ماذا كان بالضبط المعني التاريخي ليوم التاسع من نوفمبر 1989؟ لما كنت قد أمضيت الجزء الأكبر من صيف ذلك العام في برلين, شعرت بالأسي والمرارة كثيرا لأنني لم أكن موجودا هناك للمشاركة في الحفل ليلة سقوط الجدار. أقصد, أي نوع من المؤرخين الطموحين يفوت التاريخ عندما يصنع؟
صديقتان من برلين جعلتاني أشعر بتحسن أخيرا عندما اعترفتا لي أنهما فوتتا أيضا سقوط الجدار علي الرغم من وجودهما في المدينة المناسبة في الزمان المناسب. كانت إحداهما تغط في النوم بكل بساطة خلال الأحداث العاصفة التي وقعت بعدما أعلن مسئول في ألمانيا الشرقية بصورة عرضية فتح الحدود. حاول شقيقها أن يوقظها, لكنها ظنت أنه يمزح عندما صرخ عبر باب غرفتها: ##الجدار يسقط!## أما صديقتي الأخري فقد تعمدت أن تخلد للنوم باكرا كي تكون في كامل نشاطها لأخذ دروس في اليوجا في الصباح. وقد استغرقت وقتا في الصباح التالي لتدرك سبب عدم قدوم أحد غيرها إلي الصف.
هذا محرج, أليس كذلك؟ إنه أشبه بالتواجد بتروجراد أواخر 1917 وأخذ إغفاءة قصيرة فيما كان البلشفيون يقتحمون قصر الشتاء. أو ربما لا. لم يتبين أن الانقلاب البلشفي هو نقطة تحول تاريخية أساسية إلا بعد انقضاء فترة علي حصوله ففي ذلك الوقت, صورته الصحافة الروسية بأنه مجرد عمل متطرف آخر.
دفعني ذلك إلي التفكير. أيعقل أنني لم أفوت وصديقتاي حدثا ذا أهمية تاريخية عالمية؟ هل يمكن القول إن سقوط جدار برلين لم يكن حدثا تاريخيا بكل معني الكلمة بل مجرد خبر عادي, قصة رائعة للصحفيين إنما ليست بالأمر المهم بعد 20 عاما؟ أيعقل أن ما حصل قبل 10 أعوام من سقوط الجدار في السنة المصيرية 1979 هو نقطة التحول التاريخية الحقيقية؟
لا شك في أنه كان أمرا جميلا للألمان الشرقيين والتشيكيين والمجريين والبولنديين ــ فضلا علي شعوب البلطيق والبلقان وأوكرانيا والقوقاز ــ أنهم تخلصوا من الشيوعية الموحشة واكتشفوا ملذات الأسواق الحرة والانتخابات الحرة (ومشقاتها العرضية). سماه المؤرخ وشاهد العيان البريطاني, تيموثي جارتون, إصلاحا وثورة معا, وهو الذي اكتسح أوربا الوسطي والشرقية, وكان أمرا رائعا لاسيما أن الأنظمة الشيوعية أطيحت من دون إراقة كثير من الدماء. فقط في يوغسلافيا حيث تمسك الشيوعيون بالسلطة متنكرين في زي القوميين الصرب, وقعت مجزرة من النوع الذي يرافق عادة نهاية الإمبراطوريات, والمفارقة هي أن يوغسلافيا كانت أول بلد في أوربا الشرقية ينفصل عن موسكو ويطبق إصلاحات السوق.
قد يبدو التشكيك من الحالات الشادة في الأهمية التاريخية لانهيار الإمبراطورية السوفييتية في أوربا الوسطي ثم انهيار الاتحاد السوفييتي في ذاته. أظن أن معظم الأمريكيين اليوم يتشاطرون المؤرخ في جامعة ييل, جون لويس جاديس, نظرته بأن عام 1989 شهد نهاية الحرب الباردة المكللة بالنصر, وهو نصر حققه قبل كل شيء الرئيس رونالد ريجان, مع أنه حظي بمساعدة نبيلة من مارجريت تاتشر ــ علي الرغم من تحفظاتها الشديدة بشأن النتائج غير المتوخاة لتوحيد ألمانيا ـــ والبابا البولندي يوحنا بولس الثاني.
لكن بالنسبة إلي نصير الحركة التعديلية في جامعة برنستون, ستيفن كوتكين, فإن القصة الحقيقية لعام 1989 هي قصة ثورة زائفة وتهكمية من عل. فقد اعتبر كوتكين في كتابه Armageddon Averted (تفادي أرماجيدون) أن أسعار النفط المرتفعة هي الوحيدة التي سمحت للإمبراطورية السوفييتية المفلسة بالبقاء علي قيد الحياة في السبعينيات من القرن الماضي. والآن, في كتابه التعقيبي الذي يهاجم فيه المعتقدات التقليدية بعنوان Uncivil Society: 1989 and the Implosion of the Communist Establishment (مجتمع غير متمدن: 1989 وانفجار المؤسسة الشيوعية من الداخل), يعتبر كوتكين أنه لم يكن للمعارضين في أوربا الشرقية, وبدرجة أقل بكثير القادة الغربيين, أي دور في الانهيار السوفييتي. لا, لقد حطم ميخائيل جورباتشوف وإصلاحيون شيوعيون آخرون نظامهم الخاص, جزئيا بسبب السذاجة إنما أيضا بسبب رغبة تهكمية في الإمساك بالأصول القيمة القليلة التي يملكها النظام في ما أصبح احتيال القرن: خصخصة صناعة الطاقة الروسية . بالنسبة إلي الأشخاص الأكثر مكرا في المناصب القيادية الأعلي, كان الطريق من جهاز الاستخبارات الروسية (كي جي بي) إلي رجال أعمال في شركة ##جازبروم## قصيرا جدا, ولو كان ملتويا.
إلي جانب استمرار النوع نفسه من الأشخاص الذين حكموا روسيا قبل 1989 في حكمها بعد ذلك التاريخ ــ مع تقدم فلاديمير بوتين إلي الواجهة ــ استطاع هؤلاء أن يحولوا دون حصول انهيار كامل للاتحاد الروسي الشاسع. ولت الإمبراطورية السوفييتية, لكن الإمبراطورية الروسية بقيت إلي حد كبير, وتمتد من فولغوجراد إلي فلاديفوستوك: وهي لا تزال الإمبراطورية الأوربية الأخيرة في آسيا التي تملك امتدادا من الأراضي كان سيبهج بطرس الأكبر.
من هذا المنظار, كان 1989 عام انكشاف لا ثورة: فقد كشف الطبيعة الحقيقية للسلطة الروسية عبر تجريدها من الزخارف المضللة التي كانت ترفعها إلي مقام القوة العظمي. بعد تجريد روسيا من منطقة نفوذها في أوربا الوسطي وتعريض اقتصادها لقوي السوق لأول مرة منذ عام 1914, تبين أنها تقع في مكان ما بين مجموعة ##بريك## (إلي جانب البرازيل والهند والصين, الأكبر بين الأسواق الناشئة في العالم) و##فولتا العليا مع صواريخ## (بحسب التعبير الشهير للمستشار الألماني الأسبق هلموت شميدت), أو ربما نيجيريا مع ثلوج.
لنتوقف عند النقطة الآتية. يتجه الاقتصاد الروسي ليكون بين الأسوأ أداء في العالم لهذه السنة, مع تسجيل توقعات إجمالي الناتج المحلي نسبة انخفاض حقيقية تصل إلي 7.5 بالمائة. يأتي هذا في الواقع بعد انقضاء عقد بلغ فيه معدل النمو السنوي 7 بالمائة, لكن الجزء الأكبر من هذا النمو كان مجرد تجسيد للمعافاة من الركود المدمر الذي أعقب المرحلة الشيوعية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. لم يستعد إجمالي الناتج المحلي الروسي المستوي الذي كان عليه عام 1989 إلا في عام .2006 ولدي احتسابه بالدولار, يتبين أنه يمثل 9 بالمائة فقط من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي (في حين يمثل إجمالي الناتج المحلي الصيني 23 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي). خلافا للعملة الصينية, كانت العملة الروسية في حال تشوش تام العام الماضي, فقد ارتفع سعر الدولار إلي أكثر من 36 روبلا عام 2008 ليعود الآن إلي 29 روبلا. ويصل التضخم من جديد إلي مستوي الرقم المزدوج, مع نحو 13 بالمائة. وكانت الأسهم الروسية الأسوأ أداء بين اقتصادات مجموعة بريك في الأعوام الثلاثة الماضية, فبلغت عوائدها أقل من 12 بالمائة في السنة, مقارنة بــ16 بالمائة للأسهم الصينية.
إذا أضفنا إلي هذه الصورة الاقتصادية السيئة التوقعات الديموجرافية التي تشير إلي أن عدد سكان مصر سيتجاوز عدد سكان روسيا بحلول عام 2045, يصبح واضحا أن الدب الروسي الذي كان يقال عنه إنه جبار هو في الواقع دب عجوز. وهذا ليس مفاجئا مع بلوغ معدل الإصابات بالسل نصف المعدل في بنجلادش, إنما تجاوزه المعدل في الولايات المتحدة بـ27 مرة.
الخطر الأكبر علي الولايات المتحدة هو أنه بعد 20 عاما علي هذا الانكشاف الروسي, نبالغ في إعلاء شأن موسكو, سواء كشريكة محتملة أم كخصم لنا. أحيانا يبدو الرئيس أوباما وكأنه يصدق نظيره الروسي ديميتري ميدفيديف عندما يعرض التعاون مع الولايات المتحدة في مسائل تتراوح من الإرهاب الإسلامي الراديكالي إلي البرنامج النووي الإيراني, ومن هنا قرار أوباما إلغاء وضع أنظمة الدفاع الصاروخي في بولندا والجمهورية التشيكية. لكن الواقع هو أن روسيا الآن هي مسببة للمتاعب أكثر منه حليفة قيد الصنع. فروسيا التي تغتال منتقديها في العواصم الغربية أو تنكث باتفاقاتها مع الشركات النفطية الغربية أو تساعد إيران في التكنولوجيا النووية هي الآن الأقل موثوقية تقريبا بين كل القوي الكبري في العالم المتعدد الأقطاب الجديد والشجاع.
ليست المسألة أن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين يعتقد جديا أنه يستطيع أن يبني من جديد الاتحاد السوفييتي السابق, علي الرغم من أن البعض فسروا اجتياحه لجورجيا العام الفائت من هذا المنظار. بل يجب أن نفهم روسيا اليوم بأنها حالة قصوي مما كان اللينينيون الماركسيون يسمونه ##رأسمالية الاحتكار من جانب الدولة##, وهو نظام سياسي تصبح فيه مصالح الشركات الاحتكارية (جازبروم و##روزنيفت## في هذه الحالة) غير قابلة للتمييز عن مصالح الدولة والنخب التي تديرها.
ليس السؤال الحقيقي عن السياسة الروسية اليوم إذا كانت روسيا ستجتاح أوكرانيا, بل إذا كانت استراتيجية الاستثمار في أنابيب وحقول غاز جديدة التي تطبقها جازبروم سوف تؤتي ثمارها. هل يتعين علي غازبروم التركيز علي تطوير موقعها المسيطر في سوق الغاز الطبيعي الأوربي؟ أم هل يجب إعطاء الأولوية لحقول الغاز الروسية الشاسعة الواقعة شرق الأورال (يامال, القطب الشمالي, الشرق الأقصي) بهدف الاستحواذ علي حصة في السوق في الصين؟ هل يستطيع الروس أن ينشئوا ذات يوم منظمة للبلدان المصدرة للغاز علي طريقة الكارتل النفطي الذي تسيطر عليه السعودية؟ أم هل تقتضي الاستراتيجية الأبسط إذكاء الاضطرابات في الشرق الأوسط بكل بساطة, عبر تشجيع الطموحات النووية الإيرانية سرا إلي أن يشن الإسرائيليون أخيرا هجمات جوية, فتحصد روسيا عندئذ ثمار ارتفاع جديد في أسعار الطاقة؟
تشير هذه الأسئلة في ذاتها إلي الأهمية المحدودة في المدي الطويل للانهيار السوفييتي الذي حصل قبل عقدين. بالمقارنة, لا شك في أن الأحداث التي وقعت قبل 10 أعوام من ذلك التاريخ ــ أي عام 1979 ــ لديها مقومات أفضل تخولها لأن تكون تاريخية بكل معني الكلمة. فكروا فقط في ما حدث في العالم قبل 30 عاما. بدأ السوفييت سياسة التدمير الذاتي عبر اجتياح أفغانستان. وأطلق البريطانيون عملية إنعاش اقتصاد السوق الحرة في الغرب من خلال انتخاب مارجريت تاتشر. ووضع دنج هسياوبينج الصين علي مسار اقتصادي جديد عندما زار الولايات المتحدة ورأي بأم عينيه ما تستطيع السوق الحرة تحقيقه. وبالتأكيد, بشر الإيرانيون بالحقبة الجديدة من صدام الحضارات عبر إطاحة الشاه وإعلان قيام جمهورية إسلامية.
بعد 30 عاما, كانت لكل من هذه الأحداث الأربعة نتائج أعمق بكثير من أحداث 1989 بالنسبة إلي الولايات المتحدة والعالم. اليوم الأمريكيون هم الذين يجدون أنفسهم في أفغانستان يحاربون أبناء الأشخاص الذين سلحوهم في السابق. ونموذج السوق الحرة الذي أرسته تاتشر وريجان هو الذي يبدو محطما عقب الأزمة المالية الكبري منذ الركود الكبير. وفي هذه الأثناء, يلحق ورثة دنج بسرعة بقوة أمريكية عظمي متباطئة, حيث يتوقع مصرف جولدمان ساكس أن يكون إجمالي الناتج المحلي الصيني الأكبر في العالم بحلول سنة .2027 أخيرا, يبقي الإرث الأكثر هولا لعام 1979 هو الإسلاموية الراديكالية التي لا تلهم القادة الإيرانيين فحسب إنما أيضا شبكة معقدة وغير منظورة سوي جزئيا من الإرهابيين والمتعاطفين معهم حول العالم.
باختصار, لم يكن عام 1989 محطة فاصلة بقدر عام .1979 لقد تبين أن انعكاسات سقوط جدار برلين أصغر بكثير مما توقعنا في ذلك الوقت. ما جري في الجوهر هو أننا تأخرنا في كشف الزيف الكبير للقوة العظمي السوفييتية. لكن الاتجاهات الحقيقية في زماننا ــ صعود الصين وجنوح الإسلام نحو الراديكالية وصعود أصولية السوق وسقوطها ــ كانت قد أطلقت قبل عقد. بعد 30 عاما, لا تزال أمواج 1979 التاريخية تجرفنا. وليس جدار برلين سوي إحدي المخلفات الكثيرة للحرب الباردة التي اجتاحتها هذه الأمواج.
فيرجسون, أستاذ كرسي لورنس أيه تيتش في التاريخ في جامعة هارفارد وأستاذ كرسي ويليام زيجلر في كلية إدارة الأعمال بهارفارد. وهو أيضا زميل رفيع المستوي في معهد هوفر بجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب(صعود المال (الذي صدر حديثا.
نيوزويك