهة بعض المضاعفات. لكن في حالة جنوب السودان ستكون هذه المضاعفات شديدة الخطورة, بخاصة أن السودان يصنف كواحد من أقل البلدان استقرارا في العالم. فهذا البلد هو المكان الذي عاش فيه أسامة بن لادن لمدة خمس سنوات في التسعينيات, وهو الذي أصبح رئيسه أول رئيس دولة في العالم توجه له المحكمة الجنائية الدولية تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية, كما أنه المكان الذي قتل فيه مليونا شخص خلال حربين أهليتين بين الجنوب وحكومة الشمال, الأولي بين 1955و1972 والثانية بين 1983و.2005
لذلك, فإن ولادة دولة جديدة في الجنوب, في ظل عدم وجود حدود واضحة بينه وبين الشمال, إلي جانب معاناته من ضعف المؤسسات والانقسامات الداخلية, قد يكون كارثيا. ويقول ديفيد جريسلي, المنسق الإقليمي للأمم المتحدة في جنوب السودان, إن أمرا كهذا من شأنه أن يعيد خلق أجواء الحرب الأهلية.
هذا علي مستوي الجنوب فقط. لكن الانفصال في هذا المكان قد يشجع السودانيين الآخرين الذين توجد لديهم نزعات استقلالية, كأولئك الموجودين في دارفور, أو في الشرق, أو في الولايات الجنوبية والوسطي في جنوب كوردوفان, والنيل الأزرق, علي اتباع النهج ذاته. لكن كارتر استبعد إمكانية تكرار الأنموذج اليوغوسلافي; أما سكوت جريشن, المبعوث الأميركي الخاص للسودان, فقال: لن يكون التقسيم نتيجة حتمية; وفي رأيي نستطيع منع حدوث ذلك.
إذن, لماذا يتجشم جنوب السودان عناء محاولة الانفصال عندما يكون ثمن الفشل الحرب, وثمن النجاح تفتت السودان؟ ولماذا يساعده العالم علي ذلك؟ وهل هناك أي أمل في أن يتمكن جنوب السودان من الوقوف علي قدميه بعد الانفصال؟
ردا عن هذه الأسئلة, يقول كارتر: لا أستطيع القول إن الولايات المتحدة كانت مهيأة للاستقلال عندما نالت استقلالها. أما جريسلي فيقول: إنه ليس من الضرورة أن يكون جنوب السودان دولة مكتملة بكل معني الكلمة في بادئ الأمر, بخاصة في حال استمرت الجهود الدولية لبنائه, والتي يتوقع أن تستمر بين 10 و20 عاما.
وعلي الرغم من تلكؤ البنك الدولي في تقديم الدعم, ثمة تقدم ملموس علي الأرض. صحيح أن جوبا لا تتميز بالكثير من المقومات, لكن الذين يعرفون كيف كانت هذه المدينة في الماضي, يدركون حجم التقدم الذي حققته. البعض يشير إلي النجاح الذي حققه برنامج مركز كارتر في مكافحته لدودة غينيا القاتلة, التي كانت تنتقل لأبناء الجنوب عبر المياه, ثم يستشهد بمقولة كارتر نفسه: إن ذلك النجاح ممكن.
لا يمكن لأي برنامج صحي, مهما كان ناجحا, أن يكون أساسا لإنشاء دولة. لكن بغض النظر عن حجم التشاؤم الكامن في استقلال جنوب السودان, فإنه من الصعب تخيل أي بديل آخر. الحرب هي التي مزقت الجنوب, وحرمانه من استقلاله, ولاسيما في هذه المرحلة المتأخرة, سوف يعني المزيد من الاقتتال. يذكر أن الرئيس الأميركي باراك أوباما, خلال إعلانه عن استراتيجيته الجديدة, بخصوص السودان, قال: لن يكون الأمر سهلا, ولا توجد إجابات بسيطة علي التحديات الاستثنائية التي تواجه هذا الجزء من العالم. كانت الحرب تمثل إجابة الحكومة السودانية علي الكثير من التحديات التي تواجهها; لكن تزايد تعقيد الأوضاع قد يكون مبررا للأمل.
تايم الأمريكية
عن أوان الكويتية