أخذت حادثة تكثير الخبز مكانة مهمة في كل التقليد الكنسي الأول,إذ ترد عند متي مرتين,كما ترد عند مرقس ولوقا.أما يوحنا فيعتمد عليها ليبني إصحاحا مركزيا في إنجيله(الإصحاح6)يتحدث فيه عن يسوع كخبز أبدي نازل من السماء بالإشارة إلي حادثة إطعام شعب إسرائيل قال له التلاميذإن المكان قفر.في القفر يكون الاتكال علي الله فقط إذ تنعدم هناك الإنجازات البشرية.هذا يعيدنا بالذاكرة إلي العهد القديم حين أخرج الله شعبه المستعبد من مصر وأنزل له المن والسلوي طعاما يوميا في الصحراء مدة أربعين سنة(خروج16).هنا يكرر الرب يسوع ما قام به الله قديما فقط ليؤكد أن الله العامل فيه هو الذي يتمم المعجزة بل ليعلن أنه هو(أي يسوع)نفسه الذي أطعم الشعب قديما في الصحراء إذجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح(1كورنثوس10:3-4).
ونبدأ هنا بقراءة الخطبة عن خبز الحياة.بدأ يسوع فأزال سوء التفاهم.كثر الخبزات,فظل المعجبون به علي مستوي الخبز الذي يشع جوع البطن.أما يسوع فيريدهم أن ينتقلوا إلي الخبز الحقيقي,الذي يأتي من السماء والذي يعطي الحياة للعالم.وهذا الخبز هو يسوع نفسه.الحنين في قلب الإنسان يبقي تطلعا إلي الماضي.آباؤنا أكلوا المن.من يستطيع أن يفعل مثل ما فعل موسي معهم؟واتخذ المن في العالم اليهودي المتأخر طابعا عجيبا,بينما كان في البداية محنة وتجربة.قال حك16:20:وزعت علي شعبك طعام الملائكة.وقال حك16:26:إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده,بل بالكلمة.وفي إنجيلنا تحولت الجموع تحولا تاما.بدأت متحمسة.وها هي الآن تري في تكثير الخبز آية بسيطة وقريبة من الاهتمامات البشرية.إنهم يريدونآية من السماء.لا شك في أن يسوع هو الذي سبب هذاالانقلاب.وبخهم لأنهم لم يروا وراء الخبزات آية طعام آخر أكثر تقوية وأكثر روحانية.
وعلي هذا المستوي لا يستطيع يسوع أن يزاحم الماضي.وفي أي حال,فالتاريخ في تراجع كمارآه يهود ذلك الزمان:فلا تقدم ولا تطور.والفردوس هو وراءنا,في البدايات.إذن لابد من آية أقوي لكي نؤمن أن التاريخ يتقدم.لما حسبوا يسوع ملكا,لم يكونوا بعد قد رأوا فيه المسيح.وها هو يسوع يعتبر نفسه خبز الحياة.فهو وحده يستطيع أن يعطي معني لحياة البشر,ويطفئ عطشهم إلي السعادة.وهذا الاعتبار الهائل يدهشنا.العمل هو شئ صالح.ولكن لا يكفي أن نعمل لكي نكتفي بتأمين لقمة العيش.إذن كيف نعمل عمل الله؟هو الذي يعمل في قلوبنا لكي نحيا,يعمل في العالم لكي يحيا.
ابحث الناس وتحيروا.لا يستطيعون أن يجدوا يسوع لا علي المستوي الروحي ولا علي المستوي المادي.متي جئت إلي هنا؟استعاد نشاطه كأن شيئا لم يكن.ولكن لماذا يمتزج بهذا الشعب الحقير,شعب الجليل؟يجب عليه أن يذهب إلي أورشليم ليظهر سمو مقامه.ولكن هنا أيضا,ليس هدفه طعام الأرض.ما هو جوهري في نظره هو صنعالأبدية,صنع أمور لا تفني.كان المن طعاما مؤقتا,أما الإنسان الجديد فهو نهائي.
ونحن نطرح دوما السؤال علي نفوسنا:إلام نحن جائعون؟ما الذي يحيينا؟هناك جواب واحد يدل علي تعلقنا الكبير بالمسيح وبكلمات الحياة الخارجة من فيه,يتخذ جوع البشر صورا متعددة.وفي هذا المجال نجد نموذجا في مسيرة شعب التوارةفي الصحراءمدة أربعين سنة.هذا زمن رمزي,يدل علي حياة يكتشف فيها الإنسان تدريجيا,وعبر جوعه المختلف الأشكال,أن حب الله,يسوع,خبز الحياة,هو الغذاء الوحيد الذي يشبع جوعه إلي الحياة والحب,جوعه إلي أن يحب ويكون محبوبا.
هذه هي وقفة الحقيقة.فأي كنيسة وأي شعب لم يختبر يوما في تاريخه عبورالبريةلم يكتشف فقره الجذري لكي يكون مستعدا لتقبل عطايا الله!هناكعبور صحراءدراماتيكي:محنة أدبية أو صحية,فترة من الشك والارتياب,جفاف وانفصال عن الآخرين,الشعور بأننا ندور في حلقة مفرغة.
وعلي المستوي الكنسي,قد تكون الرعيةميتةأو متراخية.وعلي مستوي الجماعات,قد تكون أمام أقلية مسحوقة,أو شعب يمزقه الحرب أو التخلف…هناك صحراء الزوجين,صحراء الراهب والراهبة,صحراء المرض والعزلة.صحراء العقل والقلب.
بعد عبور البحر الأحمر,واجه الشعب صحراء الحياة اليومية.مسيرة طويلة إلي أرض الميعاد تتوزعها التذمرات التي تعلن:كفي!إلي أين نحن ذهبوان؟لماذا هذه الطريق؟من هو الله؟أين هو الله؟لماذا جعلنا في هذه المعمعة؟أية آية يصنعها من أجلنا؟وفي النهاية هذه الأسئلة هي أسئلتنا.
وسيتحسر العبرانيون علي الطمأنينة الكاذبة في عبوديتهم القديمة.قالوا:كم مرة فضلنا أن نأكل خبزا طعمه طعم العبودية.أرغفة العبودية متعددة:خبز السهولة.خبز الراحة والرخاء,خبز الرتابة,خبز التراخي والتخاذل,خبز المساومات.
وهكذا تكون عظمة الإنسان بأن يسير ويتقدم منمخيمإليمخيمليجعل جوعه رحيلا إلي المطلق.قلما يختار الإنسانالصحراءفصحراء الواحد تختلف عن صحراء الآخر.ولكن لا بد من عبورها عاجلا أو آجلا.إنها مدرسة نتعلم فيها الحياة,نتعلم فيها أن نفكر ونصلي.وهكذا نتقبل المن,عطية الرب اليومية.حين أتجرد عن كل أجوبتي الجاهزة والسطحية,عن طمأنيناتي القديمة,يجب أنأجوع نفسيلا تقبل بتواضع كسرةالخبزكسرة الإنجيل,كلمة الحياة التي تمنعتي من أن أموت أو أيأس فيصحرائي.من جاء إلي لا يعطش.
أمر يسوع التلاميذ بتوزيع الطعام علي الجموع وهذا يشير إلي المهمة الملقاة علي عاتقهم في قيادة المؤمنين إلي الخلاص,وإلي السلطة التي بموجبها يتممون سر الشكر الذي به يحصل المؤمنون عليخبز الحياة.رفعوا من الكسر اثنتي عشرة قفةهذا رقم رمزي وبه يشار إلي أسباط إسرائيل الاثني عشر وهذا يعني أن خلاص يسوع غني للجميع ووافر حتي أنه يفيض عن إسرائيل ويصبح في متناول الجميع من دون استثناء.