دخل باراك أوباما سباق الانتخابات للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة 2008 في تحدي لهيلاري كلينتون وحقق تفوقا في كثير من الولايات وبرهنت هذه النتائج علي أن غالبية الشعب الأمريكي تتطلع إلي تغيير حقيقي, وتعقد الأمل علي هذا الفارس الأسود بعد أن ملت الوجوه المتشابهة والمتكررة . ومهما كانت النتائج فقد أحدث باراك هزة غير مسبوقة في حياة المجتمع الأمريكي لن يضيع أثرها أبدا .
في كتابه ” أحلام من أبي- قصة العنصر والميراث ” يتناول باراك أوباما تاريخ عائلته الأفريقية منذ وصول أبيه إلي أمريكا وعودته إلي أفريقيا بعد انتهاء تعليمه ,حيث ترك باراك وأمه ورحل إلي كينيا . وكان الابن طفلا في الثانية من عمره لكنه كبر ووصل إلي مكانة مرموقة علميا ووظيفيا . وهنا بدأ يفكر في أبيه وقرر أن يذهب إلي أفريقيا ليبحث عن جذوره السوداء . وهكذا أصبح باراك أوباما علامة في المجتمع الأمريكي . وعن دخوله إلي عالم الكتابة يقول باراك أوباما ”إن فكرة الكتابة قد خطرت له, بعد أن تم انتخابه كأول رئيس تحرير من أصل أفريقي لمجلة الدراسات القانونية بجامعة هارفارد”.
وفي نوبة طارئة استيقظ في داخلي حب متواضع للشهرة , تلقيت عرضا من أحد الناشرين فبدأت أكتب قصة حياة عائلتي . إن جهودي في محاولة فهم هذه القصة ربما تخاطب التمزق العرقي الذي طبع التجربة الأمريكية, وأنتج حالة الهوية السائلة _ وتصادم الثقافات _التي تميز حياتنا الحديثة. وأنا مثل معظم المؤلفين بالنسبة للكتاب الأول , امتلأت بمشاعر من الأمل واليأس إزاء نشر الكتاب _ الأمل في أن ينجح الكتاب بدرجة تفوق أحلام الشباب , واليأس لإحساسي بأنني أخفقت في أن أقول مايستحق القول . وجاءت الحقيقة بين بين . كانت التعليقات مشجعة بدرجة معتدلة . فقد حضر الناس جلسات القراءة التي رتبها الناشر .أما المبيعات فكانت مذهلة . وبعد شهور قليلة عدت لمواصلة حياتي العملية , وأنا واثق أن حياتي كمؤلف سوف تكون قصيرة, إلا أنني سعيد لأنني عبرت هذه التجربة بثبات دون أن يحدث شيء يمس كرامتي .
لم يكن لدي إلا قليل من الوقت للتفكير في العشر سنوات التالية من حياتي.إذ دخلت في مشروع تسجيل اسمي كناخب في الدائرة الانتخابية, وكذلك بدأت في تدريس القانون الدستوري في جامعة شيكاغو .و حينئذ اشترينا أنا وزوجتي بيتا , ومنحنا الله ابنتين جميلتين تفيضان صحة وشقاوة .وكافحنا لسداد الفواتير .
وعندما خلا أحد المقاعد في اللجنة التشريعية بالولاية سنة 1996, أقنعني بعض الأصدقاء بأن أرشح نفسي لهذا المنصب, وفعلا تقدمت وفزت بعضوية اللجنة. وقد نصحوني قبل تسلمي المنصب أن العمل بالسياسة داخل الولاية ليس له بريق العمل السياسي في واشنطن; لأنه عمل يتم معظمه في جو من التعتيم , وينصب معظمه علي موضوعات قد تعني الكثير بالنسبة للبعض ولكن يمكن عامة الناس لايهتمون بها, لكنني وجدت هذا العمل مرضيا, إلي حد كبير لأن التدرج في السلم السياسي بالولاية يتيح الفرصة لتحقيق نتائج واقعية ملموسة في زمن محدد كتخفيض الضرائب علي المعدات الزراعية ولتوسع في التأمين الصحي ,أواصلاح القوانين الخاصة بتنظيم المرافق التي تتسبب في موت الأبرياء. كذلك فإن العمل داخل عاصمة ولاية صناعية كبيرة يتيح للإنسان أن يري وجه أمة في حديث متواصل : مع نساء المدينة وزراع القمح والفول, وعمال اليومية من المهاجرين جنبا إلي جنب مع أهل الحضر من رجال البنوك والمستثمرين, فالكل يتدافع لكي يجعل صوته مسموعا , فكل فرد منهم مستعد لرواية قصته.
منذ شهور قليلة , فزت بتسمية الحزب الديموقراطي للترشيح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية اللينوي .كان السباق صعبا في حقل مزدحم بالعديد من المرشحين البارزين المهرة والممولين جيدا,وأنا بينهم بغير سند من ثروة شخصية , أو مؤسسة كبيرة, مجرد رجل أسود له اسم يثير الضحك. ومن ثم رأوني بعيدا جدا عن المرمي .وهكذا عندما فزت بغالبية الأصوات في جولة الانتخابات الأولي للحزب الديموقراطي, في مناطق البيض ومناطق السود علي السواء, وفي الضواحي مثل العاصمة شيكاغو , قيل إن السبب في نجاحي إنما يرجع الي مجلة القانون .وكان التيار الرئيسي للمعلقين يعبرعن المفاجأة كما يعبرعن الأمل الحقيقي في أن يكون فوزي بالمنصب دليل تغير كبير في السياسة العنصرية . و في داخل مجتمع السود , كان هناك إحساس بالفخر لما حققته, فخر ممزوج بالإحباط . فبعد خمسين سنة من مجلس براون الخاص بالتعليم وبعد أربعين سنة من صدور قانون حق الانتخاب, أصبح علينا أن نحتفل بإمكانية (مجرد إمكانية) أن أكون أول أمريكي من أصول أفريقية- والثالث فقط منذ أعيد تأسيس المجلس الذي يتم انتخابه- كعضو فيه. وقد شعرنا أنا وعائلتي, وأصدقائي بالحيرة قليلا بسبب هذا الاهتمام .فقد كنا دائما علي وعي بحجم الفجوة الكبيرة التي تفصل بين التقدير الشديد الذي تنشره الميديا وبين واقع الحياة الدنيوية كما يعيشها الناس حقيقة.
” في ذلك الوقت ,كان أبي بالنسبة لي مازال أسطورة تقريبا . لقد ترك هاواي وعاد إلي أفريقيا 1963,وأنا في الثانية من العمر, عرفته كطفل فقط من خلال القصص التي سمعتها من أمي وجدي ”. تقول أمه إن أباه كان إنسانا أمينا . وقال جده ”هذه حقيقة يا باراك ” كان أبوك قادرا علي التعامل مع أي موقف , وهذا جعل كل شخص يحبه. لقد وافق علي أن يغني في مهرجان الموسيقي الدولي بعض الأغاني الأفريقية ورغم أن صوته لم يكن جميلا إلا أنه كان واثقا من نفسه بدرجة نالت له الإعجاب والتصفيق الشديد. ثم أضاف” هناك شيء ما يمكن أن تتعلمه من أبيك الآن …هو الثقة بالنفس . إنها السر في نجاح أي رجل.”
” لقد بدأت مذكراتي من النقطة التي تمت عندها خطبة أمي لزوجها الثاني . وأدركت عندها دون استفسار أو توضيح السبب الذي جعل أمي تحتفظ بصور أبي بعيدا عني” . ففي ذات مرة وقعت عين باراك علي ألبوم الصور ورأي وجوه التشابه القوية بينه وبين أبيه- الوجه الأسود الضاحك والجبهة البارزة والنظارة التي جعلته يبدو أكبر من سنه. _وعرف أنه كان أفريقيا من قبيلة ليو في كينيا .ولد علي شواطيء بحيرة فكتوريا في قرية فقيرة تسمي أليجو. , لكن أباه- , حسين أونيانجو أوباما-كان مزارعا مرموقا, فهو شيخ القبيلة , وطبيب القرية المعروف بقدراته علي شفاء المرضي.أما أبوه أوباما فقد كان يرعي الماعز ويذهب لمدرسة القرية , التي أنشأتها الإدارة الاستعمارية البريطانية ,حيث أظهر مواهبه الواعدة .وفي النهاية حصل علي منحة للدراسة في نيروبي, وفي عشية استقلال كينيا تم اختياره عن طريق القيادات الكينية والممولين الأمريكان للدراسة الجامعية بالولايات المتحدة , منضما إلي الموجة الأولي من الأفريقيين الذين تم إرسالهم لاستيعاب التكنولوجيا الغربية والعودة بها من أجل تشكيل مستقبل أفريقيا الحديثة.
وفي سنة 1959 , وصل أبوه إلي جامعة هاواي باعتباره أول طالب أفريقي بهذا المعهد. كان في الثالثة والعشرين من عمره. وهناك تخصص في دراسة الإيكونومتريك. كان طالبا مجدا يعمل بتركيز غير مسبوق حتي تخرج بعد ثلاثة سنوات وكان ترتيبه الأول علي دفعته . لقد جمع حوله كتيبة من الأصدقاء مكنته من تكوين اتحاد الشباب الدولي وأصبح هو أول رئيس له . وفي أحد فصول دراسة اللغة الروسية إلتقي أوباما بفتاة أمريكية خجولة , لم تتعدي الثامنة عشر, وتبادلا الحب .أما والدا الفتاة فكانا حذرين في البداية ولكنه أسرهما بسحره وذكائه , وتزوج الاثنان ,وولدت له ولدا ورث اسمه . وحصل أوباما علي منحة ثانية _لكي يدرس الدكتوراه في جامعة هارفارد.-لكن مرتب المنحة لم يمكنه من اصطحاب عائلته الجديدة معه . فحدث الانفصال , وعاد إلي أفريقيا لكي يوفي وعوده للقارة السوداء. أما الأم والطفل فقد تركهما خلفه , لكن رابطة الحب كما يقول باراك, ظلت باقية رغم بعد المسافات .
يقول باراك حتي في القصص المختصرة لتي سمعتها من أمي وجدي وجدت أشياء كثيرة لم أفهمها ولكنني قلما سألت عن التفاصيل التي يمكن أن توضح لي معني ” الدكتوراه” أو” الكولينياليزم ”أوتساعدني علي تحديد موقع قرية أليجو علي الخريطة . لكن استقر في ذهنه شيء ما هو أن أباه لم يكن مثل كل الناس حوله _” كان أسودا في لون القار , وكانت أمه بيضاء في لون اللبن.”
” حقيقة أنني لا أستطيع أن أتذكر إلا قصة واحدة تتناول بوضوح الفروق العرقية . وعندما كبرت ,كررتها كثيرا, وكأنها احتوت مضمون القصة الأخلاقية التي صارت إليها حياة أبي. وطبقا للقصة فإن أبي بعد ساعات طويلة من القراءة والدرس , ذهب وانضم إلي جدي وعدد آخر من الأصدقاء في أحد البارات المحلية . كان كل شخص في حالة مزاجية صافية وسعيدة بالحفل ,يأكل ويشرب علي صوت موسيقي الجيتار.وفجأة وقف رجل أبيض وأخذ يعلن للجرسون بصوت عال حتي يسمعه الجميع أنه لا يجب عليه أن يشرب مشروب الليكر ” بعد أن شرب منه أحد الزنوج ”.ساد الهدوء في القاعة وتلفت الناس نحو أبي متوقعين حدوث معركة .لكن أبي نهض من مكانه وسار نحو الرجل وابتسم له , وأخذ يلقي عليه محاضرة حول غباء التعصب , ووعود الحلم الأمريكي ,والحقوق الطبيعية للإنسان.وعندما انتهي أبي من حديثه شعر الرجل بالخزي فمد يده إلي جيبه ودفع لأبي مائة دولار غطت تكاليف المشروبات كلها وإيجار سكنه بقية الشهر.
الزواج المختلط
لم تحل مشكلة التمييز العنصري حتي سنة 1967-عندما بلغ السادسة , وبعد ثلاث سنوات من حصول دكتور لوثر كنج علي جائزة نوبل , إذ بدأت أمريكا تشعر بالإعياء من مطالب السود في المساواة ,_ فقد أحاطت المحكمة العليا بالموضوع وأخطرت ولاية فرجينيا ”إن تحريمها للزواج المختلط هو خرق للدستور.” وفي سنة 1960 التي تزوج فيها والداي كان الزواج المختلط يعتبر جريمة في نصف الولايات التي يضمها الاتحاد.وفي أجزاء كثيرة من الجنوب كان يمكن لأبي أن يربط في شجرة ويعلق عليها لمجرد أنه نظر بطريقة خاطئة لأمي . وفي أكثر مدن الشمال المتطورة كانت نظرات العداء,والهمسات كفيلة بأن تدفع أمي الي حارة خلفية لإجراء عملية إجهاض. كانت صورتهما معا هي وأبي تعتبر غريبة و شاذة. فهل تسمح لابنتك أن تتزوج رجلا أسود ؟ حقيقة أن جدي وجدتي قد أجاب عمليا علي هذا السؤال ولكن موقفهما مازال لغزا يحيرني. لقد كانت أمي تنتمي إلي أصول اسكوتلندية وإنجليزية. وكان جدودي لأبي ذوي أصول عريقة في خدمة الاتحاد كجنود يحملون الأوسمة والنياشين وينتمون بصلة قرابة إلي الرئيس جيفرسون , بل إن جده وجدته شاركا في الحرب العالمية الثانية بأدوار مختلفة وقد ولدت أمه في إحدي القواعد الحربية .ولهذا فإن باراك يصفهما بالناس المحترمين.