يبدأ إيمان المرأة الكنعانية بفعل جريء. فهي وثنية, غير طاهرة, امرأة, لا تستطيع أن تلمس رجلا (رابي أومعلم), وكانت لديها الشجاعة أن تتجاوز هذه الصعوبات الاجتماعية.الإيمان يبدأ بقناعة وشجاعة تتجاوز النظريات والصعوبات والأساليب المعروفة, وتتخطي ذلك كله لتلتقي شخصا مثل السيد المسيح.
لا نستطيع أن نعتبر حادثة الكنعانية فقط معجزة شفاء,أو حتي معجزة شفاء عن بعد,لأنها تحتوي صفات تميزها عن غيرها أولا:هناك وسيط يتوسل وهو الأم, وثانيا: يضع يسوع عائقا للشفاء, وهذا العائق هو الذي أثار الحوار,
ثالثا: نلاحظ بوضوح إيمان الوسيط أي المرأة وفي نهاية اللقاء نجد الإعجاب بإيمان الكنعانية وإعلان شفاء ابنتها..
ما يثير الأنتباه هنا ليس صنع المعجزة بقدر ما هو الحوار الذي يتغلب فيه إيمان المتوسلة علي مقاومة صانع المعجزة. هكذا يمكن اعتبار هذا المثل حوارا تربويا من نوع خاص لأنه يمثل قمة الحدث والذي يجب علي المتأمل فيه أن يأخذ منه درسا شخصيا لنفسه. ثم قام ومضي إلي تخوم صور وصيدا, وجاءت امرأة, ومجيئها أحبط محاولة يسوع في أن يبقي متخفيا. والذي دفعها إلي ذلك هو أنها سمعت عن يسوع (كما سمعت به المرأة المنزوفة قبلا وشفها), وإنه يساعد كل محتاج وبالتالي فهي تستطيع أن تحصل علي هذا العون. ويحاول القديس مرقس إطلاعنا علي وضع المراة المؤلم: عندها ابنة فيها روح شرير. وهذا الوضع هو الذي دفع المراة إلي أن تخترق سرية يسوع. أن ارتماءها عند أرجل السيد المسيح يمثل الوضع الطبيعي لشخص يتوسل من أجل شخص آخر عزيز.ونحن أيضا, في لقاءاتنا مع الآخرين, نستطيع أن نتعرف عليهم أفضل من خلال معرفة كيفية اقترابهم منا وطريقة عرضهم لحاجاتهم و كيفية مواجهتهم للواقع.
وكانت يونانية كنعانية, الهدف من الإشارة إلي أنها يونانية هو إعلامنا أنها كانت تتكلم اللغة اليونانية وأنها كانت تنتمي إلي الثقافة اليونانية, والتنويه إلي ديانتها الوثنية وعدم انتمائها إلي الشعب اليهودي. وقد ظهر ذلك جليا عندما دعاها الإنجيلي بـ(كنعانية), أي من عرق وأصل وثني. وبالتالي فإن الاختلاف اللغوي والثقافي واضح بينها وبين يسوع. بيد أن هنالك فروقا أخري يظهرها هذا التنويه. فتصنيف المرأة بالكنعانية يشير الي الطبقة الراقية التي كانت تنتمي إليها هذه المرأة, كون الثقافة اليونانية كانت تحتل المكان الأول بين جميع الثقافات, ولم تكن قد بلغت بعد الشعوب البسيطة. أضف إلي ذلك أن الطبقة اليونانية كانت تتمتع بامتيازات قانونية معينة. لذا فوضع المرأة الاجتماعي بعيد عن وضع الفقراء الذين يتعامل معهم المسيح عادة. بقي لنا أن ننوه أن الكلمة اليونانية (كنعانية) تعني من يتردد إلي أماكن معينة لممارسة العادات السيئة, ولربما استخدم القديس مرقس هذه الكلمة ليشير إلي أن المرأة كانت ذات سلوك سيئ أو زانية. و حتي لو كانت كل هذه الملاحظات تخمينية, فإننا نري عمق الهوة بين يسوع والمرأة, وهو ما يخفف من التعاطف مع المرأة الذي يشعر به القارئ في بداية الحادثة. وهكذا فإن القديس مرقس يظهر لنا الفرق الكبير بين يسوع والمرأة, وكأن المعجزة أمرا مستحيلا فعلا.
وتوسلت إليه, بعد هذا الاعتراض يتابع القديس مرقس شرح توسل المرأة إلي يسوع. كانت تلح علي يسوع لكي يطرد الشيطان من ابنتها.هدمت شجاعة المرأة الحواجز اللغوية, وتكونت بين الاثنين علاقة مبنية علي دينامية حركتين: (حالة العوز) و (تقديم الخلاص). إن القاريء ينتظر أن تلاقي هذه الحاجة عند يسوع الاستجابة ونيل الخلاص, بناء علي ما كان يفعله دائما عندما كان يطرد الشياطين حتي من وثنين. أما هنا فإن القاريء يجد نفسه علي غير عادة أمام مقاومة من قبل السيد المسيح. عند هذه النقطة تتسع الهوة بين السيد المسيح والمرأة. فبينما تعيد المرأة الكرة وتتوسل بإلحاح, تصطدم برفض شبه قاطع من قبل يسوع. واستخدام فعلين في زمن الماضي(كانت تطلب منه, وكان يقول لها), يشير إلي المواجهة بينهما والتي سوف تنتهي بجواب المرأة وتأكيد السيد المسيح الإيجابي.
أما هو فكان يقول لها, يظهر السيد المسيح للمرأة وجود عائق كبير صعب التجاوز, هو فرق الديانة. يدور رفض يسوع حول التناقض المجازي بين البنين والكلاب, حيث تشير تسمية البنين إلي الوعي الذاتي لليهود والمشهود عنه سابقا في التقليد الإنجيلي. إن الإسرائيليين محبوبون, كونهم أبناء الله. ومن جهة أخري كان اليهود يدعون الأوثان كلابا. فلا يجب أن نأخذ خبز البنين ونلقيه إلي صغار الكلاب, من المحتمل أن يكون كلام يسوع الأصلي أقسي من ذلك(دعي أولا البنين يشبعون). يشير الخبز هنا إلي الخلاص الذي هو فقط للبنين, والكلاب أي الأوثان هم خارج الدائرة. كيف تستطيع تفسير حكما قاسيا كهذا من فم السيد المسيح؟. التفسير الوحيد هو أن السيد المسيح أراد أن يمتحن إيمان المرأة وثقتها حتي أقصي درجة, ويستخدم لذلك معتقدا كان شائعا في ذلك الوقت وهو أن الخلاص فقط للبنين. وهو بذلك يعطي مجالا للمرأة أن تفصح أكثر عن إيمانها العميق.
نعم ولكن صغار الكلاب, أمام العائق الذي يضعه يسوع نري أن ثقة المرأة لا تتأثر. بالعكس, فإنها تلح أكثر في توسلها. وتتوصل المرأة إلي أن تنادي يسوع بـ يا رب الذي يمثل لقب يسوع المسيحاني,ويوضح هويته. من خلال هذا الامتحان تدرك المرأة أن السيد المسيح هو الرب, كما سيفعل المؤمنون في المستقبل. ثم تستحدم أيضا هي صورة التهميش (ولكن صغار الكلاب, تحت المائدة), وهي بذلك تدرك أنها لا تشكل جزءا من الشعب الوارث للوعد, وتعترف أنها أقل درجة, إلا أنها تنفتح علي شيء أعمق,وهو أنه حان الوقت لأن يشمل هذا الوعد الأوثان أيضا. تعتبر المرأة أن مفهوم الخلاص الذي يقدمه الله لا يقتصر علي شعب واحد وإنما يشمل كل إنسان. وهي تستبق بذلك الكلمة التي سيقولها يسوع في الهيكل بخصوص أورشليم: (إن بيتي هو بيت صلاة لكل الأمم). فهمت المرأة لأن إله يسوع لا يميز بين الأشخاص, وهذا يختلف عن المفهوم الإنساني الذي يميز بين اليهود والأوثان, بين الصالح والطالح. الله يستقبل كل شخص. أمام هذا المفهوم عن الله لا يستطيع يسوع سوي أن يتجاوز الحدود ويلبي الطلب. وكأن المرأة فتحت مجالا جديدا لرسالة يسوع ليخرج من دائرة الشعب المختار إلي جميع الأمم.
إن الكلمة الأخيرة ليسوع تنهي الأزمة: إن الخلاص قد وصل إلي بيتك, أن الحرية قد وصلت إلي ابنتك إن كلمة المرأة المؤمنة تحرر قدرة الله التي تخلص الابنة. وهذه القدرة كانت السبب في تحرير الابنة. ولو أن إيمان المرأة هو الذي حقق الخلاص, إلا أنه يشير أيضا إلي أن السيد المسيح هو الوسيط الذي يصلنا الخلاص من خلاله, وهو الضمان الوحيد الذي يؤكد تحقيق الخلاص الأبدي هنا وأن كل إنسان أراد هذا الخلاص بمحض اختياره وحريته الشخصية.
تنتهي القصة بعودة المرأة إلي البيت لتجد ابنتها معافاة. هناك فقط معجزتان تمتا عن بعد, معجزة شفاء خادم قائد المئة, وابنة المرأة الوثنية. وفي كلا الحالتين نحن نتكلم عن وثنيين. ومن هنا يمكننا أن نستخلص درسا مهما, وهو أن الأوثان فعلا بعيدون. أما بالنسبة للمسيح فلا يوجد بعد, ويستطيع أن يشفيهم أيضا, حتي ولو كانوا ##مهمشين## حسب التفكير الإنساني السائد حينذاك.
نستطيع القول بإن الموضوع ليس موضوع عرق أو دين, وإنما موضوع قلب. وقد أصبحت الكنعانية مثال هذا التعليم. ففي انفتاح قلبها علي إله الخلاص تجد مقابل ذلك طهارة القلب لنيل الخلاص. وقد تجاوز السيد المسيح بسبب إيمان هذه المرأة المسافة بين العبرانيين والوثنيين وأعطي الخلاص للجميع.والحاجة هي التي تدفع إلي التحاور والمقابلة, ونحن أيضا من خلال خبرتنا علينا أن نتعرف علي نواقصنا وحدودنا و آلامنا, وأن لا نرفضها. هذه هي نقطة الانطلاق لكي نعرف أن الإنسان لا يكفي نفسه, وأنه من خلال الطبيعة مدعو إلي التوسل والأنفتاح بثقة. عندما يرفض الإنسان النظر إلي حدوده ويرفض فكرة الطلب, فلن يستطيع أبدا الانفتاح علي فكرة الإيمان العميق والراسخ.. ويمكن أن نتساءل كيف استطاعت هذه المرأة التي تتكلم لغة غريبة أن تحاور يسوع الذي كان يتكلم لغة آرامية, كيف استطاعت بثقافتها المختلفة أن تتفاهم مع شخص يهودي. إلا أنها استطاعت أن تتجاوز هذة الصعوبات منذ بداية الأمر, لا بل تجاوزتها أكثر عندما عبرت عن ايمان لا يتزعزع قائلة إن الله لا يستثني أحدا,حتي أولئك الذين يستثنيهم الناس ويهمشونهم. هذه هي قمة الإيمان. وهكذا فإن هذه المرأة بالنسبة لمرقس تستبق الحلم الحقيقة, وهو أن الذين يؤمنون بهذا الإله, بالرغم من اختلافهم, يشاركون في خبز الحياة والأخوة التي يجدها المؤمنون عندما يجتمعون حول الإفخارستيا. إن هذه المرأة تنشد إنسانية يجتمع فيها البنون (والكلاب) معا لكي يكونوا إخوة جديدة وعميقة. وهذا ما حقق لها الخلاص (من أجل كلمتك هذه ابنتك قد خلصت).
نخرج مع هذا النص الشجاعة بتخطي الأحكام المسبقة, والطرق السهلة لمقابلة يسوع, وأن نعي أنه من خلاله نستطيع أن نجد كل الحلول لمشاكلنا. وكذلك يظهرالإيمان كمسيرة شخصية. لا نكتفي بالسماع, بل يجب علينا أن نتجاوز الأحكام المسبقة لنحقق اللقاء مع كلمته وعلاماته.في النهاية, الإيمان بهذا الإله هو الإقرار أن هناك خبزا لجميع الناس ومن أجل خلاصهم. خبز الإفخارستيا الذي يؤدي إلي الخلاص ونحن أيضا, من خلال مشاركتنا في ذبيحة يوم الأحد الإفخارستية, نستطيع أن نسلك طريق الخلاص الذي اختبرته هذه المرأة.