فكرة استخدام الطائرات التجارية كصواريخ لضرب الأبراج والأهداف المدنية, فكرة لم تخطر علي بال أحد من البشر منذ أن خلق الله آدم وحتي 11 سبتمبر 2001, لكن هذه الفكرة الشيطانية التي لم يكفر فيها أي إنسان, خطرت وترسخت بذهن مهندس شاب مسلم, اسمه ##خالد الشيخ محمد##! هذا الشاب باكستاني الأصل, مولود في الكويت لأبوين من بلوشستان, انضم في الكويت إلي جماعة ##الإخوان المسلمين## في سن السادسة عشرة وعاد إلي باكستان ثم ذهب إلي الولايات المتحدة عام 1983 وتخرج من جامعة نورث كارولينا بشهادة في الهندسة الميكانيكية. وتشير إحدي الوثائق التي أفرجت عنها وكالة المخابرات الأمريكية إلي أن ##خبرة خالد الشيخ محمد السلبية والمحدودة في الولايات المتحدة, والتي تضمنت السجن لفترة قصيرة لعدم تسديد بعض الفواتير, أسهمت في حثه علي المضي في طريقه لكي يكون إرهابيا##. وقد قال إن تعامله مع الأمريكيين, علي الرغم من قلته, ##أكد وجهة نظره بأن الولايات المتحدة, دولة فاسدة وعنصرية##. وقد اعترف خالد شيخ محمد تفصيليا -بعد أن وقع في قبضة المخابرات الأمريكية في مارس 2003, بأن فكرة استخدام الطائرات التجارية كصواريخ لضرب الولايات المتحدة فكرته, وحاول إقناع أسامة بن لادن بها, فرفضها في البداية لكنه وافق عليها بعد ذلك في عام 1999 وأمر بالإعداد لها, إلي أن تم تنفيذها من قبل الانتحاريين الـ19 صبيحة يوم 11 سبتمبر 2001 عبر خطف 4 طائرات تجارية بركابها وطاقمها, ونجحوا في الاصطدام ببرجي مركز التجارية العالمي بنويورك, بينما تم إسقاط الطائرتين الأخريين بمن فيهما. وبلغ عدد ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر حوالي 3 آلاف شخص كلهم مدنيون أبرياء ومن كل الجنسيات والأديان. هذا الزلزال الكارثي هو الذي جعل الشعب الأمريكي يصطف حول قيادته ويطالبها بالثأر والانتقام وهو ما جعل الإدارة الأمريكية تتبني سياسة ##الحرب الاستباقية## والتي تعني غزو العدو في عقر داره وإجهاض مخططاته قبل أن يتمكن من نقل المعركة إلي أمريكا, وكان من نتائج هذا الزلزال الذي أصاب أمريكا أن انطلق المارد الأمريكي فدمر أوكار ##القاعدة## في أفغانستان وشرد زعيمها وساق من تم القبض عليهم من عناصرها مصفدين إلي معتقل ##جوانتانامو## الرهيب, كما سحق دولة ##طالبان## وأطاح بنظامها القمعي. ولم تكتف أمريكا بذلك بل عمدت إلي غزو العراق والإطاحة بنظام صدام وتخليص الشعب العراقي من استبداده الذي امتد 3 عقود. كما كان من تداعيات إدماء ##القاعدة## لأنف أمريكا وضربها في رموز شموخها أن ضغطت علي دول المنطقة بغية إدخال إصلاحات سياسية واجتماعية علي أوضاعها, ظنا أن ما حصل لها من عدوان إرهابي هو نتاج بيئات قمعية محرومة من قيم الديمقراطية وإفراز لنظم تعليمية غرست في نفوس الذين قاموا بالعدوان, الكراهية والعنف والعداء.
لقد تغير العالم كثيرا بعد أحداث 11 سبتمبر وحصلت تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية شملت معظم دول العالم, وكان نصيب منطقتنا من هذه التغيرات كبيرا, لعل من أبرزها, سعي دول المنطقة لمراجعة نظمها التعليمية, وضبط العمل الخيري, وترشيد المنابر والخطاب الديني, وحصول المرأة علي حقوقها السياسية ووصولها إلي المناصب القيادية, وصدور تشريعات متعلقة بالأسرة أكثر توازنا واعتدالا, كما حصلت إصلاحات سياسية في معظم دول المنطقة. وما زالت تأثيرات 11 سبتمبر وبعد 8 سنوات مستمرة رغم مجيء الإدارة الجديدة بقيادة رئيس جديد يتبني خطابا اعتذاريا, يريد به تغيير صورة أمريكا الخارجية عبر كسب القلوب والمشاعر, ولذلك يتجنب الرئيس أوباما استخدام عبارة سلفه ##الحرب ضد الإرهاب##. ويبدو أن الشعب الأمريكي بعد 8 سنوات علي تلك الاعتداءات الكارثية, قد سئم الحرب علي الإرهاب وبخاصة بعد حربين راح فيهما أكثر من 5 آلاف جندي أمريكي, وهو اليوم منشغل بتداعيات الأزمة الاقتصادية وبمشروع الرعاية الصحية. كما أن فشل ##القاعدة## في توجيه ضربة أخري لأمريكا ساهم في اعتقاد الأمريكيين أنهم بمأمن من شرور الإرهابيين وأنصارهم.
الآن, ليس هدف المقال, بيان التفاعلات والنتائج التي ترتبت علي أحداث 11 سبتمبر, والتي لم تترك جانبا من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا وأثرت فيها, ولكن الهدف وبعد 8 سنوات علي تلك الأحداث أن نفكر مليا في عمق تلك الأحداث وفي دوافعها وملابساتها, ولكن قبل ذلك علينا أن نطرح تساؤلات حائرة لا أجد لها أجوبة مقنعة:
كيف أمكن لشاب مسلم في مقتبل العمر وقد درس في الولايات المتحدة وفي تخصص علمي دقيق أن يستثمر طاقاته في الهدم والتدمير وإزهاق الأنفس البريئة؟! لماذا لم يفكر هذا المهندس المسلم في استثمار تخصصه فيما ينفع المسلمين ويخدم الإسلام وينهض بوطنه؟ كيف تحولت المشاعر السلبية تجاه أمريكا إلي التفكير في قتل المدنيين الأبرياء الذين لا ذنب لهم فيما تفعله دولتهم؟ كيف اقتنع الانتحاريون الـ19 بالتضحية بأنفسهم وبالآخرين الذين لا جريرة لهم, وكل ذلك باسم الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام؟ أي شيطان استحوذ علي نفسية وعقلية خالد شيخ محمد ورتب له تلك الفكرة الجهنمية؟ ومن أي مصدر شرعي موثوق استمد هؤلاء زعمهم بأن سفك دماء الأبرياء بالجملة هو جهاد في سبيل الله؟ كيف تجرؤوا علي دين الإسلام, وكتابه العظيم لم يحرم شيئا كتحريمه النفس المعصومة؟ إن كتابنا جعل قتل نفس واحدة قتلا للناس جميعا, فما لهؤلاء لا يفقهون؟
نعود لنكرر تساؤلا أساسيا: لماذا لم يوجه هؤلاء الشباب -وقد تخصصوا فيما يحتاجه المسلمون- جهودهم إلي ما يرفع من شأن دينهم ووطنهم ويسعد بني جلدتهم ويجعلهم موضع فخرهم؟ لماذا لا يفجرون طاقاتهم في ميادين العلم والمعرفة والإبداع والتنمية بدلا من تفجير أنفسهم في النساء والأطفال الأبرياء؟ ما هذا الوباء الذي حل ببعض شباب المسلمين فزين لهم سوء أعمالهم؟ وإلي متي يستمر هذا الوباء المدمر يفتك بعقولهم ونفوسهم؟
منذ أن فجر شبابنا أنفسهم في أمريكا قبل 8 سنوات وحتي اليوم, تصاعد المد التفجيري وشمل معظم الدول الإسلامية وامتد من المغرب إلي إندونيسيا, وبعد أن كان يستهدف الخارج أصبح يستهدف الداخل حيث التجمعات البشرية الكثيفة, في المساجد والمطاعم والأسواق والفنادق والمزارات… هذه التساؤلات تشكل تحديات كبيرة لمناهجنا ولمنابرنا الدينية والإعلامية والثقافية ولمؤسساتنا التربوية, علينا استنفار الجهود وبخاصة من علماء الدين نحو حلول تساعد علي تحصين الشباب وتقوية مناعتهم ضد أمراض التطرف, تحببهم في الحياة وفي الإنسان, نريد خطابا دينيا ذا بعد إنساني, يعلي قيمة الحياة ويحبب الإنسان في الإنسان ويضع نهاية لثقافة تدمير الذات.
أستاذ الشريعة بجامعة قطر