يشكل نص إنجيل اليوم مقدمة إنجيل مرقس. الكلام يدور حول يوحنا المعمدان الذي تتلخص مهمته بالإعداد لمجيء الرب يسوع. من هذا المنطلق يأتي الكلام عن يوحنا المعمدان في مستهل إنجيل مرقس بمثابة المقدمة للموضوع الرئيسي وهو ##إنجيل يسوع المسيح##.
لا يذكر مرقس في بدء إنجيله أن الرب يسوع هو ابن إبراهيم أو ابن داود وذلك لأنه يوجه إنجيله إلي غير اليهود أي إلي مسيحيين من أصل وثني. أما لقب ابن الله فلا يرد علي ألسنة الناس, أعلنه الله عند معمودية الرب يسوع (مرقس 1/ 11) ولم يستعمله الرب ليشير به إلي نفسه إلا أثناء المحاكمة الأخيرة عندما سأله رئيس الكهنة قائلا ##أأنت المسيح ابن المبارك فقال يسوع: أنا هو## (مرقس 14 /26-36). اذا لا يعلن يسوع انه ابن الله إلا عند الآلام وذلك ليشير إلي أنه لا يعرف من المؤمن ابنا لله إلا في آلامه.
##كما هو مكتوب في الأنبياء: هاأنذا مرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي##. هذا بالدقة ما أعلنه الله علي لسان النبي ملاخي. اذا يشير الإنجيلي إلي أن الرب يسوع الآتي بعد يوحنا المعمدان هو الله نفسه. ##صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب…## وردت عند النبي إشعيا (إشعيا 40 /3) وكان يقصد بها عودة الشعب من سبي بابل إلي أورشليم. هذا الاستشهاد من العهد القديم لا يوضح فقط مهمة المعمدان في إعداد طريق الرب بل يشدد علي أن النبوءات آخذة في التحقيق.
##كان يوحنا يعمد في البرية و يكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا##. لا يقصد بهذه الآية إن معمودية يوحنا كانت كفيلة بغفران الخطايا بل أن معمودية يوحنا كانت علامة للتوبة علي رجاء غفران الخطايا. اذا لمعمودية يوحنا طابع الاستعداد للزمن الخلاصي الآتي كما يتضح من ندائه ##توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات## (متي 3 /2). التوبة لا يقصد بها الندامة بل هي التغيير الوجودي الكامل والجذري والتحول إلي الله بالكلية.
عمد يوحنا في بيت عبرة (يوحنا 1/ 28) في غور الأردن شمالي البحر الميت ##وكان يخرج إليه جميع أهل بلد اليهودية وأورشليم##. هذا يظهر الانتشار الواسع لتأثير يوحنا المعمدان علي معاصريه حتي إن بعض الشعب أخذوا ##يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله هو المسيح## (لوقا 3/ 15). كما أن اليهود في أورشليم أرسلوا ##كهنة ولاويين ليسألوه من أنت## (يوحنا 19/1) معتقدين أنه المسيح.
إن وصف يوحنا المعمدان يذكرنا بوصف العهد القديم للأنبياء. فالنبي زكريا يذكر أن ثوب الشعر هو لباس الأنبياء (زكريا 13 /4). وبر الإبل ومنطقة الجلد يذكران بالنبي إيليا (2ملوك 1 /8). قد ورد عند النبي ملاخي علي لسان الرب أن مجيء النبي إيليا سيسبق مجيء يوم الرب وقد أشار الرب يسوع إلي النبي إيليا عندما قال عنه لتلاميذه ##إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي## (متي 11/ 14). المشار إليه باسم إيليا هو يوحنا المعمدان الذي اقتفي آثار إيليا وكان علي نسقه وروحانيته. وهكذا فسر الرب يسوع نبوءة ملاخي هذه بقوله لتلاميذه: ## إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع ان يأتي## (متي 11: 14).
حل سيور الحذاء كان يعتبر من أحقر الأعمال لذلك كان يقوم به العبد. اذا يوحنا يعتبر نفسه أقل منزلة من العبد بالنسبة إلي من بعده. يتكلم يوحنا بصيغة الحاضر وليس المستقبل ليؤكد لسامعيه أن ظهور الآتي هو وشيك وأن عمله هو تدشين هذا الظهور. دور يوحنا شبيه بدور الرسول الذي يسبق الملك إلي المدينة ليبشر بالنصر.
و التعميد بالروح القدس يشير إلي مجيء الله نفسه ليخلص شعبه من العبودية. هذا أورده النبي يوئيل علي لسان الرب القائل: ##ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر… وعلي العبيد أيضا وعلي الإماء أسكب روحي في تلك الأيام## (يوئيل 82/2-92,وأعمال 2/ 17-18). عمل يوحنا يحضر إذا لانسكاب الروح القدس وهذا يتدشن بمعمودية يسوع حين تنفتح السموات وتصبح الأرض مجددا مجالا مفتوحا لعمل الروح القدس.
إن يوحنا المعمدان, كما سبق وقلنا, يعلن مسبقا ويهيئ لعمل المسيا فيما بين الناس. إن ظهوره وكرازته تتميم لنبوءات العهد القديم المتعلقة به. يضع مرقس في بداية إنجيله مقاطع من العهد القديم – الأمر الذي لا يحصل عنده كثيرا كما عند متي ويريد بذلك أن يظهر أن الحوادث التي تأتي في بداية ##إنجيل يسوع المسيح## تشكل تحقيقا للمشيئة الإلهية كما كشف عنها بالتدريج في العهد القديم. حيث يعد الله شعبه أنه سوف يقوده في البرية بواسطة شخص مرسل من قبله هاأنذا أرسل ملاكي وجهك لكي يحفظك في الطريق ويأتي بك إلي الموضع الذي أعددته لك.
إن نبوءة إشعيا تذكرنا أصلا بوعد الله بعودة الشعب الإسرائيلي من سبي بابل إلي أرض الأجداد. وبعد ذلك بدأ هذا الوعد يأخذ معني مسيانيا. لم يكن الشعب الإسرائيلي فقط المسبي بل الإنسانية جمعاء. وينتظر المسيا لكي يحررها من عبودية الشيطان. يكرز يوحنا في الصحراء, وتحقيقا للنبوءة المذكورة أعلاه, يهيئ الشعب لكي يتقبل الحرية و التحرر.