الرب بقيامته أقامنا, وبصعوده يدعونا إلي مشاركته مجد ملكوت السماوات وبالعنصرة يجعل منا له شهود. في هذا الزمن نكتشف دعوتنا الحقيقية: أن نكون في مسيرة دائمة نحو الملكوت, لا نكل ولا نتعب رغم صعوبة الطريق, وضيق الباب. نسقط أحيانا ونحن نسير, نقوم بنعمة الله تائبين ونكمل المسيرة. وجودنا البشري لا ينتهي في هذا العالم, نحن لم نقم مع المسيح لنعود ونموت وندفن, فقيامتنا التي تتم بالرب تأخذ كمال صورتها في حدث الصعود إلي السماء, وجودنا البشري يأخذ قمة معناه في حدث الصعود أيضا. نحن لسنا مجرد مخلوقات بين مخلوقات أخري تتمايز عنها بالكيان أو بالشكل, بل نحن كائن فريد دعاه الرب إلي مشاركته مجد وجوده ورسالته للعالم أجمع.
صعود الرب هو دعوة إلي الرجاء, نرجو علي هذه الأرض ما سبق وحضره لنا الرب يسوع, نحيا في العالم مترقبين ساعة اللقاء, ساعة ملاقاة وجه الرب الحبيب, عندها فقط يصل الإنسان إلي غاية وجوده ويحيا السعادة الحقيقية. حين يعلم أن الأرض هذه في مجرد محطة علي طريق الأبد, نحل فيها حينا ونتوق إلي بيت الآب الأبدي,حيث نتحد إلي الأبد بالله خالقنا في رباط من حب لا ينتهي.
فالصعود هو ليس حدث الهروب من العالم, بل هو يعطي العالم معني وجوده الحقيقي. لم يقل الرب للرسل: إبقوا مجتمعين وصلوا إلي أن تحين ساعة صعودكم أنتم أيضا##, بل أرسلهم إلي العالم ليعلنوا للعالم حقيقة الإنجيل ويعطونه الخلاص. إن عمل الخلاص الذي تم بموت الرب وقيامته لا بد أن يبقي مستمرا من خلال رسالة الكنيسة التي تعلن الإنجيل وتكمل في حياتها وجود الرب ومحبته للبشرية.
حب الرب للعالم ليس اختياريا أو انتقائيا, إنما هو حب شامل. الرب يريد خلاص البشرية كلها, ولأنه يثق بنا, أعطانا أن نكمل نحن عمله هذا. ##هذه هي رسالتنا, أن نحمل الإنجيل إلي الجميع, ليختبر الجميع فرح المسيح يسوع وليعم الفرح كل مدينة ندخلها. هذا هو محور رسالتنا… إن نكون معاونين في حمل الفرح إلي الآخرين… خاصة من هم حزاني أو من قد فقدوا الرجاء##.
وفيما يخص عيد العنصرة كان الاحتفال بالعنصرة القديمة بعد خمسين يوما من الفصح اليهودي. احتفالا بعيد الأسابيع السبعة (طوبيا1/2), لجمع الغلة من منتوجات الأرض (عدد26/28), فيقدمون فيه لله بواكير القمح. ثم راحوا يعيدون, في زمن الرب يسوع, تذكار تسليم شريعة الله القديمة بلوحي الوصايا لموسي النبي علي جبل سيناء.
فحلت العنصرة الجديدة محل القديمة, مثلما حل فصح المسيح محل فصح اليهود, فبعد خمسين يوما من قيامة الرب يسوع, كان حلول الروح القدس علي الكنيسة الناشئة ## بقدرة من عل جعلت الرسل شهودا للمسيح إلي أقاصي الأرض## (أعمال 28/1)
ظهرت حقيقة حلول الروح القدس في الرموز: الرياح الشديدة والألسن النارية والتكلم باللغات: الريح أو الهواء رمز لهبوب الروح القدس, قالها يسوع لنيقوديمس : ## الريح تهب حيث تشاء, أنت تسمع صوتها, ولكنك لا تدري من أين تأتي ولا إلي أين تذهب. هكذا حال كل إنسان مولود من الروح## (أعمال 8/3). لفظة ##روح## تحتوي نسمة الحياة, فالله عندما خلق الإنسان ## نفخ فيه نسمة الحياة## (تك 7/2), وما زال يفعله في كل مرة يتكون إنسان في بطن أمه,وهكذا الروح هو مبدأ الحياة. والرب يسوع في مساء قيامته من الموت ## نفخ في التلاميذ وقال لهم : خذوا الروح القدس## (يو22/20),الروح هو مبدأ الحياة الإلهية في المؤمنين, وهو القدرة علي محو الخطايا: ##من غفرتم خطاياه غفرت## (يو23/20).
فالعنصرة جعلت من التلاميذ شهود يسوع القائم من الموت في قوة الروح. الروح هو لا العهد القديم طريقة عمل الله بشكل خلق جديد. الروح لا يدرك. إنه كالريح. هو حر وهو يحرر. إنه الحياة. إنه الدينامية التي تحول القلوب. نحن لا ندركه في ذاته, بل في عمله, بل في الواقع اليومي: في حياة أناس يعملون في الشعب, يرتدون إلي سر الله, يختارون أعمالا نظنها مستحيلة في منطق البشر. ويأتي شيء لم نكن ننتظره: عالم جديد وحر في الحب والعدالة والسلام.
وحين يورد بطرس نبوءة يوئيل (أع 17:2- 21) فهو يعبر عن هذا التحول الجذري في عالم صار موضوع انتظار الروح. ##أفيض من روحي علي جميع البشر. أعمل عجائب فوق في السماء, ومعجزات تحت في الأرض##.
إن الروح الذي حل, قد عبر عن نفسه تعبيرا كاملا ونهائيا في حدث يسوع المسيح. فالروح هو منذ الآن روح يسوع. وإذ أراد بطرس أن يفسر حدث العنصرة ويوضح معناه, لم يفعل شيئا سوي أنه أعلن إنجيل يسوع في كل ديناميته. وأنهي إعلانه قائلا: إن يسوع الذي قام هو ذاك الذي يفيض منذ الآن, يمنح الروح الموعود به.
فرسالة عيدي الصعود والعنصرة هي دعوة متجددة لكل تلميذ, لا للهرب من العالم ومن واجبات الرسالة المسيحية بحجة الاختلاء والتأمل, بل هي دعوة لكل مسيحي ليكون أداة للسيد, فالرب يثق بنا ويكلفنا, بل ويأتمننا علي إكمال الرسالة ليعم الإنجيل المسكونة. هذا هو يوم انطلاق الكنيسة التي سمعت الرب يدعوها للانطلاق إلي البشارة, ليعم فرح الإنجيل الكون بأسره.
[email protected]