كثيرون في بدء العام الجديد يذكرون أمنياتهم بالنسبة إلي العالم أو الوطن أو المجتمع المحيط بهم أو الكنيسة وهذا كله حسن وواجب. ولكنني هنا أريد أن أسألكم عن حياتكم الخاصة, وحياتكم الروحية بالذات ماذا تريدون لها في هذا العام الجديد؟ لأنه إن صلح كل فرد, صلح المجتمع والكنيسة والوطن..
يسرني هنا أن أذكركم بوعود الرب في سفر حزقيال إذ يقول: وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاساتكم.. وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدا في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم, وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم. وأجعلكم تسلكون في فرائضي. وتحفظون أحكامي وتعملون بها (حز36: 25 – 27).
وعود جميلة: بقلب جديد, وروح جديد.. وروح الله في داخلكم وسلوك وعمل حسب أحكام الله ..
حقا, هذه هي رسالة الله إليكم في العام الجديد, وهذه هي مشيئته الإلهية, وبقي أن تكون مشيئتكم مطيعة لمشيئته.. إن العام الجديد ينبغي أن يكون جديدا في قلوبكم وفي حياتكم العملية, وليس فقط في التقويم الميلادي, وقرب العيد ونهاية الصوم..
وهنا نذكر قول القديس بولس الرسول:
لا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم (رو 12: 2).
أي لا يكون شكلكم أو مظهركم أو سلوككم, هو شكل هذا العالم البعيد عن الله. بل تغيروا عن هذا الشكل أو الأسلوب العالمي… بتجديد أذهانكم..
فيكون لكم ذهن جديد, أي أسلوب تفكير جديد.. نظرة جديدة في المبادئ والسلوك والحياة. لأنه حسب تغيير فكركم, هكذا يتغير أيضا أسلوب حياتكم.
هنا يكون تغيير في الأيديولوجي Idealogy.
تغيير في مثاليا تكفي أهدافك في ماذا تريد أن تكون لأنه حسب اتجاهاتك وأغراضك وتطلعاتك, تكون تصرفاتك في الحياة لتحقيق تلك الاتجاهات.. فهناك إنسان أهدافه علمية, تستغرق كل وقته وكل جهده. وإنسان آخر أهدفه سياسية, يعمل في المجال السياسي وينشغل به. وإنسان ثالث هدافه هو في المجتمع ويريد أن يظهر فيه, ويبني ذاته بأن يكون زعيما يبحث عن مجموعة يقودها ويترأسها.. وإنسان رابع له عمق روحي يفكر في أبديته ويستعد لها, ويجاهد ويعمل أثناء غربته في العالم بما لا يتعارض مع أبديته ..
وحسب نوع الـIdealogy يكون نوع الـMethodology أي حسب نوع المبادئ والمثاليات يكون نوع الوسائل والوسائط العملية.
أي الوسائط التي توصل الإنسان إلي أهدافه.. فما هي وسائلك؟ وهل كلها وسائل روحية يرضي عنها ضميرك؟ أما أن ضميرك أصبح لا يرضيه إلا تحقيق أغراضه, أيا كانت الوسائل والوسائط!!
راجع نفسك في بدء العالم, واسأل نفسك: ما هي طريقتي في الحياة للوصول إلي اما أريد؟ وإن استيقظ ضميرك, فلا تعاتبه ولا تسكته افعل ذلك قبل أن يسكت القلب, وينتهي ضجيج وسائلك..
إن بدء العام الجديد فرصة تجلس فيها إلي نفسك وتحاسبها أو تعاتبها أو تعاقبها.. والمهم هو أن تغيرها إلي أفضل.
في جلستك إلي ذاتك, ليكن لك ضمير نزيه يحكم بالحق ليكن لك ضمير القاضي العادل. فلا تبرر ذاتك ولا تلتمس لها الأعذار. ولا تفكر في تصرفاتك بمبدأ مكيافللي في أن (الغاية تبرر الوسيلة). بل قل لنفسك: ينبغي أن يكون هدفي هو الخير. وعمل الخير يلزم أن يكون خيرا في ذاته وخيرا في غرضه وقصده وخيرا في وسائله.
لأن الذي يستخدم وسيلة خاطئة في عمل الخير, يكون كمن يستخدم الشيطان في الوصول إلي الله!!
في بدء العام تذكر قول القديس مقاريوس الكبير أحكم يا أخي علي نفسك , قبل أن يحكموا عليك وضع أمامك قول الرب في سفر الرؤيا: أذكر من أين سقطت وتب (رؤ 2: 5).
ليكن بدء العام الجديد إذن حافز ا إلي التوبة.
التوبة مطلوبة منك في كل يوم. ولكن العام الجديد يذكرك بها, لكي تترك كل أخطائك القديمة, وتقول مع الرسول: الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا (2كو 5: 17). وهذه الأشياء العتيقة تشمل كل أنواع الخطايا: خطايا الفكر والحس والقلب والجسد.. خطاياك في علاقتك مع الله, ومع الناس, ومع نفسك.. كما تشمل أيضا الفتور والضعف والكسل..
في هذا العام الجديد ضع أمامك خطة للمستقبل:
انظر إلي وضعك الروحي من كل ناحية, وفكر في كيف تعيد تشكيل شخصيتك من جديد, بحيث تتغير إلي أفضل. اسأل نفسك: ما هي الخطايا الثابتة فيك, التي تكررها في كل اعتراف؟ وكيف تتخلص منها؟ ما هي أسباب تلك الخطايا, وما مصادرها؟ وكيف تبعد عن كل تلك الأسباب؟ عن مصادر العثرة جميعها..
ضع لنفسك تداريب روحية, وكن حازما في تنفيذها.
بحيث تكون تلك التداريب في مستواك, وتكون قادرا علي تنفيذها, ولا مانع من أن تتدرج في الفضيلة, ولا تقفز إلي أعلي السلم مرة واحدة, أقول هذا عن التداريب الخاصة بالوسائط الروحية: كالصلاة والصوم, والقراءات الروحية, والتأمل .. أما عن التداريب الخاصة بالتوبة فيلزم فيها الحزم والقطع. لأن استبقاءك لشئ مهما كان بسيطا قد يتسبب في نكسة روحية يرجع بها الإنسان إلي الوراء..
أقول هذا لأن أناسا تمر عليهم الأعوام, وهم كما هم, لم يتغيروا.. بل لهم نفس الأخطاء ونفس الطباع!!
هلاء لم يتوبوا أو لم يريدوا أن يتوبوا, أو ربما يكونون أبرارا في أعين أنفسهم, أو حكماء في أعين أنفسهم ..! لا يرون في ذواتهم خطية تحتاج إلي توبة, أو نقصا يحتاج إلي تلافيه..! ناسين قول الكتاب: لا تكن حكيما في عيني نفسك (أم 3: 7) لا تبرر نفسك, لأنه ليس بارا ولا واحدا (رو3: 10). وقد كان النقد الموجه إلي أيوب أنه: كان بارا في عيني نفسه (أي 32: 1).
المهم أن تثق تماما بأنه يجب أن تغير في نفسك شيئا لأن البار في عيني نفسه لا يري في نفسه شيئا يحتاج إلي تغيير. ذلك لأن نفسه جميلة في عينيه. وطرقه أيضا صالحة في تصوره!! لذلك هو يستمر فيما هو فيه, ولا يتخذ من العام الجديد فرصة لتجديد ذهنه. بل يظل ثابتا في منهجه الفكري بنفس الذهن بنفس الوسائل. لا يلوم نفسه في شئ, ولا يقبل ملامة من أحد.. مثله الذين لم يدخلوا الفلك مع أبينا نوح, ومثل الذين لم يسمعوا لنصيحة لوط البار: فكار كمازح في أعين أصهاره (تك 19: 14). وسقطت نار الله فأهلكت الجميع..
أما أنت فاكتشف أخطاءك, وحاول أن تصلح نفسك وأعرف أن معالجة الأخطاء هي عمل المبتدئين. أما السائرون في طريق الله, فإن منهجهم هو النمو الروحي المستمر, للوصول إلي حياة القداسة وحياة الكمال, واضعين أمامهم قول الكتاب: لنظهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح, مكملين القداسة في خوف الله (2 كو 7: 1). وأيضا: نظير القدوس الذي دعاكم, كونوا أنتم أيضا قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس.. فسيروا زمان غربتكم بخوف (1بط 1: 15- 17).
وفي تداريبك الروحية, كن حازما في تنفيذها:
لأن كثيرين وضعوا لأنفسهم تداريب, ونسوها ولم ينفذوها. والبعض نفذوها ولم يثبتوا فيها والبعض ثبتوا إلي حين ولم يستمروا!
ليكن العام الجديد بالنسبة إليك هو عام حزم وجدية في حياتك الروحية. لا تعرج فيه بين الفرقتين (1مل 18: 21).. بحيث تحاول أن تجمع في قلبك بين محبة الله ومحبة العالم. وهذا محال لأن: محبة العالم هي عداوة لله (يع4: 4). ولأن الأكل من الشجرة المحرمة, يمنع من الاقتراب إلي شجرة الحياة (تك 3: 24). ولا يمكنك أن تضع رقعة جديدة علي ثوب عتيق (مت9: 16) لا تعش في ثنائية وتذبذب..
يوما تعلو ويوما تهبط. بل لتكن توبتك هي تغيير دائم وثابت في حياتك, بحيث لا ترجع إلي أخطائك مرة أخري. ضع حواجز متينة بينك وبين الماضي المظلم فلا تعود إليه, ولا تشتهيه. ولا تترك أبوابك مفتوحة يدخل منها العدو. بل خاطب نفسك مع داود قائلا: سبحي الرب يا أورشليم سبحي إلهك يا صهيون, لأنه قوي مغاليق أبوابك وبارك بنيك فيك (مز147: 12, 13).
واحترس لأنك إن بدأت طريقا مع الله, فسوف يبدأ الشيطان حربا لكي يعوق طريقك..
استعد إذن وإن صادمتك معوقات لكي تكسر تداريبك, فلا تتعجب وكن صامدا. وقل كما قال الرسول عن الشيطان: إننا لا نجهل أفكاره (2كو2: 11). وفي مقاومتك للخطية جاهد بكل قوة وتصميم وتذكر توبيخ القديس بولس للعبرانيين, حينما قال لهم:
لم تقاوموا بعد حتي الدم, مجاهدين ضد الخطية (عب 12: 4).
ما معني (حتي الدم)؟ أي لو أدي الأمر إلي أن تستشهد في سبيل الحفاظ علي نقاوتك.. كما قيل عن الضابط في المعركة أثناء الحرب, أنه يكافح إلي آخر طلقة وآخر رجل.. وأنت أيضا تجاهد إلي آخر ما يمنحك الله من قوة ومن عمل النعمة معك..
وفي جهادك الروحي, جاهد مع الله
قل له كما قال له أبونا يعقوب أبو الآباء: لا أتركك إن لم تباركني (تك32: 26). ورتل من كل قلبك طلبتك في المزمور الخمسين قلبا نقيا اخلق في يا الله, وروحا مستقيما جدد في أحشائي.. قل له مع داود النبي: علمني يارب طرقك فهمني سبلك أهدني في طريق مستقيم (مز25).. انضح علي بزوفاك فأطهر, واغسلني فأبيض أكثر من الثلج (مز50)
وإن ثقلت عليك الحرب, فذكر الرب بمواعيده:
قل له: أين وعدك يارب القائل: أعطيكم قلبا جديدا.. وأجعل روحي في داخلكم, وأجعلكم تسلكون في فرائضي.. وأخلصكم من كل نجاساتكم (حز 36: 26- 29).
قل له: إنني يارب أطرح أمامك ضعفي وعجزي عن تنفيذ وصاياك, واتمسك بوعدك القائل:
تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال, وأنا أريحكم (مت 11: 28).
ثق أنك إن نجحت في صلاتك, فسوف تنجح أيضا في جهادك الروحي.
لأنك سوف لا تجاهد وحدك , بل ستكون يد الله معك, لتنقذك وتقويك..
ولا تقل صلواتك هذه في ليلة رأس السنة فقط, بل طول أيام السنة.
صلواتك وكل جهاداتك الروحية بمناسبة بدء عام جديد, فلتصحبك طول هذا العام الجديد, ولتكن منهجا ثابتا لك. وقل للرب في كل حين:
توبني فأتوب (إر 31: 18) اسندني فأخلص (مز 119: 117).
وحينما يعطيك الله هذه التوبة, حافظ عليها واجعل جذورها تتعمق في قلبك, وثمارها تظهر في حياتك. واشكر الرب علي كل ما يعطيك, متذكرا قول مار إسحق ليست عطية بلا زيادة, إلا التي بلا شكر.
وليكن الله معك وكل عام وأنت بخير