شعب ينتفض.. شباب يدخل مرحلة الإدراك بعد ثبات طويل.. ميدان يحتشد فيه الآلاف
من الشباب يوميا.. بزوغ أفكار جديدة وثقافات كنا ظننا اندثارها منذ عقود.. التفاف حول فكرة وهدف اسمه التغيير وهناك لا نتحدث عن تغيير أشخاص فالوعي الفكري لدي الشباب تخطي تلك المرحلة وراح يطالب بتغيير في السياسات والأداء.. إنه تحول جذري في الرؤي والأفكار لدي قطاع كبير من المجتمع المصري هو قطاع الشباب الذي كثيرا ما اتهمه المجتمع بالسلبية والتواكل واللامبالاة.. تري كيف يري المفكرون هذا التحول..
ثورة قيم جديدة
د. عمار علي حسن كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي يقول: ما تشهده مصر منذ يوم 25 يناير وحتي الآن هو حدث تاريخي عظيم سيكتبه التاريخ ويدون أن ثورة 19 كانت الأبرز في القرن العشرين وثورة 25 يناير هي الأبرز في القرن الحادي والعشرين.
حققت هذه الثورة هدفا عظيما جدا وهو إعادة ثقة المصريين في أنفسهم وشعورهم بالوحدة وإحساسهم الجارف أنهم في خندق واحد ومصيرهم مشترك, وهو أكبر مكسب, كذلك إعادة صياغة الثقافة السياسية للشعب المصري صياغة كاملة فكانوا سابقا مثقفو السلطان (أي السلطة) وكانت السلطة في قرارة نفسها تصف الشعب بالخنوع والآن لا يجرؤ أحد أن يدعي هذا الادعاء.
مكسب آخر تحقق هو إدراك الشعب أن الحاكم القادم وأي حاكم قادم مهما بلغ جبروته في حكمه فسيأتي الوقت الذي يدرك فيه أن هناك شعبا يحكمه وليس قطيعا من الأغنام لأن المصريين الآن تغير فكرهم وبالتالي تغيرت ردود أفعالهم فصاروا مراقبين للحكام ويسعون لخلع أي حاكم يحاول الاستبداد, لذلك فأي حاكم سيأتي منذ الآن فصاعدا سوف يبذل أقصي جهد لكسب شرعية من المواطنين وليس من أي جهة أخري أيا كانت.
مكسب آخر تحقق هو احترام العالم فالمصري خاصة الشباب كانت صورتهم سيئة جدا بالخارج (الفهلوي- الخانع- البلطجي) أما وبعد أن ظهرت كل ألوان الطيف في هذه الانتفاضة فضمت الراقي والعشوائي وحامل الدكتوراه والأمي, واليساري واليميني والإسلامي والعلماني, المسيحي والمسلم, الرجل والمرأة, الصغير والكبير, فعلينا أن نقر أنه بالفعل حدث تحول جذري في الفكر المصري سيتوقف الشرق الأوسط أمامه طويلا.
ألا نري أن هؤلاء الشباب أدركوا وعبروا عما لم تعبر عنه النخبة في مصر طيلة سنوات كثيرة وإن عبرت فكان تعبيرها ضعيفا.
وأضاف: أن من زرع الشوك عليه أن يجني الجراح.. إنها جراح الشقاء لأن التركيبة الاجتماعية والنفسية والفكرية للشعب تتغير الآن, فكل الدراسات التي أجريت علي المجتمع المصري منذ عام 1974 حتي عام 2011 أثبتت أن هناك ما يسمي بتجريف القيم أي تراجع القيم الإيجابية في المجتمع واستبدالها بقيم سلبية, ومن رحم هذه الثورة خرجت ثورة قيم جديدة أعادتنا لما قبل عام 1974 فخلقت مجتمعا جديدا بكل المقاييس يكرس لثقافة التطوع وإعلاء المصلحة العامة علي الخاصة والتوحد حول حماية الوطن والمواطنين والمساعدة واقتسام الخبز والماء سويا كلها قيم كنا نشكو من غيابها سابقا الآن الشعب المصري يعيد بناء شخصيته فلنتركه يبني من جديد.
تحول فكري
فريدة النقاش الكاتبة والمفكرة أرست المفهوم الفارق بين الانتفاضة والثورة فكريا وسياسيا فقالت: ما يجري حاليا هو انتفاضة وليس ثورة, والفارق بينهما كبير.. فالانتفاضة تظل محدودة في مجموعة من المطالب وإن كانت علي مستوي المواطن, لكن الثورة تخترع لنفسها آليات للاستيلاء علي سلطة الدولة, ورغم ذلك فهذه الانتفاضة تشكل انتقالا نوعيا للحياة السياسية في مصر من مرحلة لأخري, والنظام لا يستوعب ذلك, فما أدي إلي التحول السلوكي ومن قبله التحول الفكري الذي دفع الشباب لهذه الانتفاضة كان نتيجة تراكم غضب عبر عشرات السنين تصور النظام فيها أن المواطنين مجموعة من الأطفال وحتي قراراته بعد يوم الغضب 25 يناير جاءت أيضا كما لو كان شباب مصر أطفالا!!
الذين شاركوا في التظاهرات رغم قيود السلطات ورغم قانون الطوارئ هم شباب الإنترنت الذين لديهم وعي إذ صاغوا برنامجا شاملا سياسيا واجتماعيا وثقافيا فلم يصفي غضبهم سياسيات التهدئة والالتفاف لذلك أقول إن هناك تحولآ فكريا وتحولا جذريا في الوعي ومستواه لدي هؤلاء الشباب.
وعن الالتهام الموجه للشباب أنهم مجرد مجموعة من المقلدين لشباب تونس الذين خرجوا في ثورة الياسمين, تقول فريدة النقاش: المصريون لم يحاكوا التونسيين بل علي العكس, التونسيون هم من قلدونا لأن مصر تشهد انتفاضات واحتجاجات أصغر طيلة الخمس سنوات الماضية تم بلورتها الآن في صورة الانتفاضة الكبري مساء 25 يناير وكل ما حدث هو أن هؤلاء الشباب تجرأوا عندما وجدوا نتيجة ثورة الياسمين بتونس فاكتشفوا في أنفسهم القدرة علي تغيير النظام مثلما حدث هناك.
وأكبر دليل أن ما حدث هو انطلاقة فكرية أنه لم يظهر شعار ديني واحد خلال المظاهرات, ولم ولن يسمح الشباب لأي من الأطراف لاعتلاء انتفاضتهم ولا حتي الأحزاب, وتأثير ذلك علي الحياة السياسية في مصر سيكون له أعمق الأثر في النسوات القادمة لأن شعارهم كان تغيير السياسات المؤدية للفساد.
انطلاقة تحرر
ويري الدكتور صلاح فضل أن الحرية أهم من الأمان وهذا ما أدركه الشباب الواقفون في ميدان التحرير وبعثوا بتلك الرسالة لمصر كلها. إنه الفكر الجديد. إنها انطلاقة تحرر فكري أن يدرك هؤلاء الشباب أن الاحتقان والدموية أيا كانت نتيجتهما فهما أفضل من الاستمرار مع القمع والاستبداد, وتلك هي حتمية التغيير.
كسر الشباب حالة الخنوع والخوف وهو تحول جوهري في الفكر, كسروا الرهبة وفكرة وصاية السلطة علي الشعب فأثبتوا أنهم يفكرون عكس ما اتهمناهم سابقا فهم من جروا الأجيال القديمة التي تجمدت في ثلاجة الزمن إلي تلك الانتفاضة العظيمة: فأنا فخور إني مصري ومن مصر التي حدثت بها هذه الثورة.
وطن يولد من جديد
ويقسم الناقد والمفكر عبدالرحمن أبوعوف المراحل التي مر بها الحكم في مصر إلي ثلاث مراحل من الحكم الشمولي والعسكرتارية, مرحلة عبدالناصر التي حكمت فيها مصر منذ الانقلاب العسكري عام 1952 وسيطرت فيها الشمولية علي مقدرات الدولة المصرية, وبدأ حكمه أو نظامه في سياق المرحلة التاريخية الثورة الوطنية المصرية علي ثلاثة أسس هي: التنظيم الواحد القائم علي رأس السلطة, وأجهزة مباحث أمن الدولة القائمة علي الدولة البوليسية, ومن حقها اعتقال المواطنين والمفكرين والمبدعين, أو الأساس الثالث هو المؤسسة العسكرية.
اشتركت الثلاث مراحل في نفس الأسس مع بعض الاختلافات التي لم تصب أبدا لصالح النظام الحالي فمرحلة ناصر كانت مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية العسكرية التي كان زعيمها عبدالناصر تتميز علي المستوي الداخلي المحلي المصري بظروف تختلف عن الظروف الداخلية لأنور السادات الذي هيمن علي مقدرات الدولة المصرية العسكرية بتطوير الثلاثة أسس التي وضعها عبدالناصر, والأساس الأول أنه أنشأ الحزب الوطني الديموقراطي بديلا للاتحاد الاشتراكي, إلي أن عين السادات بدون أخذ رأي الشعب المصري نائبا له من المؤسسة العسكرية هو مبارك, ولكن في ظروف تاريخية سياسية مصرية تختلف عن السادات, فورث مبارك الحزب الوطني بكل صلاحياته.
اختلف الظرف ولكن الثلاثة عبدالناصر والسادات ومبارك يجمعهم أنهم يحكمون بشمولية ويجمعون في قبضتهم سلطات لا توجد في أية دولة متخلفة يجمعون بين المسميات الآتية (القائد الأعلي للجيش, رئيس الحزب, رئيس السلطة التنفيذية, الحاكم العسكري) له الحق في إصدار قرارات لها مفعول سار دون العرض علي أي جهة ولكن الفارق أن عبدالناصر كان ديكتاتوريا ثوريا انقلب علي سلطة ملكية خاضعة للاحتلال الإنجليزي, فكانت ثورة وطنية قادها رجل عسكري لمطالبتها بالتخلص من الاحتلال العسكري الإنجليزي. أما السادات فورث النظام العسكري الشولي في لحظة تاريخية حينما واجه الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يحتل سيناء. لقد كان قدر عبدالناصر أن يتحول بالانقلاب العسكري لثورة وطنية لا تستقل سياسيا بل اقتصاديا وتوجه ضربات للإمبريالية الإنجليزية فاتخذ قرارا بتأميم شركة قناة السويس ثم شرع في تأسيس أكبر مشروع للتحكم في النيل وهو بناء السد العالي.
وإذا قرأنا في تاريخ الحكام العظماء سوف نجد أن أي حاكم عظيم يتدخل في مجري النيل, فمحمد علي أنشأ القناطر الخيرية, وناصر أنشأ السد العالي وشرع في بناء قاعدتها صناعية (صناعات ثقيلة), فباختصار عبدالناصر كان ديكتاتوريا لكنه ديكتاتوريا منحازا للشعب الفقير وأحبه الناس حتي الآن ورفعوا صورته في انتفاضة الغضب 25 يناير باعتباره رمزا للوقوف بجوار الفقراء. وبعد هزيمة 1967 طلب التنحي عن الحكم, لكن الشعب المصري رفض تنحيه رغم الهزيمة, وقبلما يرحل أعاد تنظيم الجيش المصري علي أسس حديثة ووضع خطة العبور وقاد حرب الاستنزاف.
ثم جاء السادات الذي واجه قضية عاجلة في بداية حكمه كان عليه استرداد كرامة الجيش المصري, ضغطت عليه الحركات الطلابية للدخول في الحرب مع إسرائيل, فوجد نفسه أمام حركة شبابية جامعية في الشارع تجبره علي اتخاذ قرار الحرب فانصاع لقرار الحرب خاصة وأن لديه جيشا معدا إعدادا جيدا من قبل عبدالناصر.
اعتلي مبارك الحكم فأفرج عن جميع المعتقلين الذين اعتقلهم السادات لكنه في المقابل حكم مصر بقانون الطوارئ وبرز في عهده رجال أعمال يعقدون زواجا غير شرعي مع السلطة فتجاهل نظامه الفقراء والضعفاء والمحرومين وتعطل قانون دور العبادة الموحد حتي الآن, كما جاء حادث الإسكندرية الذي راح ضحيته أناس لا ذنب لهم سوي وثوقهم في حماية الأمن لهم في عبادتهم ولكن ثقتهم جاءت هباء.
كل ذلك دعا الشباب من كل أطياف المجتمع مسيحيين ومسلمين من جيل عاصر مبارك ولم يعاصر سواه حاكما للانتفاضة, فكسروا حاجز الخوف من الأمن وعبروا عن إرادة المصريين المكبوتة, وأنا واحد منهم وأنشأوا تنظيمات جديدة مثل حركة كفاية و 6أبريل والاشتراكيين الثوريين والجمعية الوطنية للتغيير بقيادة البرادعي.
في ظل المقارنات السابقة بين الحكم الشمولي لكل من عبدالناصر والسادات ومبارك لم يجد الشباب الذين تحدثت إليهم كثيرا -والحديث مازال لعبدالرحمن أبوعوف- في حسنات نظام مبارك سوي تركه لها مش من حرية الصحافة ونشأة الصحافة المستقلة متمثلة في الدستور والشروق والمصري اليوم, لكن حتي هذا نشأ نتيجة طبيعة لثورة المعلومات والتكنولوجيا. وهو الأمر الذي دفع الناص للإصرار علي هذه الثورة فالفقراء والمحرومون والعمال والمثقفون والمستنيرون اجتمعوا مع الشباب علي رأي وقلب واحد.
اجتمعوا مع الشباب علي رأي وقلب واحد.. فالوطن يولد اليوم من جديد.