لقد هبطت نسبة المسيحيين المتدينين بمقدار 10 نقاط في العـقـدين الماضيين. فكيف تفسر هذه النسبة الإحصائية هويتـنا الآن وما الذي سنصبح عليه كأمة##1##.
كانت إشارة بسيطة, نقطة مقارنة مدفونة في ثنايا الفقرة الخامسة في الصفحة 17 من التقرير الموجز المتكون من 24 صفحة حول الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية لعام .2009
ولكن وفقا لقراءة آر ألبرت مولر جي آر رئيس المعهد اللاهوتي المعمداني الجنوبي, وهو واحد من أكبر المعاهد من نوعه علي وجه الأرض وفقا لقراءته للوثيقة بعد إطلاقها في شهر مارس, فقد صعقته جملة واحدة فقط.
فبالنسبة لمؤمن مثل مولر وهو المسيحي المحافظ والمتشدد, والمتشبع بلاهوت عقيدته, والمكرس لتكوين كهنة يبشرون بعصمة إنجيل يسوع المسيح بوصفه السبيل الوحيد لنيل الحياة الأبدية كان الخبر الرئيسي مثيرا للإزعاج بما فيه الكفاية: فعدد الأمريكان غير المنتمين دينيا قد تـضاعف تقريبا منذ عام 1990, حيث ارتفع من 8 إلي 15 في المائة.
ثم جاءت النقطة التي لم يتمكن من إزاحتها من ذهنه: بينما كان غير المنتمين يتركزون تاريخيا في الشمال الغربي المطل علي المحيط الهادئ, قال التقرير: ##لقد تغير هذا النمط الآن, فظهر الشمال الشرقي عام 2008 معقلا جديدا لغير المنتمين دينيا##. ووفقا لرأي مولر, فالأساس التاريخي للثقافة الدينية في أمريكا آخذ بالتصدع.
قال لي في الأسبوع الماضي: ##لقد صدمني ذلك حقا##, ثم أضاف: ##لم يكن الشمال الغربي متدينا ومنتظما في الكنيسة بقدر الشمال الشرقي الذي كان أساس وموطن الديانة الأمريكية; لقد صعقني فقدان نيو إنجلند لأنه أمر خطير##.
وبعدما قلب مولر التقرير في ذهنه, نشر عمودا يائسا علي الإنترنت ليلة أسبوع الآلام يندب فيه ذلك الهبوط- وضمنيا, السقوط الوشيك- لأميركا التي تشكلت وتلونت بالمسيحية.
فكتب قائلا: ##لقد حدث حولنا تحول ثقافي كبير##. ثم أردف: ##لقد تغيرت الخطوط الأساسية للثقافة الأمريكية تغيرا جذريا; فذلك الإجماع اليهودي المسيحي المعروف في الألفية الماضية قد تنحي لتحل محله أزمة ثقافية ما بعد حداثية وما بعد مسيحية وما بعد غربية تهدد قلب ثقافتنا##.
وعندما تحدثت مع مولر في الأيام التي تلت كتابته لتلك السطور, كانت كآبته قد ازدادت أكثر, ومن مكتبه في المعهد في لويزفيل كنتكي, قال: ##من الواضح أن هناك حكاية جديدة, حكاية ما بعد مسيحية, تحرك جانبا كبيرا من هذا المجتمع##.
تلك هي المسألة, مصطلح قديم بمطالب جديدة: ما بعد المسيحية. هذا لا يعني أن نقول إن الإله المسيحي قد مات, بل إن قوته في السياسة والثقافة الأمريكيتين قد تدنت عما كانت عليه في أي حقبة من الذاكرة السابقة.
ولدهشة الليبراليين الذين يخشون قدوم ثيوقراطية إنجيلية, ولخيبة المحافظين المتدينين الذين يتوقون لرؤية عقيدتهم بادية بشكل أكبر في الحياة العامة, فإن المسيحيين يشكلون الآن نسبة متناقصة بين الأمريكيين.
واستنادا إلي الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية التي لفتت انتباه مولر فإن نسبة المسيحيين المتدينين قد هبطت بمقدار 10 نقاط في المائة منذ عام 1990, من 86 إلي 76 في المائة. نسبة اليهود هي 1.2 في المائة ونسبة المسلمين هي 0.6 في المائة.
وقد ردد استفتاء منتدي بيو Pew Forum المستقل النتائج التي توصلت إليها الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية, حيث ذكر أن نسبة الذين يقولون أنهم غير منتمين لأية عقيدة محددة قد تضاعفت في السنين الأخيرة إلي 16 في المائة.
ومن ناحية التصويت, فقد تنامت هذه الفئة من 5 في المائة عام 1988 إلي 12 في المائة عام 2008, وهي تقريبا ذات نسبة جمهور الناخبين من الأمريكان الأفارقة, ##خمس وسبعون في المائة من الناخبين غير المنتمين اختاروا باراك أوباما, وهو مسيحي##.
وفي الوقت نفسه فإن عدد الراغبين في وصف أنفسهم كملحدين أو لاأدريين قد ازداد حوالي أربعة أضعاف من عام 1990 حتي عام 2009 وذلك من مليون واحد إلي 3.6 مليون تقريبا. ##وذلك حوالي ضعف عدد الأسقفيين البروتستانت في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا.##
وبينما نبقي أمة تتشكل بالعقيدة الدينية علي نحو حاسم, إلا أن سياستنا وثقافتنا في الأغلب أقل تأثرا بحركات ومناظرات ذات صفة مسيحية واضحة مما كانت عليه حتي قبل خمس سنوات.
وأنا أري أن هذا أمر جيد- جيد لثقافتنا السياسية التي, كما رآها المؤسسون الأمريكان, معقدة ومشحونة بما فيه الكفاية بدون محاولة فرض العقيدة الدينية أو الإلتزام الديني.
وهو أمر جيد للمسيحية كذلك, من حيث أن العديد من المسيحيين يعيدون اكتشاف فضائل الفصل بين الكنيسة والدولة, ذلك الفصل الذي يحمي ما أطلق عليه روجر وليمز, مؤسس جزيرة رود لتكون ملاذا للمنشقين الدينيين, اسم ##حديقة الكنيسة## في ##برية العالم##.
وعلي الرغم من أن الدين كان وما يزال أمرا حاسما في حياة البلاد, إلا أن القوة التي توحد أميركا لم تكن عقيدة محددة أبدا, بل الإلتزام بالحرية- وليس أقلها حرية الضمير. فنحن في أحسن أحوالنا لا نفرد الدين لمساعدة معينة ولا لأذي معين, فلطالما كنا نعامل المناظرات القائمة علي أساس العقيدة بوصفها عنصرا واحدا من بين عناصر عدة في مجال المناقشة والقرار.
إن إضمحلال وسقوط فكرة الحقوق الدينية الحديثة في أميركا المسيحية يخلقان بيئة سياسية أكثر هدوءا وقد يساعدان, كما يري العديد من المؤمنين, علي فتح الباب أمام حياة دينية أكثر جدية من الناحية اللاهوتية.
لنكن واضحين: بينما قد تكون نسبة المسيحيين آخذة في الإنكماش, فإن الإشاعات التي تدور حول موت المسيحية مبالغ فيها جدا. فإذا كانت أميركا أقل مسيحية فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها ما بعد مسيحية. فثلث الأمريكان يقولون إنهم يولدون مرة أخري.
إن هذه النسبة, بالإضافة إلي هبوط المعتدلين سياسيا وتحولهم إلي بروتستانت ليبراليين متشددين, جعل واضعي الدراسة الاستطلاعية للهوية الدينية الأمريكية يلاحظون بأن ##هذه الإتجاهات… توحي بالإنتقال إلي عقائد محافظة أكثر ولا سيما إلي نظرة أكثر ##إنجيلية## فيما بين المسيحيين##.
ومع الأعداد المتزايدة من المهاجرين الهسبانيين المناصرين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أميركا, ومع شيوع المؤمنين بعيد العنصرة, ومع البيئة المسيحية سريعة النمو في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم, فما من شك في بقاء الأمة متدينة بشكل كبير- أكثر من أوروبا علي سبيل المثال.
ومع ذلك, وفي استفتاء نيوزويك الجديد, فإن عدد الذين ينظرون للولايات المتحدة الأمريكية الآن علي أنها ##أمة مسيحية## أقل مما كانوا عليه عندما كان جورج دبليو بوش رئيسا ##62 في المائة عام 2009 مقابل 69 في المائة عام 2008##.
ويقول ثلثا العامة ##69 في المائة## الآن بأن الدين ##يفقد نفوذه## في المجتمع الأمريكي, بينما يقول 19 في المائة فقط بأن نفوذ الدين يتزايد. أما نسبة الأمريكان الذين يعتقدون بأن الدين ##يستطيع الإجابة عن جميع أو معظم مسائل اليوم## فهي منخفضة حاليا بشكل تاريخي بحيث تدنت إلي 48 في المائة; وكانت هذه النسبة في فترة حكم بوش 43 في المائة, أما في سني حكم كلنتون فإنها لم تنزل أدني من 58 في المائة.
يري العديد من المسيحيين المحافظين أنهم قد خسروا المعارك حول قضايا مثل الإجهاض وأداء الصلوات في المدارس وحتي زواج المثليين, وأن البلاد قد دخلت الآن مرحلة ما بعد المسيحية. لقد كتب كرستوفر هتشنز- أحد أصدقائي وربما كان المحرض الأكثر سحرا من بين الذين تقابلهم في حياتك- كراسة حول الإلحاد نالت شعبية واسعة قبل بضع سنوات, عنوانها ##الله ليس عظيما##.
وبما أنني عضو ملتزم في الكنيسة الأسقفية البروتستانتية ##حتي لو كان لدي الكثير من الأخطاء## فإنني أختلف مع العديد من مناظرات هتشنز- لا أظن من الأمور المجدية أن نلغي الإعتقاد الديني علي أنه خاطئ ومليء بالخرافات- غير أنه رجل ذو نزاهة علمية شديدة, ذكر أنه, في رحلة إلي تكساس قام بها مؤخرا, سمع غمغمات إنجيلية حول ظهور أميركا ##ما بعد المسيحية####2##.
تعددت معاني ما بعد المسيحية في الأزمنة المختلفة; ففي عام 1886 أطلقت مجلة ##ذي أتلانتك منثلي## علي جورج إليوت صفة ما بعد المسيحية, حيث استعملت المصطلح كمرادف للإلحاد أو اللاأدرية.
أما التعريف الأعرض- والأكثر ارتباطا بأغراضنا في هذا المقال- فهو أن ##ما بعد المسيحية## تصف فترة زمنية تعقب هبوط أهمية المسيحية في منطقة ما أو في مجتمع ما. وقد ظهر هذا الاستعمال للعبارة للمرة الأولي في كتاب ##أميركا المحررة## للفيلسوف الألماني هيرمان كيزرلنج عام .1929
وقد شاع استعمال المصطلح في أثناء ما يصطلح العلماء علي تسميته بحركة ##موت الله## في أواسط ستينات القرن العشرين- وهي حركة ما تزال قائمة. فبناء علي إعلان نيتشة في القرن التاسع عشر بأن ##الله قد مات##, رأت مجموعة من اللاهوتيين البروتستانت بأنه ينبغي علي المسيحية البقاء علي قيد الحياة بشكل أساسي من دون المفهوم الأرثوذوكسي لله. وكان توم ألتيزر, وهو بروفسور الأديان في جامعة إيموري, عضوا أساسيا في حركة المسيحية بلا إله, وهو يعيد جذورها الفكرية إلي كيركيجارد أولا ومن ثم إلي نيتشة.
ويري ألتيزر أن العصر ما بعد المسيحي تكون فيه ##المسيحية والدين ذاته متحررين من أسسهما التاريخية السابقة##. وفي عام 1992 نشر الناقد هارولد بلوم كتابا بعنوان ##الدين الأمريكي: ظهور الأمة ما بعد المسيحية## الذي يورد فيه تعريف وليم جيمس للدين في ##أنواع التجربة الدينية##: ##الدين… يجب أن يعني بالنسبة لنا مشاعر وأفعال وخبرات الأفراد في عزلتهم بقدر ما يعون أنفسهم فيما يتعلق بكل ما يرونه مقدسا##.
هذا بالتحديد هو ما يزعج مولر أكثر من أي شيء آخر. لقد قال لي: ##حكاية ما بعد المسيحية مختلفة اختلافا جذريا, إنها تعرض علينا الأمور الروحية, أيا كان تعريفها, ولكن بدون سلطة ملزمة##. وأضاف: ##إنها تقوم علي فهم للتاريخ يفترض ماضيا أقل تسامحا ومستقبلا أكثر تسامحا, مع اعتبار الحاضر خطوة إنتقالية هامة##.
فالحاضر بهذا المعني متعلق بولادة آلهة متعددة أكثر من تعلقه بموت الله. إن الأعداد المتزايدة من الأمريكان غير المنتمين دينيا تشير إلي أناس يميلون لوصف أنفسهم بـ##الروحانيين## أكثر من ميلهم لوصفها بـ##المتدينين##. ##في استفتاء نيوزويك الجديد وصف 30 في المائة أنفسهم علي هذه الشاكلة حيث صعدت النسبة من 24 في المائة عام .2005##
وإذا وضعنا الحكاية المسيحية بشكل تقريبي فإنها قصة البشرية وفقا لتسلسلها الزمني في الكتاب المقدس العبراني وفي العهد الجديد- أي دراما الخلق والسقوط والخلاص. يميل الأورثوذكس إلي محاولة عيش حياتهم وفقا للمبادئ السلوكية العامة للكتاب المقدس ##أو علي الأقل, المبادئ التي يجدونها هناك ويستحسنونها## والمشاركة في الحكم النهائي لله الحكم الذي يمكن أن يقرر فيما إذا كانوا سيقضون الحياة الأبدية في الجنة أم الجحيم.
فما معني الحديث إذن عن ##أميركا مسيحية##؟ لطالما اعتقد المسيحيون الإنجيليون بأن الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تبقي أمة تقوم حياتها السياسية علي تأويل مبادئ الكتاب المقدس والمبادئ اللاهوتية وتكون محكومة بهذه المبادئ.
فإذا عدت الكنيسة الشرب خطيئة, علي سبيل المثال, عندئذ يجب علي قوانين الولاية أن تحظر استهلاك الكحول. وإذا رأت الكنيسة أن نظرية النشوء تتناقض مع القراءة الحرفية لسفر التكوين, عندئذ يجب علي المدارس العامة أن تكيف دروسها وفقا لذلك.
وإذا رأت الكنيسة أنه يجب حظر الإجهاض, عندئذ يجب علي المجالس التشريعية والمحاكم أن تحذو حذوها. إن شدة الشعور بالمدي الذي يجب أن تكون عليه الأمة مسيحية قد إنحسر وارتفع منذ جيمستاون.
فلا جديد تحت الشمس كما يقول الكتاب المقدس. ولمدة تزيد علي 40 سنة فإن النقاش الذي اتدأ مع قرار المحكمة العليا بإنهاء الأداء الإلزامي للصلوات في المدارس عام 1962 ##والذي اداد مع قرار ##رو ضد ويد## ##2## Roe v. Wade بعد 11 سنة## قد لا يكون جديدا, غير أنه كان بالغ الشدة.
وخشية ظهور دولة علمانية شبيهة بأوروبا فإن اليمين كان يتوق إلي تصميم عودة إلي ما يراه أميركا المسيحية في الأيام الخوالي.
غير أن المشروع فشل, علي الأقل في الوقت الحاضر. ففي تكساس قررت السلطات الإنحياز إلي العلم, وليس اللاهوت, في النزاع حول تدريس نظرية النشوء. كما أن الأوقات العصيبة اقتصاديا لم تؤد إلي زيادة الذهاب إلي الكنائس.
ويوم الجمعة الماضية قضت المحكمة العليا في ولاية آيوا ضد حظر زواج المثليين, وهذا يعد هزيمة للمحافظين الدينيين. هذه الأدلة هي التي جعلت المؤمنين يغتاظون من إمكانية قدوم عصر تهيمن عليه علمانية جديدة قوية. يقول مولر: ##إن التعاليم الأخلاقية للمسيحية قد مارست نفوذا كبيرا علي الحضارة الغربية##.
ويضيف: ##ومع تلاشي تلك التعاليم الأخلاقية من الذاكرة الثقافية فإن أخلاقيات معلمنة تحل محلها. وإذا هجرت نسبة كبيرة من السكان الديانة المسيحية فلا بد أن يتغير الوضع الأخلاقي العام.
وفي معظم القرن العشرين قادت أمم أوروبا الغربية الركب في ترك الإلتزامات المسيحية. وقد فسحت الأفعال الإنعكاسية والمبادئ الأخلاقية المسيحية المجال أمام تراخي قبضة الذاكرة المسيحية. أما الآن فحتي تلك الذاكرة المسيحية غائبة من حياة الملايين##.
ومن ناحية أخري, فلطالما كان الشك والتنوع الدينيين أمرين أمريكيين أساسا. قال أليكسز دو توكفيل بأن ##الجو الديني للبلاد كان أول ما لفت انتباهي عند وصولي الولايات المتحدة الأمريكية##.
ولكنه اكتشف كذلك ##عمقا كبيرا من الشك واللامبالاة## بالعقيدة. وقد التقط جيفرسون مسبقا جوهر الروح الأمريكية بشأن الدين وذلك عندما لاحظ بأن قانونه الخاص بالحرية الدينية في فرجينيا كان ##المقصود منه أن يستوعب, تحت عباءة حمايته, اليهودي وغير اليهودي, المسيحي والمسلم, الهندوسي وغير المؤمن من كل الطوائف##- وأولئك الذين ليست لهم أية عقيدة كانت.
لقد ساعدت الثقافة الأمريكة الخاصة بالحرية الدينية علي خلق سوق حرة مزدحمة للأديان: بالتوقف عن تأييد الكنائس, فإن الأمة جعلت الدين أكثر شيوعا, وليس أقل شيوعا.
إذن, أميركا ليست مجتمعا ما بعد ديني- ولا يمكن أن تكون كذلك طالما كان فيها ناس, وذلك لأن الإيمان حس إنساني فطري. إن الإيمان بنظام أو بحقيقة ما وراء الزمان والمكان أمر قديم وباق. فقد قال هوميروس: ##كل الناس يحتاجون الآلهة##.
غير أن السؤال السياسي والثقافي الجوهري هو إلي أي مدي ينبغي علي أولئك الآلهة- أو بشكل أدق, فهم جيل معين لأولئك الآلهة- تحديد طبيعة الحياة في زمان ومكان محددين.
وإذا أخذنا اختبارا أغسطينيا خاصا بالإنتماء إلي الأمة وطبقناه علي أنفسنا فإننا سنجد أن الحرية, وليس الدين, هي ما يوحدنا. ففي ##مدينة الله## قال أغسطين- المذنب المهتدي وأسقف هيبو Hippo- أنه يجب تعريف الأمة علي أنها ##حشد من البشر العقلانيين يجمعهم اتفاق مشترك بشأن مواضيع حبهم##. وهكذا فإن ما نعطيه قيمة أكثر من غيره- ما نحبه جميعا أكثر من غيره- هو الإختبار الأساسي للعقد الإجتماعي##3##.
إذا أصدرنا حكما بالإستناد إلي الشكل الواسع للحياة الأمريكية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, سنري أننا نقدر الحرية الفردية والمشاريع الحرة ##أو الحرة إلي درجة كبيرة## وأننا نميل إلي مذهب الحرية في قضايا الأخلاق الشخصية.
أما الوثائق التأسيسية فهي إعلان الإستقلال والدستور, وليس الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد ##علي الرغم من وجود روابط لا يمكن إنكارها فيما بينهم##. هذا السبيل في الحياة يختلف اختلافا كبيرا عما يطمح إليه العديد من المسيحيين المحافظين بشكل علني.
لكن تلك هي قوة النظام الجمهوري الذي وضعه جيمس ماديسون في نهاية القرن الثامن عشر: بقاء أميركا مرتبط ارتباطا مباشرا بقدرتها علي وضع حد للتطرف والحفاظ علي أكبر قدر من الحرية الشخصية. يجب علي المؤمنين المتدينين أن يرحبوا بهذا, فالحرية لطائفة واحدة تعني الحرية لكافة الطوائف.
وكما قال جون فتزجيرالد كندي في خطابه أمام جمعية هيوستون الوزارية الكبري عام 1960: ##بينما قد يكون في هذه السنة كاثوليكيا تتجه إليه أصابع الشك, فقد كان في سنين أخري, وربما سيكون ثانية يوما ما, يهوديا أو كويكر أو موحدا أو معمدانيا… اليوم قد أكون أنا الضحية ولكن غدا قد تكونون أنتم حتي يتمزق نسيج مجتمعنا المتجانس كله##.
لقد كان الدين أحد العوامل في الحياة والسياسة الأمريكيتين منذ البداية. فقد كانت الشعائر الأنجليكانية إلزامية في جيمستاون, كما كان البيوريتانيون في نيو إنجلند يأملون بشكل صريح إقامة قدس ##أورشليم## جديدة. غير أن الإيمان القسري لا يعد إيمانا علي الإطلاق, بل هو استبداد.
قال روجر وليمز: ##أوصي بأن لا يتجه الإنسان, سواء كان يهوديا أو مسلما أو معمدانيا أو أيا كان, بغير الإتجاه الذي يمليه عليه ضميره##.
في زمن التأسيس الأمريكي كان رجال من مثل جيفرسون وماديسون يرون الفضيلة تكمن في ضمان حرية الضمير, وكان أحد الإنجازات البارزة للجمهورية الفتية هو خلق بيئة امتزج فيها الدين والسياسة, غير أن الكنيسة والدولة لم يمتزجا.
وكانت فكرة المؤسسين هي أنه قد يحاول المرء إقامة جدار بين الإقتصاد والسياسة مثل الجدار القائم بين الدين والسياسة, حيث أن كليهما يدوران حول ما يشعر به الناس وكيفية رؤيتهم للعالم. دع المتدينين يأخذون مكانهم في ساحة السياسة والأفكار لوحدهم, وقاتل من أجل آرائهم علي قدم المساواة مع كافة المصالح الأخري.
إن الحياة الأمريكية العامة لا هي علمانية بالكامل ولا هي دينية بالكامل, بل هي مزيج سلس من الإثنين. ويقول التاريخ إن المشاكل تظهر عندما تصبح إحدي هاتين القوتين أقوي من الثانية.
لذا فالإنتصارات السياسية في جوهرها أمر عابر; ففي منتصف القرن التاسع عشر قال الإنجيلي تشارلز جرانديسون فيني: ##إن عمل الكنيسة الكبير هو إصلاح العالم إزاحة كل نوع من أنواع الخطيئة##. كما قال: ##إن المسيحيين ملزمون بممارسة نفوذهم من أجل ضمان وضع تشريع يتوافق مع شريعة الله##.
يميل النجاح الدنيوي إلي تأشير بداية نهاية التدين المكشوف في السياسة. فقد كان ينظر للحظر مبدئيا علي أنه نصر أخلاقي كبير, إلا أن فشله وإلغاءه النهائي يشيران إلي أنه يجب علي أية حركة أن تنتبه لما ترغب فيه: في أميركا, تميل إرادة الأغلبية العريضة إلي الفوز حتي علي المصالح الضيقة الأكثر إخلاصا.
ومع انقضاء القرن العشرين وجد المسيحيون أنفسهم في موقف غير مثير للجدل نسبيا في مواجهة ##شيوعية ملحدة##, وكان يبدو أن حدة الحظر ##3## وعصر محاكمة سكوبس Scopes ##4## قد خفـت قليلا. كما أن قضايا الأخلاق الشخصية, وليست السياسة الدولية, وضعت أسس الحملة الرامية إلي أميركا مسيحية نعرفها بصيغة ظهور اليمين المتدين.
وكانت ظاهرة الطلاق في ستينات القرن العشرين وقرار رو Roe عام 1973 أمرين حاسمين, أما إيمان جيمي كارتر المتجدد فقد جعل المسيحية الإنجيلية في المقدمة عام .1976
لقد أحس جو سكاربورو, وهو المعلق وعضو الكونجرس السابق عن الحزب الجمهوري والذي نشأ في أطلانطا في ستينات وسبعينات القرن العشرين, أحس بمخاوف والديه الإنجيليين وأصدقائهما وهي المخاوف التي ساعدت في حشد الدعم لحركة أميركا المسيحية المحافظة سياسيا.
يقول سكاربورو: ##كان القلق الكبير في وسط أميركا هو أننا كنا محاصرين كان والداي يريان الأولاد يسيرون في الشارع وقد كانوا كشافة قبل ثلاث سنوات ثم فجأة صاروا يشبهون الهيبيز, وكانوا خائفين##. ويردف قائلا: ##من الناحية الثقافية, كان أكتوبر 2001 بمثابة عقد من الزمن.
بمثابة عقد من الزمن فعلا. وعندما أدرك آباؤنا أننا لن نختفي في المخدرات والتطرف فإن الضغط خف. ذلك هو العالم الذي نحن فيه الآن آباء الأبناء الناجحين الذين ما كانوا ليشربوا كأسا من الخمر قبل 30 سنة نراهم الآن يشربون الفودكا. بشكل ما, لقد تحرروا##.
كما أنهم تعلموا أن السياسة لا تقدم كافة الإجابات إنه درس كان يميل, مع نوع من الإرتياح من توترات الإضطرابات الثقافية في ستينات وسبعينات القرن العشرين, يميل إلي كبح جماح الحماس السياسي الملهم دينيا.
يقول مولر: ##كان أسوأ خطأ من أخطاء الإنجيليين من الناحية السياسية طوال السنين الثلاثين الأخيرة هو السذاجة غير المعقولة في ما يتعلق بالسياسة والسياسيين والأحزاب##. ويضيف قائلا: ##فقد استثمروا الكثير من الأمل في إيجاد حل سياسي للقضايا والمشاكل التي تتجاوز السياسة.
فلو كنا في موقف ذي طابع أوروبي أكثر حيث غالبا ما تختلف الأحزاب حول المسائل السياسية التقليدية أكثر من اختلافها حول المسائل الأخلاقية, أو لو كانت أحزابنا أكثر, لكانت لدينا عندئذ صورة مختلفة تمام الاختلاف. ولكن عندما ارتبط الإجهاض والمفهوم الأخلاقي للصلاح الإنساني بحزب واحد, لم يتبق لدي المسيحيين سوي القليل من الخيارات سياسيا##.
وعندما فشل ذلك الحزب في تحقيق الخلاص وقد فشل فعلا تمثـلت استجابة البعض في الحركة بالانكفاء إلي التطرف وذلك لقناعتهم بشر وفساد العالم السياسي الذي تسبب لهم بهزيمة بعد أخري. ##لقد حدث الأمر ذاته للعديد من الليبراليين بعد عام 1968: فبسبب غيظ اليسار من المزاج المحافظ السائد في البلاد, تميز رد فعله بالغضب وزاد اتجاهه إلي اليسار####4##.
كان الكاتب كال توماس أحد الشخصيات التي رأت مبكرا بأن الحركة الأمريكية المسيحية تنطوي علي خطأ قاتل من وجهة النظر اللاهوتية, حيث يقول: ##لا تستطيع أية دولة أن تكون ##مسيحية## حقا.
الناس فقط هم الذين يستطيعون ذلك. إن الله فوق كل الأمم, وفي الواقع يقول أشعيا إن ##كل الأمم ليست بالنسبة له سوي قطرة في الدلو وأقل من لا شيء####. وبعودة توماس في تفكيره عبر عقود من الزمن فإنه يستذكر الأمل والفشل. ##كنا نمر في مرحلة تنظيم الناس ذوي العقول المتماثلة لـ##إعادة## أميركا إلي زمن ذي أخلاقيات أعلي. وبالطبع لم يكن ليقوم بذلك سوي السياسيين الذين عانوا من فترة عصيبة في فرض الأخلاقيات علي أنفسهم!##.
ويظهر من التجارب أن السلطات الدينية ذاتها يمكن أن تتعرض للفساد من خلال مجاورتها للسلطة السياسية. وقبل ربع قرن نشر ثلاثة علماء يعتنقون المسيحية الإنجيلية كذلك مارك أي نول وناثان أو هاتش وجورج إم مارسدن نشروا كتابا هاما ولكنه لم ينل من الانتشار إلا النزر اليسير, وهو كتاب ##البحث عن أميركا مسيحية.##
وهم يقولون في هذا الكتاب إن دعاوي المسيحية تسمو فوق أي نظام سياسي. ويقولون إن المسيحيين ##لا ينبغي أن تكون لديهم أوهام حول طبيعة الحكومات البشرية. فهم في آخر الأمر ينتمون لما يطلق عليه أغسطين إسم ##مدينة العالم## التي تحكم فيها المصلحة الشخصية… وكل الحكومات يمكن أن تكون قتلة متوحشين##.
تتساوق نظرتهم هذه مع نظرة النبي داود صاحب المزامير الذي قال: ##لا تضع ثقتك في الأمراء##. كما يوجد الكثير من أدلة العهد الجديد التي تدعم رؤية العقيدة والسياسة حيث تكون فيها الكنيسة أصدق ما تكون بشأن رسالتها الجوهرية عندما تكون أبعد ما تكون عن تشابكات السلطة. فمسيح الإنجيل يرفض بإصرار استعمال وسائل هذه الدنيا تقارع الأسلحة أو أهواء السياسة لتعزيز غاياته.
فبعد معجزة أرغفة الخبز والسمك ظن حشد الناس المبهورين بأنهم قد وجدوا مسيحهم الدنيوي. ##وعليه فعندما أدرك يسوع بأنهم سيأتون ويأخذونه بالقوة لينصبونه ملكا فإنه رحل مرة أخري إلي الجبل لوحده##.
وعندما يقطع أحد أتباعه أذن أحد أفراد المجموعة التي تقوم باعتقال يسوع في الجثمانية, يقول يسوع: ##أغمد سيفك##. ويقول لاحقا أمام بيلاطس: ##مملكتي لا تنتمي لهذه الدنيا: فلو كانت مملكتي تنتمي لهذه الدنيا لقاتل أتباعي##.
إن كثرة الدروس المأخوذة من الإنجيل ومن بقية العهد الجديد توحي بأن السلطة الدنيوية عابرة ومفسدة وبأنه يجب علي أتباع المسيح الإهتمام بالأمور الروحية أكثر من اهتمامهم بالأمور السياسية.
ومن ناحية أخري, وكما هو الحال دائما في الكتاب المقدس, فهناك مقاطع تعقد الصورة; فيقول مؤلف سفر العبرانيين بأن المؤمنين ##غرباء ومنفيون علي الأرض##, و##أننا ليست لدينا هنا مدينة دائمة, ولكننا نبحث عن المدينة التي ستأتي##.
وفي الرسالة إلي الروم يقدم بولص الرسول النصيحة الآتية: ##لا تنسجموا مع هذه الدنيا##. أما مجلس الفاتيكان الثاني فقد استشهد بالكلمات الآتية للبابا بايوس الثاني عشر: ##إن يسوع المسيح, مؤسس ##الكنيسة الكاثوليكية## المقدس, لم يمنحها أي تفويض ولم يحدد أية نهاية للنظام الثقافي.
إن الهدف الذي يحدده المسيح للكنيسة هدف ديني فقط… ولا يسع الكنيسة أبدا أن تغفل الهدف الديني وما وراء الطبيعي##.
وكما قال أحد رؤساء أساقفة كانتربري مرة فإنه من الخطأ الإعتقاد بأن الله يهتم بالدين في المقام الأول وبشكل رئيسي. يقول المسيح في عامواس: ##إنني أكره صوت تجمعاتكم المهيبة##.
إن الدين لا يدور حول عبادة إلهكم فقط, بل حول فعل الأمور الدالة علي الورع, كما أن إحدي الرسائل الجوهرية في الإنجيل هي واجب المسيحي في القيام بتغيير الواقع من خلال أعمال المحبة علي أفضل وجه يستطيعه.
يقول مولر: ##تبقي مهمتنا هي أن نكون في العالم وليس جزءا منه##. ويضيف: ##إن الكنيسة وجود أبدي في عالم ساقط وزائل ولكن يجب أن يكون لنا تأثير. إن موعظة الجبل تدور عما ينبغي علينا فعله غير أنها لا تأتي مع كتيب سياسي##.
تعد كيفية الموازنة بين القلق علي حديقة الكنيسة والواجبات الأخلاقية الرامية إلي تلطيف الحياة في العالم إحدي المسائل الأكثر إرباكا والتي تواجه الكنيسة.
فقد كتب نول وهاتش ومارسدن قائلين: ##أمامنا إلتزامات هامة بأن نفعل ما بوسعنا, بما فيها استعمال الوسائل السياسية, لمساعدة جيراننا تعزيز القوانين العادلة والنظام الجيد والسلام والتعليم والفرص##.
ثم يضيفون: ##ومع ذلك علينا أن نلاحظ بأننا بينما نعمل لصالح الأفضل نسبيا في ##مدينة العالم## فإن نجاحاتنا ستكون مثل ذلك بالضبط نسبية. وفي التحليل الأخير تعلن الكنيسة بأن الحلول التي تقدمها أمم العالم حلول عابرة دائما, وهي ذاتها بحاجة إلي إصلاح##.
وبينما يقوم آل مولر بالإعداد لعيد الفصح في لويزفيل, فإنه يبقي ساهرا علي الثقافة. وفي الأسبوع الماضي نشر عمودا بعنوان ##هل يؤمن راعي أبرشيتكم بالله؟##, وهو يدور حول الإجهاض والمساعدة علي الإنتحار والموجة القادمة من رعاة الأبرشيات.
فكتب قائلا: ##لقد تعهد يسوع المسيح بأن أبواب الجحيم ذاتها لن تتغلب علي كنيسته##. ثم أردف قائلا: ##ينوي هذا الجيل الجديد من رعاة الأبرشيات الشباب أن يتصارع مع الجحيم في كهنوت جريء وخيالي. فتوقعوا رؤية الشرر يتطاير##.
وأضاف في مكالمة هاتفية معي: ##ما نراه الآن هو الدليل علي نمط من التغيرات الفكرية والثقافية والسياسية في الفكر والعقل بدأ منذ زمن طويل جدا. لقد تغيرت الظروف. يصعب تحديدها بدقة هنا. ولكن كل ما جاء بعد عصر التنوير كان مختلفا تمام الإختلاف عما جاء قبله##. ومع تناقص أعداد المسيحيين المؤمنين فإن ما سيأتي بعد الآن هنا سيكون مختلفا أيضا.
هوامش المترجم:
##1##
رئيس تحرير مجلة نيوزويك منذ شهر سبتمبر .2006
##2##
قرار ##رو ضد ويد## Roe v. Wade: نسبة إلي قضية جين رو Jane Roe وآخرين ضد هنري ويد Henry Wade أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973 والتي أدت إلي إصدار قرار يعد معلما بارزا في مسألة الإجهاض.
##3##
حظر بيع وصناعة ونقل الكحول لغرض الإستهلاك في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة 1919-1933 وذلك وفقا للتعديل الثامن عشر في دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
##4##
محاكمة سكوبس Scopes: نسبة إلي جون سكوبس John Scopes, وهو مدرس في إحدي المدارس الثانوية في ديتون, تنسي, الولايات المتحدة الأمريكية, تم إتهامه بتاريخ 5 مايو 1925 بالخرق المتعمد لقانون بتلر, وذلك إثر قيامه بتدريس نظرية النشوء والترقي من فصل في كتاب منهجي يقدم آراء مأخوذة من الأفكار المطروحة في كتاب أصل الأنواع لكاتبه تشارلز داروين. وينص قانون بتلر علي أنه لا يجوز في أية مؤسسة تربوية تمولها حكومة تنسي ##تدريس أية نظرية تنكر قصة الخلق الإلهي للإنسان كما هي مطروحة في الكتاب المقدس وتدريس الآراء القائلة بأن الإنسان قد جاء من نظام حيواني أدني##.
* مقال كتبه جون ميتشم, رئيس تحرير مجلة نيوزويك الطبعة الأمريكية