نشر د. أحمد فتحي سرور, رئيس مجلس الشعب المصري بحثا في عدد مارس 2009 من مجلة المجلس الفصلية, تحت عنوان العلاقة بين حرية التعبير وحرية العقيدة. وقد نشر ملخصا للبحث في جريدة الحياة (14 مايو) وملخصا أطول في الأهرام (20و21 مايو).
البحث يستحق الكثير من التعليق, لكننا سنقتصر هنا علي الجزء الأخير منه, حيث يتطرق لموضوع مهم هو تأثير الانتماء الديني للدولة علي التوازن بين حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية, فيستهله بالقول:
ترسي بعض الدساتير في الدول الديموقراطية انتماء دينيا للدولة. ومن قبيل ذلك الدستور اليوناني فقد نص فـي المادة 3-1علي أن الديانة السائدة في اليونان هي ديانة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية للمسيح, أما الدستور النرويجـي فقـد نص فـي مادتـه الثانية علـي أن الديانـة الإنجيلية اللوثرية هي الديانة الرسمية للدولة. ونص الدستور المصري علي أن الإسلام دين الدولة, وأخذت بذلك بعض الدساتير العربية (دولة الإمارات, والبحرين, والصومال والكويت وعمان وقطر والعراق).
وحسنا فعل د. سرور بتوضيح أن النص الدستوري اليوناني لا يعني سوي إعلان حالة واقعية, حيث ذهب الفقه إلي أن الانتماء الديني المنصوص عليه في الدستور هو مجرد إعلان عن الديانة السائدة دون أي آثار قانونية تبرر وضع قيود علي حرية التعبير من أجل إعطاء تفوق للديانة السائدة, وذلك لأن الدستور اليوناني قد كفل بوضوح لكل فرد الحرية الدينية بالمعني الواسع أي حرية الاعتقاد الديني_ وحرية إعطاء الطائفة الدينية ممارسة شعائرها دون عائق (المادة 13-1 من الدستور).
لكنه يقتنص فرصة, يتصور أنها ذهبية, لوجود نص حول دين الدولة في بلد مثل النرويج, متجاهلا تماما أن هذه حالة استثنائية نادرة بين دول العالم المتحضر, وأن هناك جذور تاريخية لذلك النص (علي خلفية الحروب الدينية في العصور الوسطي, وكيف أصبحت النرويج إنجيلية لوثرية وليس كاثوليكية أو غيرها), ويتجاهل أن النص شكلي تماما ولا يؤثر إطلاقا ـ قانونيا وواقعيا ـ علي الحريات أو علي القوانين في النرويج. ثم يحاول بعد ذلك الاستشهاد بمجموعة دساتير عربية وكأن في هذا دليل وسند علي صحة ما تفعله مصر.
ثم يعود إلي الدستور المصري, فيقول إن [النص علي الديانة الرسمية للدولة في المادة (2) منه يكمله نص المادة 64 التي نصت علي حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية. وقد أكدت المحكمة العليا أن المشرع قد التزم في جميع الدساتير المصرية مبدأ حرية العقيدة, وحرية إقامة الشعائر الدينية باعتبارهما من الأصول الدستورية الثابتة المستقرة في كل بلد متحضر, فلكل إنسان أن يؤمن بما يشاء من الأديان والعقائد التي يطمئن إليها ضميره, وتسكن إليها نفسه, ولا سبيل لأية سلطة عليه فيما يدين به في قرارة نفسه وأعماق وجدانه.
وجميل أن يذكر تأكيد المحكمة الدستورية علي بعض الأصول الدستورية المستقرة في كل بلد متحضر ـ لكن السؤال هو: لماذا لا تطبق هذه الأصول الدستورية المستقرة في مصر, بل تخضع في تطبيقها لمادة أخري (م2) مناقضة في معناها وآثارها, ولماذا يسود التناقض بين بعض نصوص الدستور والبعض الآخر, ولماذا لا تجد النصوص المتحضرة مكانا لها في الواقع؟
***
وبعد التهوين من شأن النص الدستوري حول دين الدولة في مصر وأثره علي الواقع, ينتقل د. سرور إلي [مغزي نص المادة 2 من الدستور المصري علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع] ويذكرنا بوجود نصوص (شبيهة) في [دساتير الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر, علي أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع, وفي الدستور السوداني علي أن تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التي تسن علي المستوي القومي وتطبق علي ولايات شمال السودان, وفي الدستور السوري علي أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع, وفي الدستور العماني علي أن الشريعة الإسلامية هي أساس التشريع, وفي الدستور العراقي علي أنه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام].
وهكذا نجد أنه ليس فقط يتجاهل كون النص علي اتخاذ شريعة دينية كمصدر للتشريع هو أمر لا وجود له خارج دائرة محدودة من الدول الإسلامية, بل يحاول الاستشهاد بعدد من الدول الشقيقة كسند ومبرر لوجوده في دستور مصر, ويتجاهل أن معظم البلاد المذكورة حديثة العهد بالدساتير, ويتجاهل بقية ما ذكر في دستور العراق, إضافة لما اقتبسه, من أنه [لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور] (وهي المبنية علي مواثيق حقوق الإنسان), كما يتجاهل أن عددا من الدول العربية (مثل تونس والمغرب والجزائر وليبيا ولبنان والأردن) لا يوجد بدساتيرها ذكر لمرجعية الشريعة, ويتجاهل أن كثيرا من الدول الإسلامية غير العربية مثل تركيا وأوزبكستان والسنغال ومالي وكوت ديفوار وإندونيسيا (حيث يعيش حوالي ربع مسلمي العالم) ليس فقط لا تذكر الشريعة في دساتيرها, بل تنص علي العلمانية أو لا تنص علي دين للدولة; وأخيرا يتجاهل أن بين الأمثلة التي ذكرها, هناك دول تنص دساتيرها علي الشريعة كمصدر أو كمصدر رئيسي, برغم كون غالبية سكانها مسلمين (بنسبة تصل إلي99%); بينما مصر أضافت الألف واللام لـ مصدر, جاعلة الشريعة ـ علي حد تفسير المحكمة الدستورية ـ واقعيا المصدر الوحيد.
***
ثم يقترب د. سرور من منطقة التناقض بين اتخاذ شريعة دينية كمصدر للتشريع والحريات, فيقول [علي أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية لها طابع ديني لاشك فيه, باعتبارها جوهر الدين الإسلامي, إلا أنها تستقل عن الطابع العقائدي الديني الأصيل في أنها نظام تشريعي. ولهذا كان من المتصور أن تطبق الشريعة الإسلامية في مجتمع غير إسلامي, أو في المجتمع الإسلامي علي غير المسلمين من أفراده, وعلي الأجانب الذين يوجدون علي أرضه, بالنظر إلي طابعها الحضاري وسندها المنطقي وقيمها الاجتماعية دون إخلال بمبدأ حرية العقيدة الدينية].
وهنا نجده مضطرا للجوء إلي منطق عجيب وفريد لم يدرسه, بل لم يسمع بقواعده, أحد: فمع اعترافه بأن الشريعة الإسلامية لها طابع ديني لا شك فيه باعتبارها جوهر الدين الإسلامي إلا أنه يقفز علي تلك المقدمات الواضحة ليصل إلي نتائج عكسية, ويري إمكانية تطبيق الشريعة حتي في مجتمع غير إسلامي.
***
عندما تذكر الدساتير مباديء لها, فإنها, كما قلنا, تنص عليها بوضوح وبصورة مباشرة, ولكن دستورنا لا يفعل. والمحاكم الدستورية, لا تكتب الدستور ولا تبرره, بل ينحصر دورها في توضيح وإرساء المباديء الدستورية وفي تأصيل القوانين دستوريا. وفي هذا الصدد فقد [عنيت المحكمة الدستورية العليا (المصرية) بتحديد المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية, بأنها الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها, باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعا, ومن غير المتصور أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان (دستورية عليا في 19-12-2004 القضية رقم 119). أما الاجتهاد فتنحصر دائرته في الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا (دستورية عليا في 3-5-1955 القضية رقم 18)].
نلاحظ أنه برغم هذا الكلام الجلي, لا يتردد د. سرور في أن يفتي لنا بأن الشريعة الإسلامية هي نظام تشريعي مستقل عن الدين (!!). ونلاحظ أن المحكمة الدستورية بتحديد المقصود بمبادئ الشريعة قد حصرت دائرة النقاش بعض الشئ لكنها أحجمت عن تفصيل ماهية تلك المبادئ (أو الأحكام القطعية).
وهنا من حقنا التساؤل: في غياب نصوص واضحة في بنيان الدستور نفسه, من ياتري الذي يحدد ما هو قطعي الثبوت والدلالة في تلك الأحكام الشرعية بخلاف رجال الدين وعلمائه وخبرائه؟ أليست هذه إذن الدولة الثيوقراطية بشكلها وجوهرها وحذافيرها؟ (تعريف الدولة الثيوقراطية: دولة ذات مرجعية دينية; أي تسعي إلي تحقيق (ما تعتقد, أو تزعم أنه) أوامر إلهية تصبح إطارا محددا تتقيد وتتكبل بداخله أسس وحركة المجتمع).
ونتساءل أيضا: ماذا يحدث إذا كانت هناك أحكام شرعية قطعية تتناقض نصا وروحا مع مباديء حقوق الإنسان العالمية ـ أو حتي مع بعض نصوص نفس الدستور؟؟ أليست هناك نصوص قطعية حول عدم مساواة المرأة بالرجل ونصوص قطعية حول عدم مساواة المؤمن بغير المؤمن وكيفية التعامل مع أهل الذمة, ونصوص حول الحدود وتطبيقها, ونصوص حول الاسترقاق, ونصوص حول الجهاد ضد الكفار إلخ إلخ؟ ما العمل بشأنها يا تري؟؟ وهل ننتظر اختلاف الفقهاء (الذي فيه رحمة) لكي يمن القدر علينا بالرفق في تطبيقها؟
***
ثم يصل د. سرور إلي نهاية المطاف فيقول: [وغني عن البيان أن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع لا يخل بواجب الدولة في كفالة حرية العقيدة الدينية بالنسبة إلي العقائد الدينية الأخري].
وهكذا, وفي حركة التفاف غير بارعة علي الإطلاق, يتحفنا د. سرور إذ يري أمرا غنيا عن البيان بينما هو محض استنتاج يناقض المقدمات; إذ كيف يمكن اعتبار الالتزام بشريعة دينية وفرض قواعدها وأحكامها علي الجميع أمرا لا يخل بالحرية الدينية؟
***
[email protected]