في زمن المجئ قبل عيد الميلاد, الصرخة التي كانت تعبر عن حاجة الإنسان إلي الله, إلي مخلص, وحاجتنا إلي الله, هي صرخة نصرخ بها نحوه تعال أيها الرب يسوع ولا تبطئ بعد. فلقد كانت دعوة انتظار وشوق إلي مجئ المخلص, كانت أمالا وأشواقا للتوجه إلي الله.
أما في الزمن الأربعيني تنعكس الآية وتتغير الأوامر الملحة ويتغير مسار الطريق, إذ تتحول التساؤلات وتصبح صرخة من الله إلي الإنسان, ويقول لنا الرب: توبوا… آمنوا… ارتدوا… ولا تقسوا قلوبكم…..
فالصوم الأربعيني, دعوة لمسيرة تحرير ولمسيرة حرية. وهذا يتطلب أيضا ألما وموتا, وسعيا إلي الربح الأكبر إلي الحرية الحقيقية والكاملة. فهو مسيرة تحرير من عبودية الخطيئة… هو مسيرة تحرير من الإنسان القديم… وهذه المسيرة نحو الحرية تتم بصورة فردية وبصورة جماعية.
أولا مسيرة فردية: إذ يسير كل واحد منا ويقطع الطريق بأي لون يختاره وبالروحانية الإنجيلية التي يراها ملائمة له والتي تساعده للوصول إلي الحرية الحقيقية إلي فجر أحد القيامة.
ثانيا مسيرة جماعية: إذ نسير كعائلة واحدة يدا بيد, نحو الحرية الحقيقية التي توصلنا أيضا إلي فجر أحد القيامة, وبهذه المسيرة الجماعية, تقوي المسيرة الفردية ونسند بعضنا بعضا لكي نتحرر. فالزمن الأربعيني هو زمن توبة… مسيرة أربعين يوما نحو المصالحة مع الله, حتي نستطيع الوصول إلي عيد الفصح, إلي القيامة, ونحن متصالحين مع الرب, ومرددين هللويا.
نصل إلي القيامة بعد المرور بالآلام وبالصليب وظلمة القبر. نصل إلي القيامة تاركين الإنسان القديم ومرتدين الإنسان الجديد. نصل إلي القيامة تاركين الخطيئة وممتلئين من النعمة. وهكذا نبدأ مع الآب السماوي مسيرة من مرحلة الولادة, من الطفولة فنكون أطفال الله ونجعله يمشينا بيده نحو الطريق التي يريدها. ويعلمنا الكلام بلغته الخاصة, ويربينا التربية الإنجيلية ويجعلنا ننمو ونترعرع علي صورته ومثاله.
فزمن الصوم هو زمن التوبة والمصالحة مع الله توبوا وآمنوا فقد اقترب ملكوت الله. ماذا نعني بالتوبة؟ التوبة هي الندامة الحقيقية والندامة علي خطايانا. والتي بها رفضنا الله ورفضنا إرادته, وسرنا حسب إرادتنا الخاصة. وتقوم التوبة علي كره خطايانا وأعمالنا التي أهنا بها الله وابتعدنا عن خط إرادته. والتوبة أيضا هي الرغبة في الرجوع إلي أحضان الأب: سامحني يا أبت, قد أخطأت إلي السماء وإليك.
الصوم مقرون دائما بالصلاة: وهذه وسيلة أخري فعالة تعني ببساطة طلب أن تتحقق مشيئة الله علي حياتنا وأن يتدخل بقدرته العزيزة لإنقاذنا من شدائدنا مع الثقة التامة بأنه سيستجيب لنا لأنه أب محب للبشر ويريد لهم الخير, طبقا لقول المعلم: اسألوا تعطوا, اطلبوا تجدوا, اقرعوا يفتح لكم شرط أن تكون الصلاة نابعة من إيمان قوي وقلب صادق بار لأن صلاة البار لها اقتدار عند الرب.
أما الصدقة فتلازم الصوم والصلاة وكأنها لا تنفصل عنها أبدا. فما يوفره الصائم ليس له بل لغيره من المحتاجين والفقراء. وما أحوجنا في هذه الظروف الصعبة جدا إلي فتح أحشاء الرحمة نحو إخوتنا, وتعلم المقاسمة في كل شئ. إذا شاركنا في احتياجات بعضنا بعضا. إننا فقراء ولكننا نغني كثيرين كما يقول الكتاب, فالمحبة ليست في الأخذ والعطاء بل في المشاركة. إن هذا هو الوقت المقبول والمناسب لنمارس هذه القيم الروحية والإنسانية والإنجيلية, بدلا من أن ننتظر العون من الخارج. إن قوتنا في وحدتنا وتلاحمنا مثلما نري الفقراء حول يسوع يوم ميلاده مثلما كانت رعاية الفقراء أحد الاهتمامات الرئيسية لدي الجماعة المسيحية الأولي مثلما ابتدأ القديسون طريقهم نحو الله بتوجههم نحو الفقراء هكذا علينا أن نجد الفقراء في الخطوات والنبضات الأولي من حياتنا وفي مسيرتنا اليومية.
ليس الصوم إذن مباراة ولا أرقاما قياسية نسعي لتحقيقها وللتباهي بها. لذلك نحن بحاجة إلي ذهنية إيمانية للصوم, أي أن نروحن صومنا بحب الله والقريب وبأعمال تظهر التوبة. فقبل القانون نحن بحاجة إلي روح. دعوتنا في هذه المسيرة الأربعينية إلي أن نبحث عن التكامل وليس التفاضل في الصوم. الصوم المقدس ولا يمكن أن يبقينا محايدين أو مرتاحي الضمير إذا لم يقدنا إلي مسيرة توبة حقيقية ومشاركة بسخاء إلي خلق مسيرة جديدة في الفكر والقول والعمل اليومي.
إنه زمن النعمة فلنطلب من الله أن يمنحنا نعمة ارتداد القلب ولنطلب منه أن يزرع فينا قلبا نقيا صافيا مستعدا لسماع صوته وكلامه في هذا الزمن المقدس.