علم القديس أثناسيوس التعليم الصحيح, وكل ما علم به أثناسيوس كان هو تعليم الكنيسة الأصيل, ومازال هو التعليم الأرثوذكسي السليم, ومع أن القديس أثناسيوس كان في القرن الرابع للميلاد, ولم يكن له ما لنا اليوم من مؤلفات وكتب وتراث وتاريخ طويل, إلا أنه استطاع أن يمتص بروحه تعليم المسيح, من التقليد ومن الكتاب المقدس ومن التراث الذي بلغ إليه, وأمكنه أن يفهمه وأن يعيه ويتمثله وأن يعبر عنه التعبير الصحيح في صيغ وتعبيرات دقيقة كانت أصدق تعبير وأسلم تعبير عن التعليم المسلم من الرسل القديسين.
لقد كان أثناسيوس مستقبلا جيدا للروح القدس, وكان آلة سليمة لإستقبال سليم لإيحاءات الروح القدس, وفي هذا كان أثناسيوس شخصية نادرة. فما أقل الأدوات السليمة التي تكون حقا مستقبلا جيدا لإلهامات الروح القدس وفعاليته, وما أقل الأدوات السليمة التي تستطيع أن تنقل نقلا صادقا للآخرين إلهامات الروح القدس وفعالياته, دون أن تتغير أو تتلون أو تتأثر بمؤثر أو أكثر, من المؤثرات التي تفسد صفاءها وتتلف طبيعتها. فمثل النبي أو الرسول أو المعلم كمثل آلة موسيقية ينفخ فيها موسيقار, فإذا لم تكن هذه الآلة مستقبلا جيدا فلا تستطيع أن تستقبل استقبالا سليما, كل النفثات والأنفاس التي يبعثها الموسيقار بفمه أو بيده, ولا تستطيع بالتالي أن تصدر التغمات بالإهتزازات المناسبة كما يريدها الموسيقار مهما كانت عبقرية هذا الموسيقار ومقدرته. كذلك تكون أهمية النبي أو الرسول أو المعلم في كنيسة المسسيح بالنسبة لعمل الروح القدس فيه أو معه…
بل يمكن أن نشبه النبي أو الرسول أو المعلم بريشة الفنان التي يرسم بها علي لوحة من الورق أو القماش أو علي صفحة حائط أو جدار. كما يمكن أن نشبه النبي أو الرسول أو المعلم بالنسبة للروح القدس, بمثابة الريشة أو القلم الذي يكتب به الكاتب أو الخطاط. فما لم تكن ريشة الفنان أو ريشة الكاتب من نوع جيد مناسب, وكذلك الحبر أو اللون الذي يستخدمه في عمله… فقد تكون هذه الأداة بسبب عدم جودتها, معطلا عن أن تقدم للناس فنا أصيلا جميلا معبرا تعبيرا صادقا, عن روح فنان مبدع قدير كذلك كان أثناسيوس من القلة النادرة من بين البشر, أداة مناسبة وصالحة وجيدة لاستقبال إلهامات الروح القدس وفعالياته, وبالتالي للتعبير عنها للناس بأمانة ودقة وسلامة تامة. لذلك قال عنه بعض القديسين بحق إذا وجدت كلاما لأثناسيوس ولم تجد ورقا فاكتبه علي ثيابك, وهذا تعبير جميل عن مبلغ الثقة التي أحرزها أثناسيوس في كل ما علم به, وكل ما قاله أثناسيوس: كان تعليمه صادقاوأمينا وسليما ومعبرا عن إلهامات الروح القدس, وتعليم المسيح, وتقليد الكنيسة الجامعة الرسولية, وكأن أثناسيوس امتص تعليم المسيح والكنيسة امتصاصا تاما, ولم يتلفه بشئ من عنده, فإذا أخرجه أخرجه تعليم المسيح بعينه بغير أنحراف… وكأن الكنيسة تقمصت أثناسيوس, واتخذت منه أداة ولسانا, أي بلغة أخري كان أثناسيوس لسان الكنيسة الجامعة الرسولية… ومن من القديسين إلا قلة نادرة من استطاع أن يحظي بهذه الثقة وهذه الدرجة من الاندماج في تعليم المسيح والكنيسة!
ومع أننا لا نؤمن أن إنسانا ما, معصوم من الخطأ إلا أننا نؤمن أن الله قد حفظ أثناسيوس برعاية خاصة, فلم يخطأ في تعليم ما علم به… ومع أنه كان كما قلنا في القرن الرابع للميلاد, ولم يكن في زمانه مؤلفات وكتب كهذه الكتب التي في زماننا, إلا أنه استطاع أن يعلم وأن يكون معلما معصوما من الخطأ, ولم يتضح فيما بعد إلي اليوم أنه أخطأ في تعليم أو في تعبير, فكان بحق شاهدا للمسيح, وكان المسيح له المجد هو العاصم له, لأنه وعد بأن أبواب الجحيم لن تقوي علي كنيسته (مت 16:18), وكنيسته وجدت في القديس أثناسيوس من يتقمصها ويتكلم بلسانها, ويعبر عن إيمانها وروحانيتها… فمبارك القديس أثناسيوس الذي كان حارسا أمينا للكنيسة في زمانه, وحافظ للكرم بأمانة تامة ولم ير في نفسه غير خادم مخلص لسيده ووكيل أمين له.
وكان أثناسيوس الرسولي قديسا… وكان بالحقيقة رجل الله البار. كان أثناسيوس شخصية نادرة من شخصيات الآباء القلائل, الذين يصدق عليهم لقب معلم الكنيسة, ومن القلائل الذين يصدق عليهم أنه معلم وقديس معا في وقت واحد.
1- وعلم أثناسيوس علما فريدا من نوعه, ليس من نوع العلم الذي يدرسه الإنسان في الكتب, ولا من ذلك النوع الذي يحصل عليه من المدارس أو المعلمين- مع أن أثناسيوس كان من بين تلاميذ المدرسة لاهوتية بالإسكندرية- ولكنه كان ذلك العلم الذي قال عنه الرسول يوحنا- أنه علم مباشر من الله (1يو2:27), وبعبارة أخري وما نسميه بلة التصويف العلم اللدني,أي العلم الذي هو من لدن الله, البرهان علي ذلك واضح لأنه عل كله حق, وكله صدق, وكله طاهر ومقدس, وليس فيه خطأ أو شر, ولا يمكن أن يكون علما بشريا ذاك العلم الذي كان لأثناسيوس, لأنه لم يكن فيه خطأ أو باطل ثم لأنه كان معبرا, وصادقا في تعبيره, عن إيمان الكنيسة كلها, وعن تعليم المسيح الحق, وقد تبنت علمه كنيسة المسيح باعتباره التعبير الوحيد الصادق عن إيمانها. ثم لأنه مع مرور الزمن, وبعد ستة عشر قرنا لم يتغير رأي الكنيسة في التعليم الذي علم به أثناسيوس, إنه تعليم المسيح والكنيسة, ولو كان علم أثناسيوس من الناس, أو من نفسه… ما كان يمكن أن يبقي تعليمه ثابتا في قيمته وصحته مع مرور الأزمنة. فلم يظهر في تاريخ البشرية الم أو فيلسوف مهما كانت عبقريته, ومهما كان سابقا في تفكيره لزمانه أن يعيش تفكيره ستة عشر قرنا كاملا, ويظل كما هو رأي الكنيسة فيه… بل يزداد إلي اليوم توكيد المسيحية لا في مصر ولا في سوريا ولا في بلاد الشرق, أو في أفريقيا, أو في أوروبا أو في آسيا أو في أمريكا بل في كل العالم المسيحي, إنه التفكير المسيحي بعينه الذي يجمع المسيحيين علي اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وبلادهم, إنه تعليم المسيح, وأنه الصخرة التي أقام المسيح الرب كنيسته عليها, وأن أبواب الجحيم لن تقوي عليها… بل إن الندوة اللاهوتية التي أقيمت في فرنسا- وهي من بلاد الغرب- في سبتمبرسنة 1973, والتي حضرها علماء ولاهوتيون وباحثون, ورجال دين من كل بلاد العالم شرقا وغربا, دليل واضح علي ذلك, وهم بهذا يحيون التفكير اللاهوتي, الذي قدمه القديس أثناسيوس, وبهذا أيضا يدللون علي أن أثناسيوس يجمعهم جميعا كأب كبير لهم جميعا, وكراع صالح يجتمعون تحت عصا رعايته البابوية, علي الرغم من اختلاف مذاهبهم اللاهوتية والكنسية إلي المراعي الخضراء (مز 22:2).
هل كان أثناسيوس فيلسوفا؟ هل كان أثناسيوس مفكرا عبقريا؟! إنه شئ آخر… إنه أعظم من فيلسوف, وأعظم من مفكر… إنه كان من طراز الأنبياء والرسل الذين لم يكونوا إلا بوقا صالحا في يد الكلمة نفخ فيهم بروحه القدوس فنطقوا بما نطقوا به بإلهام الروح القدس, ولم يعرقوا الروح القدس ببشريتهم, فجاء الوحي علي أفواههم صافيا من كل دخل, خاليا من كل شغب, معصوما من كل خطأ… إن عصمة أثناسيوس كعصمة الأنبياء والرسل ليست منهم. إنها من الله وكانوا هم في يديه آنية للكرامة لا آنية للهوان… (رو9:21), (2تيمو2:21).
لذلك حين نقول عن أثناسيوس إنه كان لاهوتيا, فلاهوت أثناسيوس بهذا المعني ليس بالمعني الحديث الذي جري عليه الاصطلاح في الوقت الحاضر. لقد صار اللاهوت في زماننا هو المعرفة العقلية باللاهوت كمحصلة للقراءات, وما يستنبط من القراءات وما يمكن للباحث في العلوم اللاهوتية أن يتواصل إليه من بحثه العلمي والدراسي, ولكن المني الأصيل الذي استخدمت فيه الكلمة يختلف عن هذا المعني الذي انتهت إليه في زماننا, حتي تحول استعمالها, فصارت كلمة ثيولوجي أقرب إلي أيديولوجي, وربما إلي فيلوسوفي (فلسفي). إن هذه الكلمة أطلقت قديما علي القديس يوحنا اللاهوتي كاتب سفر الرؤيا, فلقد كانت له رؤيا إلهية عاين من خلالها أحداث الكنيسة التي ستجري في الوقت القريب والمستقبل البعيد. لقد رأي يوحنا رؤياه وهو في حالة اختطاف عقلي (أع 10:10) وانجذب ذهني وشخوص في الله, وفي هذه الحالة الروحانية السامية إذ كان (في الروح) (رؤ1:10) أشرق علي قلبه نور سماوي فأضاء قلبه وأنار عقله. فالتهب منه القلب واشتعل بالنور المقدس والنار الإلهية نتيجة للتلامس المباشر بينه وبين الله, وبعد ذلك نطق لسانه وكتب قلمه ما رأي وهو في حالة من الإشراق الباطني (أع 11:5), (22:17). هنا يمكن أن يقال بحق عن القديس يوحنا إنه لاهوتي (ثيئولوغوس) لأنه ينطق بالإلهيات التي رآها وتلامس معها, فصار متمتعا بالرؤيا الطوباوية (أع 7:55), (1كو9:15), (غلا1:12). وكذلك قيل عن القديس غريغوريوس النازيانيزي إنه ثيئولوغوس. إن هذا التعبير أطلق علي قلة من آباء الكنيسة, أما اليوم فكل من درس العلوم اللاهوتية وكتب فيها يسمي لاهوتيا, ولكن بمعني بعيد عن المعني القديم الأصيل.
كان أثناسيوس لاهوتيا, وناطقا باللاهوتيات, لا بالمعني الحديث المتداول بل بالمعني القديم الأصيل, المبني علي تلامس مباشر مع الذات الإلهية, وإشراق واضح في القلب نتيجة لهذا التلامس, لذلك كانت أقوال أثناسيوس في الإلهيات أقوال مضيئة بنور من الله أشرق علي قلبه فأضاء وأنار, بل احترق فأنار…