تظهر مسيرة الإيمان بطريقة تدريجية ومتتابعة في معجزة إقامة ابنة يايروس
يرتمي يايروس علي قدميه. ينسي وضعه الاجتماعي ويعبرعن ضعفه وحاجته وألمه أمام يسوع. ماتت ابنتك. تجربة كبيرة لأنه يوضع أمام حقيقة مريرة ماتت ابنتك. لم تزعج المعلم؟. أما رد الفعل علي ذلك فلا يأتي من يايروس بل من يسوع الذي يصبح هو بطل الساحة. وعلي يايروس فقط أن يثق, وأن يتبع المسيح للنهاية.
آمن فحسب. يعلم يسوع أن قلب يايروس عامر بالإيمان. لكن المطلوب منه الآن هو الإيمان الصبور والمتأني. يدعو يسوع الرجل إلي أن يتخلي عن أي عزاء آخر لمحنته غير الإيمان. لا يذكر يسوع بماذا يجب أن يؤمن الرجل, أو لماذا يجب أن يؤمن. فقط أن يؤمن بكلمته. وصمت والد الصبية جواب عميق لما يطلبه منه يسوع. واتباعه يسوع يدل علي هذا الإيمان القوي والصامت والمتألم والواثق. وينتهي المشهد بإبعاد من لا يؤمنون عن الساحة. فقط يايروس وثلاثة من التلاميذ يذهبون مع يسوع. وهم نفس الثلاثة الذين يقدمهم مرقس شهودا لأحداث موت المسيح وقيامته (التجلي والنزاع في جثيمانية). وابتاع يايروس ليسوع يدل علي التغير الذي حدث في داخله. فهو الآن ليس والد الفتاة الميتة بقدر ما هو يتبع المعلم.
يبكون ويعولون. ويسوع يقول: لم تمت الصبية. وإنما هي نائمة. يضع يسوع كلامه علي مستوي يختلف تماما عن المستوي الذي يتواجد فيه الحضور. يدعو الموت نوما, ويغير معني الموت من نهاية كل شئ إلي مرحلة انتقالية تفتح آفاقا جديدة. وهو بذلك يدعو إلي إلقاء نظرة إيمان علي الأحداث, وهذه النظرة تغير معني الأمور تغييرا كاملا, والنتيجة استهزاء السامعين بكلام يسوع. وهم بذلك يبقون في عدم إيمانهم ويحرمون أنفسهم من الصعود إلي مستوي أعلي في النظرة إلي الأحداث وفي تفسيرها.
إنها قوة الإيمان. هذا المشهد الأخير هو قمة الحادثة. فالفتاة ماتت والأمر أكيد ولا أحد يضعه موضع الشك. لكن هذا لا يهم لأن يسوع لا يقف عند المظاهر مهما كانت أكيدة.
أخذ بيد الصبية وقال لها: عمل شفائي, مع أن المهم في المشهد هو الكلمة التي ستتبع لا الحركة.
طبيثا قومي. لا تكتفي كلمة يسوع بأن تغير معني الأمور (الموت يصبح نوما) بل تخلق واقعا جديدا. كلمة الله تخلق (كن فيكون). أورد مرقس الكلمة في اللغة الآرامية ليدل علي عمقها وقوتها. وكأن يسوع هو نفسه يسرد الحادثة من خلال النص. أقول لك. يلتزم يسوع التزاما كاملا بما يقول. والكلمة ليس مجرد حروف ينطق بها بل تعبير عن شخصه فقامت. استطاعت كلمة المسيح أن تكسر الموت وأن تخلق حياة جديدة. دهشوا أشد الدهش. رد فعل طبيعي لمن يري لعينه تدخل العالم الإلهي في العالم البشري وتأثيره فيه. والدهشة هي أول الطريق. يعني أن هناك شيئا غريبا يحدث لكن الدهش وحده لا يسمح بفهم معني الحدث العميق.
أوصاهم ألا يعلم أحد بذلك. فيقودنا هذا النص الإنجيلي إلي مسيرة الإيمان الذي ينسي بشجاعة المركز الاجتماعي ليعود إلي الحياة الإنسانية العادية بكل أبعادها. والتجرد عن الأدوار الاجتماعية ورفض الاختباء وراءها, والعودة إلي الحياة العادية الصادقة.
فاهتمام الإنسان الزائد بالمحافظة علي صورته الاجتماعية يمكن أن يعميه عن احتياجاته الحقيقية وعن الاعتراف بحدوده, وانغلاقه في عقلية الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الآخرين.
الخطوة الثانية في مسيرة الإيمان هذه تحول رغبة وتوسل. والمقصود ليس أن تتحول الحاجة إلي ضغط علي يسوع كي يلبي رغباتنا. عندئذ سيصبح إيماننا به مشروطا بتحقيق طلباتنا. إنما المقصود أن نضع رغبتنا لا علي مستوي حاجتنا بل علي مستوي الرجاء والأمل الذي يحمله يسوع لنا.
الإيمان المجرب يغير فينا النظرة إلي الأمور وطريقة فهمها والحكم عليها. فلا يمكن لإيماننا أن ينضج إن لم يتألم. أي أن لم يتواجد في ظروف معاكسة. فالإيمان المجرب لابد وأن يواجه تحديات بشرية مختلفة. ويتقوي فينا الإيمان بقدر ما نثق برؤية الله للأمور لا برؤية البشر. يفتح الإيمان فينا الباب لحياة أقوي من الموت. يحملنا علي قبول الكلمة التي تحيي. لا يحملنا إيماننا علي الثقة الحقيقية الآفاق الجديدة التي يفتحها الله أمامنا فحسب, بل علي الاعتقاد أن هذه الكلمة الموعودة تحققت فينا بوساطة يسوع المسيح.