خلاصة انتخابات الأسبوع الماضي واضحة, لقد حقق الجمهوريون نتائج جيدة. صحيح أن هذه الانتخابات أجريت لملء مناصب متنوعة وأنها تتميز بخصائص محلية ونسبة مشاركة الناخبين فيها ضئيلة, لكننا نلاحظ أن المستقلين, الذين نبذوا الحزب الجمهوري خلال السنوات القليلة الماضية, صوتوا لهذا الحزب بأعداد كبيرة. والنتائج الإجمالية تعكس نزعة مفاجئة في كل أنحاء العالم الغربي, وهي تنامي نفوذ اليمين.
تخيل لو قيل لك قبل خمسة أعوام إن العالم سيشهد أزمة اقتصادية كبيرة, ناتجة بشكل أساسي عن قرارات مصرفيين غير مسئولين, وإن الحكومات ستهب لنجدة الشركات والعائلات, لكنت توقعت علي الأرجح أن اليمين (حزب المصرفيين) سيتضرر من الناحية السياسية, وأن اليسار (حزب البيروقراطيين) سيبلي حسنا, ولكنت مخطئا, فليس الحزب الجمهوري وحده هو الذي حقق نجاحا, فالشهر الماضي, فاز ائتلاف محافظ بمراكز السلطة في ألمانيا, وفي فرنسا يتمتع حزب نيكولا ساركوزي بتأييد شعبي كبير, وفي بريطانيا يوشك المحافظون علي الفوز بالانتخابات الوطنية للمرة الأولي منذ 17 عاما, وحتي في الدنمارك والسويد حيث يفوز الديموقراطيون الاشتراكيون عادة, فإن اليمين هو الذي يحكم. في الحقيقة, هناك بلد كبير وحيد في أوربا يحكمه حزب يساري, ألا وهو إسبانيا.
لماذا؟ يعود السبب جزئيا إلي أنه علي الرغم من الاضطرابات الاقتصادية, فإن قلة من الناس تعتقد جديا أن الحل يكمن في اللجوء إلي الاشتراكية. لكن يجدر أيضا النظر عن كثب إلي الأحزاب المحافظة التي يتنامي نفوذها. فزعيم حزب المحافظين في بريطانيا ديفيد كاميرون يصف نفسه بأنه ##محافظ تقدمي##, وساركوزي يدعو بحدة إلي فرض رقابة أكثر صرامة علي القطاع المالي وحد أقصي علي علاوات المديرين وغير ذلك, وأنجيلا ميركل تدافع بشدة عن نظام السوق الاشتراكية الألمانية. في أوربا, يعتبر اليمين وسطيا بامتياز.
لطالما كانت الولايات المتحدة أكثر تطرفا يمينيا من أوربا, لكن هنا أيضا كانت الوسطية النزعة السائدة. فالجمهوريون الذين فازوا حققوا ذلك من خلال التركيز علي مسائل تقليدية وعلي الانتقادات المعهودة التي غالبا ما يوجهها الحزب الجمهوري لأوباما, فيما يتعلق بالإنفاق والضرائب, فهم لم يتبنوا أفكارا اقتصادية متطرفة أو يشددوا علي تحفظهم في المسائل الاجتماعية, وعندما قاموا بذلك, أثاروا نفور الناخبين, كما حصل في شمال ولاية نيويورك.
أفضل من يجسد الساحة السياسية بعد الحرب الباردة رجلان سياسيان في أوائل تسعينيات القرن الماضي. فقد رأي بيل كلنتون وتوني بلير أن انهيار الشيوعية أدي إلي نشوء واقع جديد, وكانت الهوة الكبيرة بين اليسار واليمين قد تحولت إلي وسطية أقل تطرفا, مع اعتناق الناس فكرة اقتصاد مبني علي الأسواق يتمتع أيضا بشبكة أمان اجتماعية مهمة. لم يكن الناخبون يبحثون عن خطباء إيديولوجيين بل عن الكفاءة. أقنع كلنتون الأمريكيين بالوثوق بالحزب الديموقراطي لإدارة الشئون المالية العامة من خلال إعطاء مناصب النفوذ لتكنوقراطيين أذكياء أمثال روبرت روبن بدلا من السياسيين اليساريين.
وتميزت معالجة باراك أوباما للأزمة المالية بوسطية ذكية مماثلة, فتجاهل الدعوات من اليسار لتأميم البنوك, وتجاهل أيضا انتقادات العلماء بأن الخطة التحفيزية غير شاملة بما يكفي, وتجنب عموما التهجم علي القطاع التجاري, لذا فالجناح اليساري في حزبه غير راض عنه من كل هذه النواحي.
لكن فيما يتعلق بالرعاية الصحية, تبدو المسألة مختلفة. فأمريكا تشهد أزمتين أساسيتين في قطاع الرعاية الصحية, إحداهما تتعلق بالتغطية والأخري بالكلفة. يبدو أن خطة أوباما ستعالج المسألة الأولي لكنها لن تحدث تغييرا في المسألة الثانية. هذا سيئ من الناحية الاقتصادية وسيئ أيضا من الناحية السياسية: فأزمة الكلفة تؤثر علي 85 بالمائة من الأمريكيين في حين أن أزمة التغطية لا تؤثر إلا علي 15 بالمائة منهم. وبالتالي يبدو أن رسالة أوباما إلي البلد هي: ##لدينا نظام رعاية صحية مشوب والتكاليف فيه خارجة عن السيطرة, وما علينا إلا أن نضيف 45 مليون شخص إلي هذا النظام##.
يري الأمريكيون أن قانون الرعاية الصحية صاغته الماكينة الديموقراطية القديمة بدلا من التكنوقراطيين الديموقراطيين الجدد, وهو أشبه بقانون قد يصوغه الرئيس ليندون جونسون وليس لاري سامرز. هذا قد يرضي القواعد الشعبية للحزب, لكنه لن يرضي المستقلين. إذا ارتفعت التكاليف خلال السنوات القليلة المقبلة, سيكون الديموقراطيون قد خسروا سمعتهم التي عملوا جاهدين لاكتسابها بأنهم أكفاء في المسائل الاقتصادية.
عندما نقل كلنتون وبلير حزبيهما إلي الوسط في تسعينيات القرن الماضي, شل المحافظون في البداية, ثم بدأوا يتطرفون يمينيا. (كان عليهم أن يميزوا أنفسهم عن المعارضة). في أوربا, شل اليسار بشكل مماثل أو مال إلي التطرف. لا تزال الأمور تتبلور في أمريكا, لكن خلال السنوات القليلة المقبلة, إذا انتقل الحزب الجمهوري إلي الوسط بشكل حاسم, فقد يواجه أوباما أهم تحد في رئاسته علي الإطلاق.
واشنطن بوست