كم مرة يخطأ إلي أخي وأغفر له؟
السياق المباشر لهذا المثل هو سؤال بطرس: يارب,كم مرة يخطأ إلي أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ (متي18:21). يجيب يسوع داعيا بقوة إلي تغيير العقلية وإلي اكتشاف حقيقة الخلاص التي أتي بها ملكوت الله المتمثل في شخصه.وفي داخل نظرة الخلاص هذه,لا الكلمة الأخيرة للرحمة لا للشريعة: تلك الرحمة التي أعطانا إياها الله بطريقة لا تخطر علي بال والتي لا قياس لها,وهي ما نحن مدعوون إلي ممارسته الآن في علاقاتنا مع الآخرين.
لقاء الملك مع الخادم. إن العبارة أتي به توحي أننا أمام مشهد القبض علي العبد بسبب الدين الذي عليه للملك. يقدر الدين بعشرة آلاف وزنة,أي ما يقارب المائة مليون دينار: تحديد الدين في إطار النص مهم,لأن السامعين يعرفون جيدا أن الدينار كان المبلغ الضروري لمصروف عائلة بأكملها في اليوم. نحن إذن أمام دين ضخم خيالي: فقد كانت العشرة آلاف هي أعلي المبالغ في ذلك الزمان,وكانت الوزنة مبلغا نقديا ضخما. الدين إذن كبير جدا ولا يمكن تسديده. ولكي يسترجع علي الأقل جزءا بسيطا مما كان له أمر الملك لا أن يباع الخادم فحسب,بل أثاث البيت أيضا,وكذلك الزوجة والأولاد. لا شك أن بيع الزوجة والأولاد بالذات قد أصر في السامعين,الذين كانوا يعلمون أنه بحسب الشريعة العبرية,لا يمكن للمرأة أن تباع,وأن الرجل فقط كان يباع إذا اقترف السرقة,في حال لم يكن لديه ما يعوض السرقة.
أمام هذا الموقف القاسي,لم يبق أمام الخادم المحكوم عليه إلا أن يجثو عند قدمي سيده,متذللا ومتضرعا,محاولا تحريك مشاعره: يطلب منه عمل رحمة يصاحبه وعد: أمهلني أؤد لك كل شئ,الأمر الذي يعبر عن صرخة كآبة ويأس مع رغبة حقيقية في تسديد الدين. يقوم الخادم الذي انتهي أمره بالمجازفة بكل شئ من أجل كل شئ,وهنا يحدث ما لم يكن في الحسبان: إذا لم يطلق الملك الخادم فحسب,بل يعفه أيضا من الدين. يرد الملك إذن علي طلب الخادم بعمل مبالغ فيه: فهو لا يشفق عليه فقط,كما طلب منه الخادم,بل يعفيه من الدين,منتقلا من منطق القانون الذي كان يضمن ما كان له إلي العمل بمنطق الرحمة. يظهر هنا الفرق واضحا بين القساوة التي كانت ظاهرة في بداية المثل,والطيبة التي تفوق حتي توقعات الخادم المدين: وبهذا الفرق,ينتهي الجزء الأول من المثل.
لقاء الخادم مع صاحبه. وبعد ذلك لقي هذا الخادم خادما من أصحابه,قد يكون عاملا عنده,كان مدينا له بمبلغ زهيد,هو مائة دينار. لا شك أن تصرف الخادم كان غير متوقع: فأخذ بعنقه يضيق عليه,وطلب منه أن يؤدي حالا ما عليه من الدين كاملا.
يتوسل الخادم المسكين,تماما كما فعل الخادم الأول أمام الملك,ويستعمل الكلمات ذاتها: أمهلني أؤده لك. الفرق هنا هو في أن الوعد بتأدية الدين قد يكون ممكنا,لأن المبلغ المطلوب لم يكن كبيرا: فلم يكن علي الدائن عمليا إلا أن يصبر قليلا.ومع ذلك,تنتهي الحادثة برد فعل قاسي من الخادم الأول: ألقاه في السجن إلي أن يؤدي دينه. لا يوجد سبب لبيع المدين كما يفعل بالعبد,لأن الدين الذي كان عليه أقل من أن يلجأ إلي بيعه. كان القانون يأمر في الواقع بحكم السجن,لكي يجبر أهل المسجون علي تعويض المبلغ,ولكي يرغم المدين علي بيع أملاكه. يتصرف الخادم إذن هنا مع صاحبه تماما بما تفرضه القوانين السائدة,وهكذا يظهر الفرق واضحا بين تصرفه الشديد القسوة وبين الرحمة التي عامله بها الملك.
حكم الملك. ولما علم الملك بما جري,غضب: دعاه وقال له: أيها الخادم الشرير…ولنلاحظ هنا جيدا سبب توبيخه: ذاك الدين كله أعفيتك منه. إن ما حصل مع الخادم كان يجب أن يدفعه إلي أن يقوم بالعمل ذاته مع من هو تحت إمرته: أفما كان يجب عليك أنت أيضا أن ترحم صاحبك كما رحمتك أنا؟.
وعدم رحمة العبد لرفيقه هو سبب الحكم القاسي الذي نطق به الملك: وغضب مولاه فدفعه إلي الجلادين,حتي يؤدي له كل دينه,تاركا لنا أن نفهم أن هذا العقاب أبدي,لأن الدين لا يمكن تسديده. عيش المغفرة علي أنها انعكاس للمغفرة التي تسلمناها من الله,وعلي أنها شرط في العلاقات بين الإخوة.
ينتهي المثل بوصية لا تفسح المجال للهرب: عليك أنت أيضا أن تغفر. إن المغفرة التي يمنحها الله بلا شروط في شخص ابنه تصبح هي الشريعة للعالم الجديد الذي يريد أن يبنيه: فالمغفرة بالنسبة له ليست خيارا,ولا حتي مكافأة.بل واجب لا يقبل أي استثناء (لذلك يجيب يسوع بطرس: سبعين مرة سبع مرات أي دائما). إن عدم العمل بهذه المغفرة يعني أننا نستبعد ذواتنا من ملكوت الله,كما يعني وضع ذواتنا المنغلقة حاجزا أمام رحمة الرب. وعلي هذا الأساس سيتم العقاب النهائي,الذي ليس هو انتقام الله الذي لا يقبل عصيان أوامره,بقدر ما هو الرفض الإرادي لمحبة الله.من ليس مستعدا لمحبة الإخوة لدرجة المغفرة دون حدود,يبعد ذاته عمليا عن الرحمة التي يقدمها الله له بمجانية وبلا شروط. كما تعلمنا الخبرة أن من لا يحب الآخرين يصبح غير قادرا علي محبة ذاته,ولا يسمح للآخرين بمحبته,ولا يستطيع أن يتقبل معطيات ومؤشرات المحبة التي يقدمها له الأشخاص والحياة. فكثيرا ما نظن أن المغفرة عمل استثنائي,مرهون بإرادتنا في حالات خاصة,والواقع أن المغفرة بالنسبة للإنسان المسيحي هي السلوك الطبيعي الذي يميز خياراته وتصرفاته.
المغفرة هي المقدرة علي أن نعيد إلي الآخر الثقة والأمل,وليس فقط مجرد الصفح عن الخطأ المرتكب.إن المغفرة التي أعطانا إياها الله,والتي نحن مدعوون إلي عيشها,ليست تنازلا بل تمارس بفرح. لا تستطيع أن تصبح مجرد نسيان للخطأ أو للإساءة.
تسمح مغفرة يسوع بفتح مستقبل جديد لمن هو أمامنا,وإمكانية جديدة للفداء والكرامة,من خلال الثقة التي يمكن أن تبدل حياته. المغفرة المسيحية ليست محوا للديون,إنما هي فتح حساب للآخر جديد في بنك حياتي.
هذه هي المغفرة المتوجبة علينا لإخوتنا,المدينين لنا بمبلغ بسيط لا يذكر,مقارنة مع ما علينا نحن من ديون تجاه الله: وهي مغفرة تعيد الثقة والأمل إلي الآخر ليستطيع أن يكون ما هو ليس عليه بعد. إن يسوع قادر علي الخلق وعلي إعادة الخلق,ويؤهلنا لإقامة علاقات جديدة.
يلخص لوقا الإنجيلي نوعية المغفرة المسيحية قائلا: كونوا رحماء كما أن آباكم السماوي رحيم (لوقا6:36).
المغفرة هي نهج حياة تشمل كل مجالات حياتنا. ويجب أن تظهر مغفرة الله في جميع مجالات حياتنا البشرية,وأن تصبح نمطا لعلاقاتنا مع الآخرين. هي تعطي الحياة قيمة,لأنها تسمح دوما بفتح آفاق ومسيرات إيمان جديدة,وتصبح المحبة هي القدرة المستمرة علي الغفران وبلا حدود.
للأب روماني أمين اليسوعي