داعبت الرحلة إلي الشرق الساحر خيال وأحلام الكثير من الأوربيين لفترة طويلة… وبخاصة مصر لما تحويه من الآثار الفرعونية والإسلامية والقبطية أضافت لتلك الأحلام الجميلة شوقا خاصا بها. كما ألهبت الحياة اليومية في مصر وطبيعتها الفريدة التي سجلتها لوحات وعدسات الفنانين المستشرقين فضولهم وحثتهم علي السفر إلي مصر لرؤية ومعايشة هذا الجمال. كذلك لعب كتاب وصف مصر الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية دورا بارزا في تأجيج رغبة وشوق هؤلاء الحالمين.
وقد عرفت مصر واحدا من هؤلاء المبدعين وهو توماس كوك الذي حول هذه الأحلام إلي واقع وليصبح رائدا في دنيا السفر والترحال.
في بيئة فقيرة ومتواضعة ولد توماس كوك في 22 نوفمبر 1808 في دير بيشاير بملبورن بإنجلترا. جمع كوك منذ الصغر بين التعليم والعمل صانعا للخزانات مثل والده, ثم عمل بعد ذلك بائعا للكتب. وبعد فترة ترك كل ذلك ليصبح مبشرا بروتستانتيا وأحد المنادين بالاعتدال في الدين. وعرف في بداية حياته حبه للرحلات وإقامة المعسكرات الخلوية.
وعندما أتم عامه الثاني والثلاثين نظم رحلة بالقطار ضمت 500 ناشط من أعضاء جمعية الاعتدال من ليستر إلي لوبورو, ولضمان نجاحها تقاضي من كل مشترك شلنا واحدا نظير تذكرة القطار والطعام والشاي الذي يقدمه للمشترك. ولاقي هذا المشروع نجاحا كبيرا, وسرعان ما تم طلب توماس كوك لتنظيم رحلات مماثلة.
وفي عام 1855 قام كوك بتنظيم أول رحلة برية سياحية إلي أوربا وبسعر منخفض, وكان يتلقي المشاركون في تلك الرحلات كتيبا يحتوي علي العديد من المعلومات المفيدة, والتي أصبحت رائدة في كتيبات الرحلات. وفي عام 1872 نظم رحلة حول العالم بطول 40 ألف كم ودامت 222 يوما.
وسرعان ما امتد نشاطه إلي أنحاء أخري في العالم ليصل عمله إلي الولايات المتحدة الأمريكية. ومما عرف عنه في ذلك الوقت أنه كان يقطع في أسفاره أكثر من 50 ألف كم كل سنة, وكون شبكة من الفروع والمكاتب في معظم المدن الشهيرة.
وفي تلك الآونة بدأ اهتمام كوك الخاص بمصر… ففي عام 1868 قام بتنظيم رحلة إلي الأراضي المقدسة في الشام وكانت هذه زيارته الأولي لمصر, ثم قامت شركته بعمل رحلة إلي مصر عام 1869 بمناسبة الاحتفال بافتتاح قناة السويس. ومن هنا عرفت السياحة المعاصرة طريقها إلي مصر وعين جون كوك نجل توماس كوك وكيلآ رسميا للسفر في وادي النيل سنة 1870, وهو الأمر الذي أطلق العنان للرحلات النيلية. وفي عام 1872 افتتح مكتبا لها في فندق شبرد في القاهرة تحت إدارة ابنه جون مايسون كوك. وبعد ذلك بعشر سنوات منحت الحكومة المصرية لعائلة كوك الحقوق الحصرية المؤقتة لتلك الرحلات. ثم أتاح له الإنجليز فرصة لإقامة مشروعاته فأنشأ الفندق الأول في وادي النيل وهو ونثر بالاس بالأقصر, وأكملت شركته بعد موته فندق كتراكت بأسوان 1899, وبحلول سنة 1800 أقامت الشركة أسطولا من البواخر الفاخرة التي بنيت للرحلات علي طول نهر النيل, ثم أصبحت تعرف باسم Cook Canal.
وفي أوائل عهد الاحتلال البريطاني لمصر استعانت السلطات البريطانية بالخبرات الفائقة التي كان يتمتع بها كوك في تنظيم وإدارة حملة السودان الشهيرة خلال 1884 و1885, فقام كوك بتوفير كل ما يلزم لنقل 11 ألف جندي إنجليزي و7آلاف جندي مصري, كما قام بتوفير 800 قارب وأكثر من 60 ألف طن من الفحم الحجري و28 باخرة تسير بين إنجلتراومصر لتنظيم احتياجات الحملة و6آلاف عربة نقل بين الإسكندرية وأسيوط و27 باخرة ظلت تمخر النيل نهارا وليلا و650 مركبا شراعيا بالإضافة إلي 30 ألف طن من المؤن. وقد استعان كوك لإتمام هذا العمل بخمسة آلاف شخص… وكان ذلك بمقياس تلك الفترة عملا إعجازيا.
رحلات كوك النيلية أثارت اهتمام المثقفين في مصر وتصدرت عناوين العديد من الصحف الصادرة بها, فقد نشرت صحيفة المقطم علي لسان أحد محرريها الذي شاء حظه السعيد أن يرافق كوك في إحدي رحلاته إلي جنوب مصر, فكتب أخبار هذه الرحلة في حلقات ظلت تنشر تباعا ما بين أواخر 1890 وأوائل 1891 تحت عنوان رسائل النيل… التي حازت علي إعجاب جميع القراء.
وفي عام 1898 أشرف كوك علي تنظيم الرحلة التاريخية لإمبراطور ألمانيا للأراضي المقدسة في الشام. وفي أعقاب هذه الرحلة تدهورت حالته الصحية فاختار مصر ليقيم بها طلبا للاستشفاء, وفي 11 ديسمبر عام 1898 قام برحلة نيلية بغرض التنزه.. لكنه توفي بعد فترة قصيرة بعد عودته إلي بلاده في الرابع من مارس 1899.
تدين السياحة المعاصرة في مصر لتوماس كوك بالكثير والكثير فهو الذي وضع لبناتها الأولي وغرس بذور ازدهارها.