أشرق نور النهضة العلمية والثقافة الروحية في القرن التاسع عشر علي يد البابا كيرلس الرابع المعروف بأبو الإصلاح وانفجرت معه ينابيع الغيرة الروحية الكنسية التي اشتعلت حبا في العودة بتاريخ الكنيسة القبطية إلي عصور الازدهار والقيادة الروحية مرة أخري بعد أن سلبها الزمان ثوب قيادتها الثقافية والروحية بسبب الاضطهادات والبدع التي مرت بها المسيحية في كل مكان في العالم ولاسيما بعد الانشقاق الخلقدوني الذي جعل الإيمان الأرثوذكسي المستقيم لكنيسة الإسكندرية يمر بظروف صعبة سمحت بسيطرة بعض الحكام والولاة علي مصر كلها فكريا وعقائديا.. ولكن الله لم يترك نفسه بلا شاهد فسبحت كنيسة الإسكندرية بإيمانها المستقيم في وسط كل التيارات حتي جاء عصر النهضة والإصلاح وأعيد افتتاح المدرسة الإكليريكية مرة أخري علي يد أبناء الكنيسة العظماء الذين عرفوا وشهدوا بفضل الإكليريكية علي استمرارية الثقافة المسيحية والحفاظ علي الإيمان المستقيم فوضعوا لها دستورا وربطوا لها أوقافا عينية ومادية ووضعوا الإكليريكية ومنهجها وتطورها وأموالها تحت إشراف بطريرك الكنيسة القبطية ولجنة معاونة له لتسلك مسارها السليم.. ومنذ ذاك الحين والإكليريكية محط أنظار العالم كله حتي وإن لم تنل حظها مع الدولة أنما يكفيها الله والكنيسة الممثلة في قيادتها الروحية من الآباء المطارنة والأساقفة والكهنة والعلمانيين الذين عرفوا قيمة التعليم اللاهوتي المتخصص وتيقنوا أن أهمية الإكليريكية والعناية بها لا تقل عن أهمية اهتمام الدولة بكليات الطب المتخصصة.. فالاهتمام بالطب الروحي أهم من الاهتمام بالطب الجسدي فالأخير نهايته الأرض أم الأول فنهايته في السماء ومن هنا كان يوم التاسع والعشرين من شهر نوفمر عام1893م الشاهد التاريخي لإعادة افتتاح الإكليريكية مرة أخري لتدخل القرن العشرين متوجة بباقة من أشهر العلماء والعظماء في ذاك الحين.
البداية
بدأت الدراسة في الفجالة بدفعة من الطلبة الذين عقدوا العزم في النهوض بالتعليم اللاهوتي الأرثوذكسي وخدمة كنيستهم ثم انتقلت الإكليريكية إلي دار البطريركية ثم خرجت إلي مكان آخر وعادت مرة أخري إلي الدار البطريركية وأخيرا استقرت في مهمشة بالشرابية في منزل خاص تم شراؤه عام 1902 وانتقلت إليه علم 1904 ثم أعيدت مرة أخيرة إلي الدار البطريركية وأخيرا استقرت نهائيا في مهمشة عام 1912م.. وكان من مشاهير خدام الإكليريكية في أول مراحلها بعد إعادة فتحها يوسف بك منقريوس ناظرا ومدرسا للتاريخ المدني والجغرافيا المدنية وأقلاديوس بك لبيب مدرسا للغة القبطية وميخائيل عبد السيد مؤسس جريدة الوطن مدرسا للغة الإنجليزية وميخائيل عفت مدرسا للرياضة والمعلم ميخائيل جرجس مدرسا للألحان الكنسية وكانت مادة اللغة العربية يأتي إليها علماء من الأزهر ودار العلوم( ولايوجد في ذلك حرج) وباقي مدرسي المواد الأخري منتدبون من مدرسة الأقباط الكبري ثم تم تعيين الإيغومانوس فيلوثاؤس للعلوم الاهوتية ولكنه لم يستمر كثيرا بسبب حالته الصحية وجاء بعده القمص يوسف حبشي إلي أن ظهر بالمدرسة الطالب النابغة والخادم الذي رأي فيه الجميع روح الخدمة ومحبة الكنيسة حبيب جرجس الذي انتهت اللجنة الملية المنعقدة في أول بشنس عام1615ش الموافق 8مايو عام 1899م بتعيينه لتدريس العلوم اللاهوتية بدلا من القمص يوسف حبشي ومنذ توليه مهام خدمته هذه وهو كان يحرص كل الحرص علي أن يفتح بين صفحات التاريخ سجلا جديدا يحمل باقات الأمل والنجاح للإكليريكية وخريجيها الذين أثروا العمل الرعوي والكنسي في كل مكان بخدمة متميزة في الوعظ والإرشاد والتعليم والثقافة الروحية فكان حبيب جرجس يذهب هنا وهناك ويشجع وينادي ويعمل علي كل ما يرفع من شأن الإكليريكية إيمانا منه أنها فرع من الكرمة التي غرسها الرب علي أرض مصر التي تباركت بقدوم السيد المسيح إليها والعائلة التي شربت وارتوت بدم الشهداء والأبرار الذين ضحوا بحياتهم من أجل المسيحية والإيمان بالمسيح والحفاظ علي الكنيسة المقدسة.. عاش حبيب جرجس مناضلا من أجل التعليم سواء في الإكليريكية التي كانت واحدة من أهم اهتماماته أو مدارس الأحد التي كان يرسل إليها خريجي الإكليريكية وطلابها الخدام لخدمتها ليبذر بذار الخدمة الروحية التي كانت ثمارها واضحة في كبار خدام الكنيسة في القرن العشرين أحبوا الله والكنيسة والوطن من خلال خادم متخصص يفيد ويعلم أصول الإيمان الأرثوذكسي جاهد الأرشيدياكون حبيب جرجس في إصلاح وتوسيع مباني الإكليريكية وجاهد في اختيار الطالب الخادم والمثالي والمزكي من كنيسته وأسقفه ومرورا علي الأب البطريرك ليختار بنفسه خيرة خدام كنيسة المستقبل بل كان يبذل جهدا كبيرا في اختيار المدرس المثالي الذي يصلح أن يكون معلما لمعلمي الكنيسة مؤمنا بوصية بطرس باشا غالي الذي قالاهتموا بالمدرسة الإكليريكية قبل غيرها فأنه إذا أغلقت جميع مدارسكم القبطية تجدون عنها عوضا بالمدارس الأخري ولكن إذا لم تكن لكم المدرسة الإكليريكية فأين تعلمون رعاتكم بل كان حبيب جرجس دائم العمل علي رفع مستوي التعليم وخريج الإكليريكية بوضع الإكليريكية علي قائمة اهتمامات المجمع المقدس حتي طالب بقصر رسامة رجال الإكليروس علي خريجي المدرسة الإكليريكية وإرسالهم لبعثات دينية إلي الخارج وكانت نتيجة هذا الاهتمام هي القرار الآتي نصه بخصوص اختيار الكهنة.
قرار المجمع الإكليريكي المقدس
ولما اجتمع المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الدار البطريركية بحضور الآباء المطارنة ورؤساء الأديرة والمجلس الإكليريكي في يومي الاثنين 9بشنس سنة1653ش الموافق 17 مايو1937م ويوم الثلاثاء 10 بشنس 1653ش الموافق 18مايو 1937م برياسة حضرة صاحب الغبطة الأنبا يوأنس بابا وبطريرك الكرازة المرقسية. أصدر المجمع القرار الآتي ضمن قرارته:- وجوب تنفيذ المنشور البطريركي الصادر في 29 برمهات سنة1653ش الموافق 17أبريل سنة1937م والقاضي بعدم جواز اختيار قسوس للكنائس إلا من طلبة المدرسة الإكليريكية الحاصلين علي دبلومها النهائي…وبعد أن وضع العملاق حبيب جرجس الإكليريكية في طريق النجاح والتقدم لرفع شأن الخدمة كانت آماله تتطلع إلي العناية بالإكليريكي بعد تخرجه وبناء كيان موحد لكل خريجي الإكليريكية وحقق الرب أمنيته هذه بتأسيس جميعة خريجي المدرسة الإكليريكية التي كانت تعقد اجتماعاتها وجلساتها المنتظمة في دار الإكليريكية وكان يحضرها كل الخريجين من كهنة وعلمانيين وأثمرت عن مشروع اجتماعي أطلق عليه اسم(التعاون الإكليريكي) هدفه تأمين حياة الأسرة الإكليريكية ضد الأحداث الطارئة كما كان من أهدافه أيضا مد الخريج بكل ما يحتاجه من الناحية الروحية والعلمية والأدبية وأغراضه كانت إيجاد روح التعاون وإنشاء صندوق للتعاون ومساعدة الأعضاء أثناء مرضهم وتسديد احتياجاتهم المادية ومساعدة أسر المنتقلين وتأسيس ناد ومكتبة وتنظيم محاضرات ومؤتمرات علمية للخريج ونشر كلمة الله وطبع الكتب الدينية والاهتمام بالمحافظة علي عقائد الكنيسة وتقليدها ونشر اللغة القبطية والاهتمام بإنشاء جميعات لتعليم الفقراء والمساعدة في تزويج الفتيات الفقيرات وجمعيات لمواساة العميان والعجزة لتصبح الأمة القبطية كتلة واحدة لخير الكنيسة كما اهتم أن يصدر مجلة الكرمة التي كانت تحوي كثيرا من المواضيع التي تخص الكنيسة وعقائدها ومجتمعها وأصدر كثيرا من المطبوعات والكتب المتخصصة في الإيمان واللاهوت والعقيدة.. نعم لقد كانت الكنيسة محتاجة في هذا الوقت من الزمان لحبيب جرجس عملاق التعليم الكنسي الذي عاش للإكليريكية خادما وحارسا ومفكرا في مستقبلها مؤكدا علي كرامة الإكليريكي والإكليريكية مقنصا قرارا بطريركيا مجمعيا ينص علي رسامة الإكليريكي وليس غيره.. بل زاد في حلمه ليقيم كيانا إكليريكيا يسمي(التعاون الإكليريكي) لصالح وخير الكنيسة.. فنعم المجاهد والخادم الذي بذر وتجني الكنيسة بذاره الآن في القرن الواحد والعشرين آملين أن قافلة الإكليريكية تسير ببركة صلواته مهما توجهت إليها سهام العدو الشيطان. وللموضوع بقية إن شاء الرب وعشنا.