حماس منتصرة . هكذا يصر أصحاب الشعارات الرنانة والفارغة من المضمون . . شعارات بعيدة عن الواقع .. بعيدة عن الفهم البدائي لما جري في هذه الحرب التي أحالت غزة خرابا وموتا , دما ودموعا ودمارا .. أعلن المختبؤون في دمشق وطهران , وفي ملاجئ غزة المريحة عن انتصارهم الألهي فوق ركام غزة ودماء أطفالها ودموع نسائها . هل حقا تحقق نصر فلسطيني في انتصار حماس المفترض؟ أم ان نصر حماس كان هزيمة للشعب الفلسطيني الذي انتخب حماس ؟
توهم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في القرن التاسع عشر انه يري ظاهرة مهمة وبالغة الخطورة علي العقل البشري , تسود بعض الفئات الاجتماعية المتعصبة لفكرة او لشخص ما يدغدغ ميولهم , وقد أطلق نيتشه علي هذه الظاهرة تعبير ## أخلاق القطيع ##.. لأنها تطرح أطيقا غير طبيعية من وجهة نظره , سماها ## الرغبة بالعظمة## . وان الوحيد غير العادي الموجود خارج ## أخلاق القطيع ## هو النجم الأعلي …السوبرمان .. شخصا ( أو مجموعة ) مميزا , يظهر كل عدة عقود أو قرن .. وهو شخص (أو حزب أو منظمة أو عصابة مافيا مثلا ) يحق له حسب عقله , ان يعبر بحرية عن قوته الطبيعية وتفوقه علي القطيع . بالطبع نيتشه كان أشبه ببطل أفلام الكاوبوي الطليانية الذي ينتصر بكل الأحوال بقوته الخارقة ولو واجهه جيش من عشرات المسلحين .
لذا ليس بالصدفة ان نيتشه كان المفضل لدي زعيم الرايخ النازي .. الذي قاد شعبه وشعوب العالم لكارثة إنسانية رهيبة من أجل إبراز عظمة الفوهرر كونه السوبرمان لأرقي عنصر إثني ظهر فوق الأرض .وما زلنا نعاني من هذه البدع بأشكال مختلفة حتي اليوم .
بالطبع كلنا نعرف مصير الرايخ وزعيمه ومصير ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان العسكرية , ومصير شعوب أوربا وآسيا وشمال أفريقيا وانعكاس فكرة السوبرمان علي سياسة العالم حتي اليوم بنسختها الأمريكية , التي أبقت قصدا دول الشرق ( كما يدعي البعض ) ما دون الرقي ليبقي السوبرمان مسيطرا وعظيما , وأحضروا لنا المتفوق الدوري ونحن نيام وما زلنا , وجاء هذا المتفوق علي شاكلة الحركة الصهيونية ليبقي العرب في اطار القطيع .. وهو تبرير عربي مخجل وعذر أقبح من ذنب!!ولكنه ليس موضوعنا الآن !!
المستهجن ان بعضنا ما زال يؤمن بالنيتشية ويتصرف حسب مفاهيمها , دون أن يفهمها ودون أن يعرفها ودون ان يفهم أن فكر الوهم الاستعلائي قاد شعوبا عديدة إلي الانحطاط , ويبقي شعوبا داخل أوهام قاتلة بأنها تملك أرقي حضارة … وأن النيتشيين الجدد يحركهم ظنهم أنهم يتمتعون بالتميز البشري عن بقية أبناء شعبهم , وتحركهم مشاعر الاستعلاء علي القطيع .
الموضوع ليس سياسيا فقط .. وليس اجتماعيا فقط . هذه الظاهرة تنتشر علي الأخص بين أشباه المثقفين المتكاثرين في ظل أزمة الثقافة العربية والفكر العربي , وسيادة الفكر الغيبي , فكر الخرافات والشعوذة , فكر تغييب العقل وتغييب المنطق , فكر التهريج بلا أي حس إنساني أو القدرة علي فهم سليم للواقع , والوسائل النضالية الأكثر ملاءمة وتأثيرا في ظروف بالغة التعقيد والتركيب.
من المؤسف أيضا أن الكثير من المثقفين في أيامنا نيتشيون ( من نيتشه) في عقليتهم وتصرفاتهم .. ولكنهم ينسون أو يتناسون أنهم عاشوا جل عمرهم كأفراد من القطيع ولم تتحرر ذهنيتهم من روح القطيع . وأن النيتشية لا تظهر بقرار شخصي , وحسب توقيت , بعد أن طار أكثر من نصف العمر داخل القطيع . إنما هي مسار لمن يفتقد القدرة علي التفكير , ويدور في حلقة مفرغة من المقولات غير القابلة للنقاش .. ومن العقائد التي توهمه أنه سوبرمان في كل نشاطه وعقائده وكتاباته .
يعتبر فريدريك نيتشه من الفلاسفة غير العقلانيين , دعا في وقته إلي القضاء علي القواعد الأخلاقية القائمة ونعتها باللأخلاقية. وكان يري بالفن والأخلاق مجرد ترياق من سموم ( العدمية ), والتي تعني حسب نيتشه أن القيم الرفيعة تفقد قيمتها وتوازي حسب تعبيرهالانحطاط , ويتهم بذلك الأخلاق الدينية والنظريات الإنسانوية علي حد سواء , بما في ذلك النظريات الديموقراطية والاشتراكية التي بدأت تنتشر في فكر النهضة الأوربي . وطور مذهب ## إرادة السلطة ## حيث يسيطر الأفراد ## الأقوياء ## القادرون علي خلع الحواجز الأخلاقية , وهكذا توصل إلي فكرة الإنسان الأعلي ( السوبرمان ) نافيا الأخلاق تماما , وهي ما أعجبت كل الحركات الفاشية وجعلت من نيتشه زعيمهم الروحي وفيلسوف منهجهم القمعي والديكتاتوري الاستبدادي والكارثي علي شعوبهم في الحساب الأخير .
أعود إلي حركة حماس,حيث لا أطرح هذا الموقف ضد حماس . بل أعتبر حماس فصيلا وطنيا مقاوما. ولكن خياراتهم كانت خاطئة وانتحارية بحق شعبهم وبحق أنفسهم .
أوهام قاتلة دفعتهما للمواجهة . ليس وقتها الآن . الثمن الذي دفعه شعبي الفلسطيني غير محمول اطلاقا ويجب ان يجري الحساب مع حماس حول قرارها بالمواجهة.. وهذا نتركه للشعب الثاكل ان يقرره .. هل هو انتصار ؟.. أم هو ##نصر## شر من هزيمة ؟ وإذا كان خياره طريق حماس مرة أخري , سنقف متفرجين بلا رأي ونعترف أننا كنا علي ضلال!!
تري هل تجرؤ حماس أن تتوجه لصناديق الاقتراع كطريق لإنهاء إشكالية الانقلاب علي السلطة الفلسطينية وإنهاء الانشقاق الفلسطيني ؟ أم أن الانتخابات هي مرة واحدة في العمر لإنتخاب الحركة السوبرمان التي لا تتغير إلا بأمره تعالي… ؟!
وأعترف أنه وقت عصي علينا جميعا.. أحدهم وجه رسالة لكاتب من غزة ,أطلق صرخة ألم إنسانية صادقة , يعيش تحت خطر الموت 24 ساعة يوميا ,يري أطفاله يتمزقزن بين يديه , لا يجد لقمة خبز جافة ليطعمهم .. وينصحه أن تتركز جهوده الآن علي تحقيق النصر , ## وبعدها نتحاسب ##. أضحكني .. وتمنيت لو يكون ذلك الشاطر تحت القصف … لساعة واحدة فقط.