شهدت القاهرة التاريخية السنوات القليلة الماضية حملة ترميم للكثير من بيوتها فأعادت لها الروح والحياة، ومن ذلك: بيت الهوارى، بيت زينب خاتون، وبيت السحيمى، بالإضافة إلى عودة محكى القلعة، الذى أصبح المقر الرئيسى لاتحاد كتاب مصر، وتقام فيه الليالى الثقافية التى أصبحت لا تقتصر فقط على شهر رمضان بل نراها ممتدة على مدار العام بما تتضمنه من ندوات ولقاءات شعرية ونقدية ومعارض فنون تشكيلية وغيرها من ألوان الثقافة والإبداع ..
وها نحن نشهد حدثا ثقافيا جديدا، فبعد خضوعه لعملية ترميم متواصلة استمرت ثلاث سنوات، افتتح بيت “الست وسيلة” فى الثلاثين من مايو الماضى ليكون مقرا وبيتاً للشعر .
البداية
يقول الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى رئيس بيت الشعر: نبعت الفكرة من علاقتى بالثقافة الغربية عموما والفرنسية بوجه خاص، ووجودى فى فرنسا فترة طويلة أوحى لى بضرورة إنشاء بيت شعر لمصر، فبيت الشعر يعد مؤسسة عالمية؛ لأنه أنشئ فى عواصم مختلفة من العالم “معظم العواصم الأوربية ومعظم العواصم العربية “وقد دعيت منذ سنوات فى التسعينيات لقراءة أشعارى فى بيت الشعر بباريس، ووجدت أن هناك مؤسسة مخصصة لرعاية الشعر بصورة دائمة، وهى مؤسسة مفيدة جدا نحن فى حاجة إليها، فلما عرضت الأمر على الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة رحب على الفور، إذ يعلم أن بيت الشعر ضرورى يستطيع تقديم خدمة تحتاج إليها الثقافة المصرية عامة، فاقترح البيت الأثرى”الست وسيلة”، الذى يعود إلى أواسط القرن السابع عشر” 1664 ” هذا البعد التاريخى يتوافق مع فن عريق مثل فن الشعر ..
ومع أن بيت الشعر قديم – كما يضيف حجازى– لكنه مزروع فى قلب القاهرة القديمة والجمهور العادى البسيط، من هنا نستطيع القول إن بيت الشعر لن يحقق صلتنا بالماضى فقط بل بالحاضر أيضا ً..
ومما هو جدير بالذكر والكلام مازال لـ أحمد عبد المعطى حجازى أن البيت يتبع الآن المجلس الأعلى للآثار التابع بدوره لوزارة الثقافة التى رأت أن تخصصه لهذا الغرض حتى يعود إلى الحياة، فإذا لم يكن للبيت الأثرى وظيفة فى الحاضر، سيتحول إلى ” خرابة”، لذلك فأن الوزارة صنعت حسناً لأن تخصص” بيت الست وسيلة ” بيتا للشعر، كما فعلت مع بيوت أخرى خصصتها من قبل للطفل أو للعود أو للغناء العربى، وبعد أن صدر قرار الوزارة بهذا التخصيص تولى تأثيثه صندوق التنمية الثقافية وافتتح فى الثلاثين من مايو الماضى …
وقد أصدر وزير القافة قرارا بتشكيل مجلس أمناء بيت الشعر، ويضم نخبة من الشعراء والنقاد برئاسة الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى وعضوية كل من :
فاروق شوشة، عبد الرحمن الأبنودى، محمد إبراهيم أبو سنة، الدكتور عماد أبو غازى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، الدكتورة كاميليا صبحى المستشارة الثقافية لمصر بباريس، الناقد محمد حماسة عبد اللطيف، الدكتور حسام نصار الشاعر ورئيس إدارة العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة، الدكتور سعيد توفيق رئيس قسم الفلسفة بآداب عين شمس، الشاعر محمود قرنى، وروعى فى هذا التشكيل أن يكون ممثلا لكل التيارات.
قصة أثر
دعونا نعود بآلة الزمن إلى أواسط القرن السابع عشر، ونعرف قصة هذا البيت …
“الست وسيلة” هى السيدة وسيلة خاتون ابنة عبدالله البيضا( معتوقة – أى تم تحريرها من العتق أو الرق )، ووالداتها عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، وبيت الست وسيلة شيده الحاج عبد الحق وشقيقه لطفى أولادا الحاج محمد الكنانى عام 1664 ( فى فترة حكم الوالى العثمانى عمر باشا ).
رحلت الست وسيلة عن عالمنا هذا فى الرابع من مايو عام 1835 ، وكانت آخر من سكن هذا البيت، لذلك سمى باسمها .
يقع منزل الست وسيلة بحى الأزهر الذى كان يسمى فى أول عهده بحارة كتامة نسبة إلى قبيلة كتامة المنسوبة لدولة الفاطميين، وسكنته إبان فترة حكم جوهر القائد، وتطل وجهة المنزل الشمالية الشرقية على عطفة ” العنبة “، ويعد موقعه متميزا فى قلب القاهرة التاريخية، حيث يجاور مجموعة من الآثار التى تنتمى إلى حقب تاريخية مختلفة منها : منزل الهراوى الملاصق له، ومنزل زينب خاتون، وقاعة شاكر عبد الغنام، ومدرسة العينى، وسبيل ووكالة السلطان قايتباى،
يتكون البيت من فناء مكشوف يتوسطه مقعد من أخشاب غليظة، وفيه قاعة استقبال مستطيلة أرضيتها من بلاطات حجرية وتزينه زخارف إسلامية ورسوم جدارية، ويضم نماذج نادرة من اللوحات الزيتية، كما أن مدخله مصمم بطريقة تمكن ساكنيه من رؤية القادم من الخارج فى ذات الوقت الذى لا يستطيع فيه أحد بالخارج أن يتلصص عما يحدث بالداخل.
الجدير بالذكر أن فريق عمل ترميم البيت اكتشف أن الخبير الفرنسى ” برنار موريه ” الذى عمل فى ترميم بيت الهراوى قد نزع هذه الجداريات وحفظها فى أربعة عشر صندوقا خوفا عليها من الاندثار فى حالة انهيار المبنى، وقد نقلت هذه الصناديق إلى مخازن هيئة الآثار بالقلعة، ومن الأشياء الطريفة التى عثر عليها بمنزل الست وسيلة أيضا هو “حجاب المحبة ” الذى وجد مكونا من ورقتين ومطويا وملفوفا بخيط صوف أخضر اللون مدفونا فى جدران أحد الغرف لتوثيق الألفة والمحبة بين صاحب البيت الأصلى الذى قام ببنائه ويدعى لطفى وبين زوجته صفية .
فرحة غامرة
جاء الثلاثون من مايو 2010 تاريخا يعلن بفرحة غامرة للثقافة والمثقفين عن أول بيت للشعر فى مصر، والذى افتتحه الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة قائلاً : اليوم أشعر بفرحة غامرة بإنشاء هذا البيت الذى يكمل هذه المنطقة الإبداعية، حيث يوجد بيت العود العربى وغيره ليكتمل الإبداع فى هذا المكان التاريخى، ويصبح مليئا بالمواهب والقيم والرؤى، وليكون له دور رائد فى الحركة الثقافية، ويمثل خطوة مهمة فى تاريخ الشعر والثقافة فى مصر .
حضر الافتتاح عدد كبير من الشعراء والمثقفين على رأسهم الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى رئيس البيت، والدكتور عماد أبو غازى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والمهندس محمد أبو سعدة أمين عام صندوق التنمية الثقافية، وحسام نصار مستشار الوزير ورئيس قطاع العلاقات الخارجية بالوزارة، والناقد الدكتور صلاح فضل، والروائى خيرى شلبى، والدكتور مختار الكسبانى أستاذ الآثار المصرية، وكل من الشعراء فاروق شوشة، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وأمين حداد وغيرهم.
وقد منح الوزير بمناسبة الافتتاح جائزة المجلس الأعلى للثقافة فى الشعر فى دورتها الأولى، والتى خصصت للشعر العامودى، والتى تبلغ قيمتها 25 ألف جنيه وفاز بها الشاعر محمد سالم عبادة.
وفى كلمته قال الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى رئيس البيت: إن الشعراء أحق الناس بأن يكون لنا بيت ليصبحواعائلة واحدة، فهذا البيت هو بيت للسلالة التى نطقت بكل اللغات بداية من الهيلوغرفية واليونانية والرومانية والقبطية وحتى العربية الفصحى والعامية.
وأضاف حجازى أن هذا البيت سيجمع الشعراء بكل أجيالهم وطوائفهم وتياراتهم وانتماءاتهم، مؤكدا أنه ليس مطلوبا من هؤلاء أن يتحدوا بل عليهم الاختلاف لأن هذا هو القانون، لكن فى الوقت ذاته يجب الحرص على التواصل وسط هذا الاختلاف.
أن الشعر هو روح مصر العابرة للغات وأنه قد آن الوقت أن يجتمع الشعراء وأن يتصالحوا، ويعملوا سويا لجمع بعثرة الشعر، وبهذه الطريقة يكونون قد صححوا أوضاع الشعر العربى أكمله وليس الشعر العربى فحسب، ويشير إلى أنه مع ذلك فليس مطلوبا من الشعراء أن يتفقوا بل على العكس مطلوب منهم أن يختلفوا، ولكن مع أن تتحقق الأهمية فى قوة الشعر.
وأضاف وإذا كان بيت الشعر أثر من آثار الماضى وللست وسيلة وحدها فاليوم هو لها وللشعراء المصريين، الذين كانوا منذ البداية أصحاب خصوصية وهوية شعرية متميزة ليس فى الوسط الشعرى العربى فحسب إنما على مستوى العالم، فالشعر المصرى أفق مفتوح على شعر العالم، نظم منذ بدء الخليقة بلغات مختلفة.
وقدم حجازى الشكر لكل من ساهم فى إخراج هذا البيت بصورته الحالية بدء من وزير الثقافة الذى أهدى البيت للشعراء المصريين، المهندس محمد أبو سعدة رئيس صندوق التنمية الثقافية وهى الجهة المشرفة ماليا وإداريا على البيت، وجميع من عمل لتحويل الحلم إلى حقيقة وواقع ملموس.
وقد قرأ الشعراء القصائد التاريخية بداية من العصر الفرعونى حتى الآن. حيث قرأ حجازى الشعر الفرعونى واليونانى والقبطى، والذى قام بترجمته للحضور بعد قراءته، وقرأ الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة شعر عمرو بن الفارض والبهاء زهير، بينما قرأ الشاعر فاروق شوشة لكل من محمود سامى البارودى، وأحمد شوقى وعلى محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وصلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وقرأ الشاعر أمين حداد شعر الراحل فؤاد حداد، بينما قرأ الشاعر حسام نصار شعر الراحل صلاح جاهين.
وفى نهاية الحفل قدم الموسيقار العراقى نصير شمة مقطوعتين موسيقيتين ألفهما تحديدا لهذه المناسبة، الأولى بعنوان أمير الشعراء أحمد شوقى، والتى قال إنه بدأ فى تأليفها منذ أن كان مقيماً فى تونس أوائل التسعينيات، والثانية بعنوان السيّاب.
الشعر فى حياتنا
” الشعر فى حياتنا “: هذا هو عنوان مؤتمر الشعر العربى الأول المزمع عقد دورته الأولى اعتبارا من الخامس من شهر نوفمبر المقبل، ممثلا للنشاط الأول الذى يستضيفه بيت الشعر .
==
س.س
25 يونيو 2010