هل مازالت هناك جدوي من الكلام,أم أن أي كلام أصبح مثل النفخ في القربة المثقوبة أو الحرث في الماء الذي لا فائدة منه؟
إن كارثة العدوان الغاشم لصخور المقطم الجبارة علي بيوت الصفيح المتهالكة للدويقة ليست مفاجئة لأحد. بل إن هناك تحذيرات متعددة من حدوثها ومن آثارها المأساوية تعود بعض تقاريرها إلي عام .1994 أي منذ أكثر من أربعة عشر عاما. وهذه التقارير يعود بعضها لجهات علمية رسمية رفيعة المقام. عكفت علي دراسة صخور جبل المقطم و##الفوالق## النشطة والخاملة الموجودة في هذا الجبل. وخرجت بتوصيات محددة سلمتها علي ##سركي## إلي الجهات الحكومية المسئولة في الإدارة. وكالعادة مارست هذه البيروقراطية المصرية المتغطرسة عادتها المفضلة وركنت تلك التقارير بتوصياتها. علي الرف: تاركة ##الناس اللي تحت##, الذين أجبرتهم علي سكني هذا السفح الموحش قسوة الحياة وتغول رأسمالية جديدة بلا قلب وبلا رؤية تاريخية أو ضمير اجتماعي. بينها وبين نموذج طلعت حرب مسافة سنوات ضوئية.
وكالعادة أيضا لم يتورع البعض- بعد أن وقعت الفأس في الرأس وحدث ما حذرتنا منه تقارير جهات علمية محترمة- لم يتورع هؤلاء عن ##لوم الضحية##. وتحميلهم مسئولية موتهم وموت ذويهم وخراب بيوتهم البائسة أصلا,فما الذي جعلهم يسكنون هذه المنطقة؟ وما الذي جعلهم يخالفون القانون ويبنون تلك العشش غير الآدمية في سفح الجبل؟ ولماذا لم يهجروها عندما رأوا بوادر الخطر؟
وهذه كلها أسئلة استفزارية تنم عن غطرسة. بل ووحشية. فما دفع هؤلاء ##المواطنين## إلي تجرع ##المر## هو ##الذي أكثر مرارة منه##. فهؤلاء لم يكن أمامهم ##خيارات##. بل كانت الضرورة هي التي دفعتهم إلي سكني القبور والرضي بالموت الاجتماعي بصحبة شواهدها. مثلما دفعت أكثر من 12 مليون مصري إلي العيش فيما يقرب من ألف عشوائية. أي أن سكان العشوائيات يزيد عددهم علي عدد سكان دول الخليج مجتمعة أو ثلاثة أضعاف سكان دولة مثل لبنان.
ويتناسي من يلومون الضحية أن حق الحصول علي مسكن آدمي هو أحد حقوق الإنسان. وأحد الواجبات الرئيسية للدولة.
وبالتالي فإن تكاثر العشوائيات بهذه الصورة المخيفة. التي أصبحت تمثل حزاما للفقر والفقراء حول العاصمة ومعظم المدن المصرية. يعبر عن خلل جوهري في سياسات الإسكان التي تبنتها الحكومات المتعاقبة.
ومن المفارقات المثيرة للعجب أن الكارثة الأخيرة وقعت في منطقة تدخل في نطاق الدائرة الانتخابية للدكتور محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق,لكن الوزير لم يفعل شيئا لأولئك المواطنين الغلابة الذين يفترض أنه يمثلهم,كما يفترض أن أصواتهم هي التي أوصلته إلي كرسي البرلمان.
ومع ذلك فإنه لا هو ولا سلفه ولا خلفه من وزراء الإسكان فعلوا شيئا لإنقاذ ملايين من المواطنين المصريين الذين يعيشون في هذه العشوائيات. وبدلا من وضع خطة طويلة المدي لإزالة هذه الوصمة تم التوسع في إنشاء ##مستوطنات## للقصور الفاخرة والشاليهات السوبر لوكس والمنتجعات التي تتضاءل أمامها مثيلاتها في الريفييرا.
حتي هضبة المقطم التي سقطت بعض صخورها لتقتل عشرات الغلابة وتدفن تحت الأنقاض أعدادا لا يستطيع أحد إحصاءها إلي الآن علي وجه اليقين. تشهد هي الأخري استعدادات تجري علي قدم وساق لإنشاء مستوطنة من هذا القبيل.
وكالعادة كذلك لم يعد هناك معني للمطالبة بالمحاسبة الجنائية والسياسية عن هذه الكارثة,فالمصائب التي جرت قبل كارثة الدويقة كانت الواحدة منها كفيلة بالإطاحة بالحكومة بأسرها,لكن شيئا لم يحدث وكان التبرير هو سيد الموقف. كما كانت المسكنات الوقتية هي الروشتة المعتمدة مصحوبة بتعويض لايزيد علي بضعة آلاف لأهالي الموتي وآلاف أقل للمصابين,مع وعود بوضع خطة لحل المشاكل في أجل غير مسمي أو ##حين ميسرة##!
وبالمناسبة ولأن الشيء بالشيء يذكر.. فلعلكم تذكرون أن المخرج خالد يوسف تعرض لهجوم عنيف,بسبب فيلم ##حين ميسرة## الذي كان بطله هو العشوائيات وعالمه غير الآدمي,وقال البعض إنه لجأ إلي المبالغة والتهويل
الآن.. يبدو أن خالد يوسف كان رحيما في تناوله لهذا العالم السفلي. وأن الحقيقة أكثر بشاعة من الصورة القبيحة التي سجلها الفيلم.
فهل مازالت هناك جدوي من الكلام,والمطالبة بمحاسبة المسئولين عن هذه الكارثة واستئصال الأسباب التي كانت سببا في وقوعها, أم أن أي كلام أصبح كنفث الدخان في الهواء؟!