** في حسم حدد قداسة البابا شنودة الثالث موقف الكنيسة القبطية من الزواج الثاني للمسيحيين.. وأعلن في لقائه المفتوح مع الشعب القبطي مساء الأحد الماضي بالإسكندرية وأيضا في لقائه الأربعاء الماضي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية أنه لن يخالف تعاليم الكتاب المقدس تحت أية ظروف ومستعد لتحمل المسئولية كاملة في هذا الشأن, وأضاف: نحن لا يلزمنا إلا تعاليم الإنجيل المقدس ولن نخالف ضمائرنا, ولا يمكن للكنيسة أن توافق علي زواج المطلق إلا بتعاليم الإنجيل مهما يكون هناك من أحكام قضائية.
** جاءت كلمات الرئيس الأعلي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعد أن أصدرت المحكمة الإدارية العليا يوم السبت الماضي حكما بإلزام الكنيسة بالتصريح بالزواج لمن حصل علي حكم بالطلاق وهو ما قوبل بالاستياء والغضب من الكنيسة والشعب القبطي.. وهو ما اعتبره البعض من المطلقين الأقباط طوق نجاة.. لكن كلمات البابا الناطقة بتعاليم الكتاب المقدس أعادت الهدوء إلي النفوس الغاضبة, وأفاقت الحالمين بالزواج الثاني..
ما دار في الساحة القبطية هذا الأسبوع كان بمثابة ناقوس إنذار يدق بشدة علي الأدراج المغلقة التي تخفي بداخلها مشروع اللائحة الجديدة للأحوال الشخصية للمسيحيين – بعد أن تفاقمت حدة المشاكل الناتجة عن استمرار العمل بلائحة 1938 التي تحكم بها المحاكم والمرفوضة من الكنيسة وهي اللائحة التي تعرف بمشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية. حيث وقع عليها جميع الكنائس المسيحية في مصر ومندوبو الكنائس التي لها رئاسات خارج مصر.. وكان أيضا بمثابة ناقوس إنذار يدق للمطالبة بتحريك دعوي النقض في الزواج الثاني للأقباط وفقا للعقيدة الأرثوذكسية وهي الدعوي التي أقامها الأستاذ فكري حبيب محامي قداسة البابا منذ سنوات ولم تنظر حتي الآن!!.
* الاستئناف يرفض
** ومع ما أثاره الحكم من ردود أفعال في كل الأوساط أوضح المستشار منصف سليمان نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق والمحامي أمام محكمة النقض والإدارية العليا حقيقة الأمر في أنه منذ أن بدأت محاكم الأحوال الشخصية في إصدار أحكام بتطليق أقباط أرثوذكس, بدأ بالتبعية الذين حصلوا علي هذه الأحكام يتقدمون بطلبات إلي المجلس الإكليريكي يطلبون التصريح لهم بالزواج مرة ثانية, ولم تقف الكنيسة موقفا متعنتا بالنسبة لهؤلاء المطلقين, وأخذت تدرس كل حالة وتمنح التصريح لمن يثبت لها أنه طلق لسبب يتوافق وأحكام الإنجيل وترفض الحالات الأخري, ومنحت الكنيسة بالفعل التصريح بالزواج لمن كان سبب الطلاق إصابته بالجنون قبل عقد زواجه, أو أنه يعاني من قصور جنسي يحول دون المعاشرة الزوجية.. ومن رفضت طلباتهم لجأوا إلي القضاء المدني, وباءت محاولتهم بالفشل إذ أن محاكم الاستئناف ومحاكم النقض استقرت علي عدم اختصاصها ولائيا بنظر هذا الموضوع استنادا إلي أن عقد الزواج في المسيحية عقد ديني وسر من أسرار الكنيسة.
** يستعرض الأستاذ منصف سليمان في هذا الصدد حكم محكمة استئناف الإسماعيلية الصادر في 2002/3/20. إذ جاء فيه بشأن الدعوي التي أقامها ف.ج ضد قداسة البابا يلتمس فيها التصريح له بالزواج الثاني بعد أن حصل علي حكم بطلاق زوجته س.أ لسوء العشرة وهجرها منزل الزوجية حيث جاء في حيثيات حكم أن الدفع بعدم اختصاص المحكمة ولائيا بنظر الدعوي دفع سديد ذلك لأن المقرر أن السلطات الممنوحة لرجال الدين المسيحي مازالت باقية لهم رغم إلغاء المحاكم الملية بمقتضي المادة الأولي من القانون رقم 62 لسنة 1955 وتتمثل في السلطان الكهنوتي لرجال الدين من حقوق وامتيازات وما يوجب علي المؤمنين بهذا النظام من ولاء وخضوع وأبرز هذه السلطات سلطة التعليم وسلطة منح الأسرار المقدسة وسلطة قبول أو رفض طلبات الانضمام, وأن الزواج وفقا لشريعة الأقباط الأرثوذكس وعلي ما جري عليه نص المادة 15 من مجموعة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس لسنة 1978 سر مقدس يثبت بعقد يرتبط به رجل وامرأة ارتباطا علنيا طبقا لطقوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية, كما جري نص المادة 32 من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس علي أنه يتعين علي الكاهن قبل مباشرته عقد الزواج أن يستصدر ترخيصا بالزواج من الرئيس الديني المختص لأن الزواج سر مقدس, ومن الأسرار التي تدخل في صحيح السلطان الروحي الممنوح لرجال الدين ولا يصدره آباء الكنيسة في الزواج للمرة الثانية إلا إذا كان موافقا لقوانين الكنيسة متفقا مع عقائدها التي تحرم الطلاق إلا لعلة الزنا, وعليه فإن طلب التصريح بالزواج لأبناء طائفة الأقباط الأرثوذكس للمرة الثانية يكون من اختصاص الرئيس الديني لهذه الطائفة وينحسر بالتالي عن ولاية القضاء.
* مخالفة للدستور
بدأ المطلقون يلجأون إلي مجلس الدولة علي زعم من القول إن قرار الكنيسة برفض منحهم التصريح هو قرار إداري, وكان دفاع الكنيسة في هذا الصدد مبنيا علي أن منح التصريح ومنعه لا يعتبر من القرارات الإدارية إنما هو عمل ديني بحت لا يخضع لولاية القضاء, واستشهدت الكنيسة بما استقرت عليه محكمة النقض ومحكمة الاستئناف علي نحو ما سبق إلا أن القضاء الإداري رفض هذا الدفاع وقضي باختصاصه بنظر هذه المنازعات, وبإلزام الكنيسة بإعطاء التصريح بالزواج الثاني!!
لكن الكنيسة ظلت عند عقيدتها استنادا إلي أنه لا يجوز إلزام رجل الدين المسيحي بالقيام بعمل يخالف ثوابت عقيدته الدينية بل تري الكنيسة أن صدور مثل هذا الحكم يعد مخالفا لأحكام الدستور, لأنه يعني إكراه رجال الدين المسيحي علي تزويج مسيحي مصري رغم أن هذا الزواج غير جائز إجراؤه من الناحية الدينية وفقا لثوابت معتقدات الكنيسة, خاصة أنه وفقا للمستقر في أحكام القضاء المدني والإداري وفي إفتاء مجلس الدولة وفي إجماع آراء الشراح أن الزواج في المسيحية سر مقدس, لا يتم إلا بصلاة الإكليل علي يد كاهن طبقا لطقوس الكنيسة, والكاهن لا يقوم بأداء هذه المراسم الدينية إلا بعد أن يستصدر ترخيصا بذلك من رئيسه الديني الذي لا يصدر هذا التصريح إلا بعد التحقق من خلو الطرفين من الموانع الشرعية للزواج وفقا لأحكام الشريعة المسيحية.
* البابا.. ليس موظفا
ينتقل المستشار منصف سليمان إلي قيام بعض الذين أصدرت محكمة القضاء الإداري حكما لصالحهم بإلزام الكنيسة منحهم ترخيص زواج ثانيا بإقامة دعاوي جنح مباشرة ضد قداسة البابا علي أساس أنه موظف عام ممتنع عن تنفيذ حكم قضائي واجب النفاذ, إلا أن محكمة جنح الوايلي أصدرت حكما في 24 نوفمبر 2008 قضت فيه ببراءة قداسة البابا شنودة الثالث استنادا إلي أنه ثبت للمحكمة انتفاء صفة المتهم كموظف عمومي, ذلك أن الموظف العام كما عرفه القضاء الإداري هو كل شخص يعمل في إدارة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام ويخضع لتنظيم لائحي وقوانين تنظيمية عامة تضعها الدولة, في حين أن البابا شنودة هو الأب الروحي لجميع الأقباط الأرثوذكس بجمهورية مصر العربية, وهو بهذه المثابة يرجع إليه في كل شأن من شئون الطائفة, بما في ذلك الأمور الدينية وأحكام الأحوال الشخصية وفقا للإنجيل, ولا يعد في هذا الخصوص موظفا عاما – وفقا لتعريف القضاء الإداري السابق – وذلك لأن تنصيب البطريرك يكون عن طريق طقوس دينية تبدأ بالترشيح ثم الانتخاب ثم القرعة الهيكلية وعندما تعلن الكنيسة تنصيب البطريرك يصدر قرار جمهوري باعتماد تعيينه وليس بتعيينه موظفا عاما.
* حلقات المسلسل
ستظل الحلقات تتوالي مادام مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد حبيس الأدراج, ومادامت محكمة النقض تغض النظر عن دعوي عقيدة الزواج في المسيحية.. وستظل وطني تدق ناقوس الخطر.. انتظرونا العدد المقبل.