2- كان أثناسيوس قديسا لأنه عاني في سبيل الإيمان أهوالا ومتاعب, واجتاز شدائد وضغوطا عصرته, ولكنها لم تستطع أن تصيب روحه بالجفاف… فصمد أمامها صمودا عجيبا.
لقد عاني أثناسيوس خصومة عنيفة من عدو قوي, لبق وحاذق وذكي هو أريوس… كان أريوس فصيحا وبليغا كما كان مراوغا وماكرا, ونزل أريوس بالقضية اللاهوتية إلي الشارع, وصار يبسطها لعامة الناس وللنساء والأطفال, فأتلفها وأفسدها وشوه الرأي الأرثوذكسي بصورة جعلته يبدو للأكثرية من الناس مستحيلا ومحالا لا يقبله العقل ولا يستسيغه المنطق, كما وضع أريوس ثاليات من قصائد وأناشيد يحبها الناس, وقد حشاها من آرائه الهراطقية الكفرية, وصار الناس يرددونها لحلاوة أنغامها, غير منتبهين إلي هرطقة تعاليمها, وزاد علي ذلك أن انضم إلي أريوس عدد من الكهنة بل من الأساقفة, ونجح أريوس في أن يعين أنصاره في مراكز الكهنوت لكي تصير له الأغلبية المطلوبة. ثم أن أثناسيوس واجه الهرطقة الأريوسية في زمن كانت الوثنية لا تزال تكون الأغلبية الكبري في مصر, وكان الوثنيون يجدون في التفكير الأريوسي ما يريحهم ويتمشي مع منطق فلاسفتهم… بل إن أريوس لم يأت في هرطقته بجديد… إنه تبني الأفكار الوثنية وصاغها صياغة مسيحية… تبني النظرية الوثنية في الاستشراف الإلهي, وفي السلم النازل, وفي أن اللوغوس قد خلق, ليخلق المادة كوسيط بينها وبين الله وقد تبني هذه الأفكار الوثنية, وساق نصوص الكتاب المقدس في تأييدها, مفسرا إياها تفسيرا ملتويا… لم يصنع أريوس جديدا, وهذا هو ماعبر عنه القديس أثناسيوس بقوله إن آراء أريوس آراء وثنية.
هذا إلي أن اليهود كانوا يكونون في مصر جالية ضخمة, وكان لهم فيها نفوذ كبير, ومعروف أن بطليموس فيلادلفيوس حاكم مصر في زمانه أراد أن يكسب ود اليهود بترجمة كتابهم المقدس من العبرية إلي اليونانية, وهي الترجمة التي تمت في القرن الثالث قبل الميلاد سنة 282ق.م, والتي عرفت بالترجمة السبعينية, وهذا وحده بينة علي ما كان لليهود من نفوذ في مصر… وكان لابد لليهود في زمن أثناسيوس وأريوس من أن يكون لهم أثرهم في توجيه الأحداث وتفسيرها… ولابد لهم- وهم لا يؤمنون بالمسيح- من أن ينضموا إلي أريوس ضد أثناسيوس, وأن يعملوا علي تسفيه الفكر الأثناسيوسي وتصويره بأنه تفكير منحرف ضال ويتعارض مع التوحيد.
كذلك الدولة البيزنطية كانت عاملا هاما في زيادة متاعب أثناسيوس. فقد انقلب عليه الإمبراطور قسطنطين الأول من صديق لأثناسيوس ومعجب به وبسلامة إيمانه وقوة حجته, حتي دعاه بطل كنيسة الله, إلي كاره لأثناسيوس وحاقد عليه ومقاوم له, حتي أن أثناسيوس نفي من كرسيه ومن بلده مصر في زمن قسطنطين وفي عهود الإمبراطرة الذين خلفوه خمس مرات, ذاق خلالها تشريدا وتعذبيا. كل هذا ذاقه أثناسيوس حتي صارت كل قوي الشر تضغط عليه بقوة, وتضربه بشدة ضربا متواليا حتي بدا أن العناية الإلهية ذاتها قد تخلت عنه. فكان الإمبراطور الذي يقدره ويحترمه لا يعيش غير بضعة شهور, بينما يطول عهد الإمبراطور الذي يسومه العذاب… ولهذا فإن لقب Athanasius contra Mundum أثناسيوس ضد العالم ما قالوه عن أثناسيوس عبثا, بل قالوه نظرا لما قاساه أثناسيوس من عزلة شديدة, حتي كادت الأريوسية أن تصبح هي المسيحية, وقد صار أثناسيوس في نظر الأغلبية هو الهرطقي والمتمرد والعاق العنيد, والمقاوم للرأي العام المسيحي, بينما صار أريوس في نظرهم بريئا وقديسا… كل هذا عاناه أثناسيوس خمسين سنة متوالية, ستة وأربعين منها قضاها علي الكرسي البطريركي الذي لم يستطع أن يجلس عليه إلا لماما, نظرا لطول مدة نفيه واغترابه واختفائه.
ما أشد ما عاناه أثناسيوس, وما أعنف ما قاساه… لو كان أثناسيوس من حديد لذاب, ولو كان من حجر لتفتت… ولكن أثناسيوس لم يذب ولم يتفتت, بل ظل صامدا قويا كالجبل الأشم… أنه كان أقوي من الحديد, وأصلد من الحجر… لقد كان من معدن أعظم وأثمن… إنها العناية الإلهية التي جعلت من هذا القديس شيئا أقوي من الحديد وأصلد من الحجر… لقد كان كما دعاه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات صخرة, لأن صخرة الدهور (إشعياء 26:2) ربنا يسوع المسيح الضامن والحامي لكنيسته, وقف من ورائه ومعه, وحماه, وظلل عليه ورعاه, وحفظه للكنيسة حاميا وراعيا للإيمان.
3- وكان أثناسيوس قديسا لأنه في كل حياته عاش طاهرا عابدا ناسكا روحانيا, ولقد عاش فترة من حياته كراهب, وعاش البقية الباقية من حياته بتولا عفيفا العفه الكاملة, وعابدا زاهدا طاهرا وقديسا نظير الذي قال كونوا قديسين فإني أنا قدوس (1بط1:16), (اللاويين11:44, 45).
وقد تتلمذ أثناسيوس منذ شبابه المبكر علي القديس أنطونيوس كوكب البرية وأب جميع الرهبان, وكان يتحدث عن الشرف الذي ناله بتلمذته له, وبأنه كان يعيش معه ويصب الماء علي يديه كابن, فامتص منه روح الزهد واحتقار أباطيل العالم, وعرف هدوء الصحراء, واختبر الصمت والسكون وحياة الصلاة بغير انقطاع (1تس 5:7), وكان القديس أثناسيوس حتي وهو بطريرك يختلف في الصحراء ويتردد علي معلمه أنطونيوس, كما صار يعيش مع الرهبان كراهب عابد… وقد كتب في تلك الأوقات بعض ما كتبه وأهمها… وقد ظهر أثر الرهبنة القبطية علي حياته وفي بساطة ملابسه, حتي أنه عندما زار روما وتريف في بلجيكا وغيرها من بلاد الغرب كان الناس, من الإكليروس والشعب, يتعجبون من بساطة ملابسه, وكانوا يسألونه عن ذلك, فكان يقول لهم أنه أخذه عن أستاذه أنطونيوس.
4- قد أثرت هذه الروحانية العميقة في حياة أثناسيوس وفي موقفه من الأريوسية… فلم يكن يتكلم بشر علي الأريوسيين, ولم يحقد عليهم علي الرغم من كل ما صنعوه معه من الشر, وماكالوه له من اتهامات… كان يقول علي الرغم من ذلك كما جاء في رده علي الأريوسية… إن عدونا الحقيقي ليس هو أريوس والأريوسيين إنما هو الشيطان… وهذا تعبير من رجل متألم يدل علي مبلغ روحانيته, وعلي أن كيد الأريوسيين لم يقو علي أن يطرد من قلبه محبته للجميع حتي للأعداء كتعليم معلمه وسيده المسيح الذي قال: أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلي مبغضيكم, وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم (متي 5:44).
ولم يتوان أثناسيوس فيما بعد عن أن يقبل في شركة الكنيسة بعض الأريوسيين والهراطقة عندما أنكروا هرطقتهم, وطلبوا منه أن يقبل توبتهم… علي الرغم من أن بعض الأساقفة والشعب كانوا يتوقعون منه أن يرفضهم ويتشدد معهم…
5- ومن آيات روحانيته, ونتيجة لذلك, كان فيم يعلم به خاصا بتجسد الكلمة, وطبيعة الله, والاتحاد بين اللاهوت والناسوت, يعبر بدقة وأمانة ولكنه أيضا كان يشعر أنه حيث يتحدث عن الله وطبيعته يجب أن يتحدث بحذر كبير وشعور كامل بالاتضاع, عن المعرفة وعن الإحاطة بالموضوع وعن التعبير عنه. فكان دائما كقديس يعبر عن سمو الإلهيات عن إحاطة العقل وإدراك الفهم فكان ومن بعده تلميذه وابنه كيرلس الإسكندري وغيرهم من تلامذته وتلامذة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية, يصفون التجسد بأنه سر Mystery, وأنه يفوق العقل, ويعلو علي الفهم والإدراك والإحاطة, ويند عن التعبير, وما إليها من ألفاظ تنم عن تقوي حقيقية. كذلك فإن التثليث… سر, والفداء سر…, والاتحاد بين اللاهوت والناسوت في المسيح… سر, وكثيرا ما كان يقول في تعليمه عن التجسد ويصف الاتحاد بين اللاهوت والناسوت بأنه اتحاد لا يوصف أو يفوق الوصف أو لا يمكن إحرازه أو لا يعبر عنه أو لا ينطق به أو لا يسبر غوره أو أقدس من أن يذكر… وهذا الاتجاه عند أثناسيوس وكيرلس ورجال مدرسة الإسكندرية اللاهوتية, هو غير ما جري عليه الحال عند تلامذة أنطاكية اللاهوتية, الذين أخضعوا الإلهيات لمنطق العقل, وكانوا يضعون التحديدات والمصطلحات, ويرون فيها قوالب لفظية يصبون فيها المعاني الإلهية السمائية… كان أثناسيوس وتلامذة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية يتغلبون بالتجربة الروحية, علي صعوبة التعبير عن التجسد بألفاظ وتحديات بشرية تحيط بالمعاني اللاهوتية.
6- وكان أثناسيوس لروحانيته يسرح بعقله ويتأمل بقلبه طبيعة الله, وسر التجسد, وسر الفداء, وسر التثليث, وما في كل ذلك من أسرار… ويعبر عن تقواه بتعبيرات روحانية تعبدية… فكانت أقوال أثناسيوس وكتاباته ليست مجرد أبحاث لاهوتية عقلية منطقية, وليست مجرد جدل لاهوتي, يدخل به في خضم الخصومة الفكرية… وإنما فرصة لتأملات روحانية متصوفة تدل علي عمق وعلي التهاب قلبه بالمحبة الإلهية… ولذلك فإن أقوال أثناسيوس وكتابات أثناسيوس تتميز بالإلهيات المصحوبة بالروحانيات والتقويات… فتقرأ في كتاباته اللاهوتية الجدلية ما يغذي روحك وينعش نفسك ويريح قلبك, ويثير فيك مشاعر التقوي والتعبد… تأمل مثلا كلامه عن الفداء… وعن صلب المسيح… وغيرها من قضايا لاهوتية تجد فيها تأملات تقوية وتعبدية كثيرة وعميقة… لا يقوي عليها غير العباد والزهاد والنساك, والمتحدين بالله.
وبالإجمال فإن أثناسيوس كان معلما متميزا بالأمانة والصدق والدقة, وكان قديسا متميزا عقله وقلبه بالروحانية العالية… وهذا يفسر لنا معني آلام أثناسيوس, فإنها ليست من هذه الآلام العادية التي يعانيها العاديون من الناس, بل هي آلام من طراز خاص يظهر فيها اهتمام الشيطان به واشتكاؤه عليه وحربه معه حربا بغير هوادة… هي هذه الآلام التي صهرته وزادته طهارة ونقاء وتحولت جراحاته إلي لآلئ زينت إكليله.
إن أثناسيوس لم يمت شهيدا كما مات الشهيد إسطفانوس, والقديس يعقوب أو بطرس أو بولس أو مارجرجس وغيرهم من الشهداء… ولكنه عاش في كل يوم شهيدا للمسيح. إن حياة أثناسيوس هي حياة شهادة مستمرة… وحتي وقد رحل إلي العالم الآخر, فلا زال يشهد بحياته وكتاباته التي صارت للكنيسة كلها دستورا, وقدوة, ونبراسا, وتعليما, ومنهجا, وكتابا, فهو كما يقول القديس بولس وإن مات فإنه لم يزل يتكلم (رسالة القديس بولس إلي العبرانيين 11:4).