(مرقس 16:1-20)
وكان يسوع سائرا علي شاطيء بحر الجليل, فرأي سمعان وأخاه أندراوس يلقيان الشبكة في البحر, لأنهما كانا صيادين, فقال لهما:##اتبعاني أجعلكما صيادي بشر##. فتركا الشباك لوقتهما وتبعاه.
إن سرد دعوة هؤلاء الرسل الأولين هو تذكير بالدعوة الموجهة إلي كل إنسان, لأن كل إنسان مدعو إلي اتباعه. فحياتنا الإيمانية هي مبادرة من الرب تحوي جميع حيثيات الدعوة. فالحياة المسيحية, قبل أن تكون سلوكا وتصرفات, علاقة شخصية وعميقة ويومية بالرب يسوع, الذي ##يمر## و ##ينظر## إلي كل واحد منا. والذين تتكلم عنهم صفحة مرقس التي نحن بصددها هم أشخاص بسطاء وعاديون, لأن دعوة يسوع لا تتوجه فقط إلي المتقدمين في الحياة الروحية بل إلي كل من يصغي إلي صوته.
فيسرد لنا الإنجيلي مرقس دعوة التلاميذ الأولين فورا بعد دخول يسوع إلي الجليل وإعلانه لإنجيل الله (مرقس 14:1-15).
في البداية, هناك حركة الداعي الي المدعوين: (سائرا / وتقدم قليلا). إن الحركة كانت قبلا علامة علي أخذ مبادرة من طرف يسوع. استعمل الفعل الأول (##سائرا##, آية 16) ثلاث مرات, ودائما في شكل الدعوة (علاوة عما ورد فهذا النص الذي نحن بصدده, مع لاوي في مرقس 14:2, ومع سمعان القيرواني في مرقس 21:15, الذي يقدمه مرقس كتلميذ في 8:34). بينما يظهر الفعل ##اجتاز## في هذا النص فقط. وقد ذكر الإنجيلي قبل ذلك حركات قام بها يسوع تشير هي أيضا إلي مسيحانيته وإلي رسالته. إن ##المرور## في (مرقس 16:1) يحقق مجيء المسيح من خلال أحداث الحياة اليومية. فذاك الذي ظهر في الجليل بثوب المسيح, يضع نفسه الآن في مسيرة طويلة علي طرق الإنسان وأماكن عيشه. وليس مروره دون تأثير, ذلك أنه يريد أن يشرك في مسيرته الخاصة مصير كل إنسان يلتقي به.
إن الحركة هي ##بجانب بحر الجليل##. إن مفهوم ##البحر## له معان مختلفة عند مرقس. عندما يتواجد يسوع قرب البحر مع التلاميذ أو مع التلاميذ والجموع, يصبح البحر مكانا للتعليم ولكشف ما كان محجوبا. أما في تسكين العاصفة وفي السير علي المياه , فيظهر البحر قوة معادية ينتصر عليها يسوع, ويكشف بذلك هويته الخاصة لتلاميذه. وعندما كان يسوع يسير علي ماء البحر, كان ذلك علامة وصل بين الأرض اليهودية والأرض الوثنية, كما كان يعمل علامة علي توسيع رقعة الرسالة. أما في نصنا, فالمعني ليس واضحا تماما. فذكر ##الجليل##- وهو يعني بالنسبة لمرقس بدء التلمذة الحقيقية والرسالة (مرقس 14:1-15, 7:16) والوعد بأن يصبح المدعوون ##صيادي بشر##, يساعدان علي فهم معني حركة يسوع هذه. ##بحر الجليل## هنا له قيمة رمزية تعني بدء مسيرة التلمذة والتوجه إلي شمولية الرسالة.
إن مبادرة يسوع, المعبر عنها بالحركة, تتعمق في فعل ##رأي##. وكثيرا ما تكون نظرة يسوع إلي الجموع أو إلي التلاميذ تسبق عملا ينتهي بالاختيار أو بالتحرير أو بالتعليم. ##نظر## يسوع يشبه كثيرا ##نظر## الله في العهد القديم (خروج 7:3-8, تثنية الاشتراع 7:26). وبالفعل, فإن نظر الله علي تاريخ الإنسان ليس نظرا مجردا. فهو ينظر كي يهب للمساعدة, لكي يختار, لكي يوكل رسالة ما. ففي هذا النص, لسنا أمام ##رؤية## محايدة, بل أمام رؤية تختار وتعكس بشكل إنساني حب النظرة الإلهية السامية. وبها ابتدأت تلك الدعوة التي ستكتمل بالدعوة إلي الاتباع النهائي (مرقس 14:2, 21:10). وكون الكلام فقط عن نظرة يسوع إلي الآخرين لا عن نظرة الآخرين له, يدل أن مبادرة الدعوة أتت منه ومنه فقط.
التقي يسوع بالتلاميذ الذين سيدعوهم بينما كانوا منهمكين في التزامات عملهم اليومي: فكانوا يلقون أو يصلحون الشباك. لقد رأينا كيف أن ذلك أمر أصبح يشكل ##نموذجا للدعوة##. وهذا يساعدنا علي إدراك أن مبادرة يسوع لا تأتي من خلال ظروف خارقة, بل وسط الأعمال والهموم اليومية. نزيد علي ذلك أن الجملة المعترضة حول مهنتهم كصيادين تساعد علي فهم مهمتم في المستقبل. إن التحول الذي سيقوم به المسيح كبير: من صيادي سمك إلي صيادي بشر. وفي النهاية, واقع الصيد هذا الذي يشغل يومهم, هو نفسه ما يطلب المسيح منهم التخلي عنه لحظة دعوته لهم.
والكلمة الأولي في الحوار تحوي أمرا :##اتبعاني##. ومن ينطق بها لديه سلطة مطلقة علي حياة من يدعوهم. ومع هذه السلطة, يحرك وجودهم ويجذبهم ##وراءه##. يستعمل مرقس كلمة ##وراء## خمس مرات: مرة بمعني زمني (مرقس 17:1), وأربع مرات بمعني مكاني (مرقس .17 20, 1: 34, 8 : 33). إن هذا الاستعمال المكاني, كما هو الحال في النص الذي نحن بصدده, له مغزي, لأنه في الوقت ذاته يشير إلي القرب والبعد من يسوع, وبالتالي إلي علاقة مميزة به أم لا, وإلي السير وراءه بتصميم أم لا. وليس دون معني أن يأتي ذكر المصطلح ##ورائي## الدعوة الأولي في بداية الإنجيل (مرقس 17:1-20) ومن ثم يعود ذكره في بداية المرحلة الثانية من الإنجيل (مرقس 8, 33:34), في إطار التعليم عن ضرورة الصليب المطلقة, بالنسبة للمسيح ولتلاميذه. إن العلاقة الموجودة بين الحركتين تشير إلي أن اتباع يسوع يقود حتما إلي الصليب. كما أن عدم فهم التلاميذ لضرورة الصليب تدل علي أن الجواب الأول علي الدعوة لا يكفي, لانه ليس من النضوج كي يقبل اتباع يسوع المصلوب.
أما الكلمة الثانية في المستقبل (## وسأجعلكما…##,) تعبر عن هدف الدعوة. فإذا كانت الدعوة لاتباع يسوع تصب في الرسالة, فمصير تلاميذ يسوع ليس الانغلاق بل الانفتاح; ليس الفصل عن العالم, بل التجسد في قلب تاريخ البشر. ثم أن صيغة الوعد تدل علي سلطة وقدرة من يلفظه: فالتلاميذ لا يكلفون أنفسهم بواجب الرسالة, بل يسوع هو الذي يجعل من التلاميذ مرسلين. واستعمال صيغة المستقبل تدل أن الرسالة لا تتزامن مع الدعوة. والسبب في ذلك ليس التسلسل التاريخي للأحداث بمعني أن الرسالة تتبع الدعوة منطقيا (مرقس6, 7, 13:30), بل لأسباب لها علاقة بالرؤية اللاهوتية الخاصة بمرقس. فالإنجيلي مرقس هو الوحيد بين الأزائيين (متي 19:4, لوقا 10:5), الذي يضيف الفعل ##اجعلكم##. هذا يدل علي أن مفهوم الرسالة يتطلب مسيرة من النضوج في اتباع يسوع, ومسيرة يقوم بها يسوع نفسه. فهو سيعلم تلاميذه, وسيعمل علي نضجهم التدريجي, وسيساعدهم علي فهم وقبول هويته وطريقه, وهويتهم وطريقهم.
هدف الرسالة إذن هو أن تنبع من مسيرة التلمذة وتسير في خط العيش المستمر مع يسوع (مرقس 14:3). يتم تقديم الرسالة في النهاية علي أنها ##صيد بشر##. وهذه الصورة لم تبرز كثيرا في العهد الجديد لتصف النشاط الرسولي, أو نشاط الكنيسة. الصورة الأكثر شيوعا هي صورة شكل الراعي والقطيع, وهي لا شك مناسبة أكثر.
إن لاتباع يسوع أشكالا مختلفة نسبة إلي الحالة التي يكون عليها عندما يبلغه صوت الرب الداعي. كان المجتمع آنذاك يفرض تبني أنواع مختلفة من الحياة, منها التنازل عن الخيرات وعن المهنة. وهذا الأمر يعني , بشكل من الأشكال, مشاركة يسوع في مصيره. وهذه المشاركة مدعو إليها كل تلميذ في كل زمان وكل مكان. فلا معني لترك الخيرات الخاصة, إن تركنا يسوع فيما بعد أمام الموت أو إذا اتبعناه من ##بعيد## (مرقس 54:14). وهذه العلاقة مع الرب تحمل علي التحرر من روابط أخري تشكل عائقا أمام جواب الإيمان. حتي المكانة الاجتماعية والمرموز اليها بـ ##المهنة##, والتقليد بمعني العادات القديمة, والمرموز إليها بـ من ##الأب##, قد تشكل ##وقاء## أمام متطلبات كلمة الرب الداعية. فدعوة المسيح تفقد, مع وجود هذه العوائق معناها القاطع في حياة التلميذ, الذي, أن وقع تحت تأثيرها, يكف عن النضوج الإنساني والإيماني.
السرعة في الجواب , يتبعه الصبر والثبات في المسيرة. فالحياة المسيحية لا تقوم بقرار أولي, كبير وشجاع, بل بالاستعداد المستمر لترك الرب يهذب النفس في مسيرة من التلمذة الغير منقطعة. وهذا يعني قبل كل شيء الإدراك لفرادة المعلم, الذي لا يحل محله أحد, والذي يعود إليه الجميع كتلاميذ. ومع ذلك, فدعوة يسوع, التي لا تتحول أبدا إلي اكتفاء ذاتي, تجمع التلاميذ في حياة جماعية, مع واجب حمل رسالة الإنجيل إلي كل الأمم.
للأب / روماني اليسوعي