لم يكف رنين الهاتف بمنزلي يوم الأحد الماضي, مكالمات تهنئة نتبادلها نحن المهاجرون المصريون الذين أدت بهم الأيام والظروف لأن يتركوا أرض الوطن بحثا عن لقمة العيش, وعن نسمة الحرية, وعن كنوز العلم والمعرفة, ننشدها في بلاد الغرب بعد أن عصت علينا في مصرنا. ولكن ما المناسبة؟ إنه فوز الفريق الوطني المصري لكرة القدم ببطولة أفريقيا للمرة السادسة في تاريخه مبتعدا بفارق بطولتين عن أقرب المنافسين ـ الكاميرون وغانا.
منذ انطلاق الدورة الأفريقية, كنت أسجل المباريات لأعود وأشاهدها في المساء بعد انتهائي من عملي, ومع حبي الشديد لكرة القدم المصرية التي نشأت عليه منذ طفولتي, ازداد تعلقي بمباريات هذه الدورة الأفريقية بالذات بسبب التحسن الملحوظ في أداء اللاعبين معظم المباريات وارتفاع نسبة التسجيل والدقة في التمريرات والتسديدات حتي ارتقي إلي المستويات العالمية بل وفاقها أحيانا. إنبهرت بفوز مصر علي الكاميرون 2/4 في الدور الأول, ثم في المباراة التالية وبعد إحراز أبو تريكة لهدفه الأول خلع فانلة فريق مصر ليعلن عن تضامنه مع شعب غزة – الذي تزامن اجتياحه الحدود المصرية عند معبر رفح مع المباراة – فنال اللاعب إنذارا من حكم المباراة. وفي المباراة التي تلتها, ومع كل أسف, ظهر اللاعب مهزوزا في الملعب وتعادلت مصر مع زامبيا بالرغم من دعوات المعلق طوال المباراة ومدحه لأبو تريكة (اللاعب البركة, الخلوق, وأمير قلوب الشباب) الذي صار أشهر لاعب في العالم. تغير المسار الرياضي الوطني المصري فجأة وانزلق إلي المنحني الديني الخطير الذي يضع الإيمان والورع فوق كفة الميزان, فنضع نحن أيدينا فوق قلوبنا خوفا من أن يخسر الفريق المصري, فنقع معه في (حيص بيص)!! وبالرغم من قيام المظاهرات ”الإسلامية” في معظم البلدان العربية المتعاطفة مع محنة شعب غزة المحاصر, لم نجد تعاطفا مماثلا لذلك الذي أبداه أبو تريكة من قبل باقي اللاعبين المصريين, أو من باقي العرب المسلمين في فرق السودان أو المغرب أو تونس.
تابعت مشاهداتي المسائية, وفازت مصر علي أنجولا بطلوع الروح, أقصد روحنا نحن المشجعين عبر القارات طبعا !!. ثم أجبرت الجموع الزاحفة من غزة إلي العودة إلي ما وراء حدودنا الدولية (بطلوع الروح برضه!!). وصلت مصر للدور قبل النهائي وتحدد لها أن تقابل ساحل العاج ورقصت فرحا لما سحقنا الأفيال برباعية, ولم يخلع أبو تريكة الفانلة مجددا, وإن حباه المعلق بوصفه (بركة تتحرك في الملعب), ولا أخفي استيائي من ذلك الوصف الذي نحي بفن ومهارة وحرفية اللاعب أبو تريكة جانبا, ولم يتركه إلا (ولي من أولياء الله الصالحين), ووصلت مصر للدور النهائي.
لم أتفكر في إمكانية أن يكون لورع المصريين الذي أبدوه في الملعب, وتقواهم وسجودهم شكرا لله ”جماعة” بعد كل هدف يحرزونه, أدني دخل بوصولهم للمباراة النهائية. فلقد خسرت تونس, ووصل إلي نفس المباراة فريق الكاميرون, فالملعب مجال لممارسة الرياضة! فقد وصلت مصر من قبل للنهائي الأفريقي ست مرات وفازت في خمس منها, ولم يكن لاعبوها يتحلون بمثل ذاك المستوي الفريد من التدين, حتي أننا قرأنا أن أبو تريكة كان يقود اللاعبين في حلقة ذكر وصلاة يومية في غانا وطوال الدورة (حتي تحضر الملائكة).
التصقت بمقعدي منذ الساعة الحادية عشر صباح الأحد موعد إقامة المباراة بتوقيت الساحل الشرقي لأمريكا.
وبدأت المباراة بدعاء من المعلق المصري (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) و(ما النصر إلا من عند الله) ولا أخفي توجسي من خاطر أطل فجأة وإن طردته عني سريعا; إلي أي جانب سوف ينحاز الله الآن, فاللاعبون المصريون يبدون في قمة التقوي وقمة اللياقة الذهنية والبدنية, كما أن بعض لاعبي الكاميرون من ”المسلمين”.لكني أدركت أن الله قد رفع يديه الرحيمة العادلة عن مجريات المباراة, وترك أقدام اللاعبين ويقظة أذهانهم ولياقة أبدانهم تحدد نتيجتها. وفاز الفراعنة المصريون بالمباراة وكان نجمها في رأيي المدرب المصري المعلم شحاتة الذي تفهم عقلية لاعبي هذا الجيل جيدا, فصنع بهم ومعهم انتصارا تاريخيا جلس يوثقه ويحلل أسبابه العديد من الكتاب والمفكرين بمصر والعالم بأسره.
ولم يزل رنين الهاتف لا ينقطع في بيتنا!!