في انتخابات نزيهة وشفافة, بشهادة مراقبي الاتحاد الأوربي ومعهد كارتر وبعثة البرلمان الروسي وعشرات الجهات الرقابية, جاء فوز قوي 14 آذار ليبعث رسالة واضحة لا لبس فيها تقول: انتصرت الديموقراطية في مواجهة السلاح, والحرية علي الخوف,والشجاعة علي القوة, والاستقرار علي الحرب الاهلية,والتعايش علي التطاحن ومنطق الدولة علي تهديد العصابات… والأهم جاء تصويت اللبنانيين رافضا لدولة حزب الله ..دولة ولاية الفقيه الإيرانية.
جرب لبنان من قبل ما يمكن اعتباره حقبة المارونيين, وهي الفترة التي ازدهر فيها لبنان من كافة النواحي : انفتاح علي العالم, ترسيخ الحريات, ازدهار قطاع الأعمال,انتعاش السياحة…كان لبنان في هذه الفترة قبلة الفنانيين والكتاب والمثقفين.. وكانت بيروت عاصمة الثقافة والجمال والحرية.. هذه الفترة التي سمي لبنان فيها بسويسرا الشرق, ولكن كانت هناك شكوي البعض من سيطرة المارونية السياسية علي لبنان.
جاءت بعد ذلك الحقبة العربية وما رافقها من تحالف مع منظمة التحرير, والذي تسبب في حرب أهلية طاحنة,كان الفلسطينيون طرفا رئيسيا فيها وسبب في إشعالها..أي أن هذه الحقبة العربية الفلسطينية كانت كارثة علي لبنان وانتهت بمأساة.في هذه الفترة تحول لبنان من سويسرا الشرق إلي دولة الفكهاني(دولة الفلسطينيين في بيروت).
جاءت بعد ذلك حقبة الوصاية والمخابرات السورية, وطاردت المخابرات السورية القوي السياسية الوطنية الحية في لبنان, وبالتوازي نما وتوحش حزب الله الحليف الأهم للسوريين… لتنتهي هذه الفترة بكارثة اغتيال الحريري عام 2005 ثم خروج السوريين..في هذه الفترة حلت دولة غازي كنعان(رئيس المخابرات السوري) محل دولة الفكهاني الفلسطينية في بيروت.
الحقبة الحالية بعد خروج السوريين يتصارع علي لبنان تياران : الأول يدعو إلي بناء الدولة اللبنانية من جديد علي قاعدة الاستقرار والتوافق والدولة القوية المسيطرة علي قرارها لحصد نتائج الاستقلال الثاني للبنان,أما التيار الآخر فيعمل بكل جهده علي بناء دولة حزب الله وولاية الفقيه في لبنان من آجل تدشين الحقبة الشيعية الإيرانية الخومينية.جاءت الانتخابات الأخيرة لتؤجل فقط هذا الخطر المتربص بلبنان.
الحقبة العربية السنية لم تكن خيرا للبنان بل كانت كلها شر وانتهت بكارثة مروعة, والحقبة الشيعية الإيرانية بالمثل لن تكون أقل سوءا من دولة السنة العربية الوهابية.
في كل هذه الحقب كان بين المسيحيين من يتحالف مع السادة الجدد ضد شعبه وضد طائفته وضد الحريات وضد استقرار لبنان. في حقبة الوصاية السورية رأينا اميل لحود, ورأينا آل فرنجية في حقبة حزب الله ظهر بوضوح ميشيل عون.
لميشيل عون قصة حزينة تعكس بجلاء انتهازية كثير من السياسيين في لبنان, فقد بدأ
مناضلا ضد الوجود السوري في لبنان وحلفائه وعلي رأسهم حزب الله.. وانتهي به الأمر ليقوم بدور المحلل لدولة الحزب الإلهي. عندما كان مناضلا بارزا من منفاه في باريس كان مثار إعجاب الكثيرين في لبنان وخارجه, ولهذا عندما عاد إلي لبنان بعد اغتيال الحريري حملوه علي الأعناق, وجعله المسيحيون زعيما عليهم حيث صوت له 70% من المسيحيين في انتخابات 2005 , وبعد أن غير جلده ومسح تاريخه السابق من أجل أهواء شخصية لم يصوت له سوي 42% من المسيحيين في لبنان في الانتخابات الأخيرة , وكان هو الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات حيث نجحت معظم كتلته بأصوات الشيعة والأرمن المتحالفين مع حزب الله وسوريا… حتي أن ميشيل عون نفسه ما كان سينجح في دائرته لولا أصوات حلفائه الجدد.
الشعوب الحية لا تعطي صكا علي بياض لأحد,فالتأييد في النهاية لموقف ولدور وعندما يتغير هذا الموقف وهذا الدور يتغير هذا التأييد علي الفور.
سائني بشدة تبريرات ميشيل عون لكل تصرفات حزب الله منذ توقيع تحالفه معه في فبراير 2006, وساءني أكثر تبرير اجتياح حزب الله لبيروت في 7 مايو ..2008 وشعرت بالاشمئزاز عندما قال إن تحالفه مع حزب الله عمل علي حماية المسيحيين في لبنان في وقت الاجتياح. عون أراد أن يعود بنا إلي ما سمي بعقد الذمية وشروطه: الحماية في مقابل الخضوع والولاء… بئس هذه الحماية يا جنرال, فالموت بشرف وكرامة أفضل منها, والأحرار لا يموتون, وهذا ما برهنت عليه الانتخابات اللبنانية ذاتها, فقد رأينا نايلة تويني وقد فازت كأصغر عضو في البرلمان.. والفائز الحقيقي هو والدها الشهيد جبران تويني. ورأينا نجل بشير الجميل يكمل مشوار والده الشهيد بشير الجميل.. والذين حملوه إلي البرلمان صوتوا في الحقيقة لذكري والده البطل, ورأينا سامي الجميل شقيق الشهيد الشاب بيير أمين الجميل ووصل للبرلمان قبل أن تجف دماء شقيقه الطاهرة, والتصويت جاء كتحية من اللبنانيين لتضحيات هذه العائلة الكريمة.. والقائمة تطول.
أما حزب الله فقد ارتكب الكثير من الأخطاء والخطايا منذ عام 2006 بتوريط لبنان في هذه الحرب ,إلي الادعاء بنصره الإلهي الوهمي علي إسرائيل, إلي توريط لبنان مرة أخري في التدخل في شئون الدول ومحاولة الاعتداء علي أمنها القومي كما حدث مع مصر مستغلا مشاركته في السلطة في إصدار جوازات لبنانية رسمية لعملائه من المخربين الذين أرسلهم إلي مصر,إلي حماقة الحزب الكبري باجتياحه بيروت بقوة السلاح في مايو 2008 ومحاولته فرض البلطجة بقوة السلاح, وياللخزي وصفه لهذا الاجتياح الأثم باليوم المجيد في تاريخ لبنان.. والقائمة تطول من تعطيل الحياة السياسية وغلق البرلمان وتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية وشل عمل السلطة التنفيذية ببدعة الثلث المعطل, وهي بدعة عجيبة لا مثيل لها في تاريخ السلطة التنفيذية في العالم كله.
ورغم نجاح الشعب اللبناني في تعطيل مشروع دولة حزب الله في لبنان مؤقتا, إلا أن الكثير من المشاكل تنتظر تشكيل الحكومة اللبنانية وكذلك قراراتها.. واعتقد أن الحكومة ستضطر لتعليق الكلام عن سلاح حزب الله وستضطر لتعليق تجاوبها مع القرار .1559 وستقبل مرغمة شبكات الحزب التنصتية علي كل اللبنانيين.. ولن تستطيع منع الحزب عن مغامراته إذا أراد, وسيبقي لبنان كله رهينة لسلاح حزب الله ومن خلفه إيران إلي أن يتم نزع هذا السلاح وإدماج الحزب في العملية السياسية اللبنانية… وأعتقد أن ذلك لن يحدث سلميا.
[email protected]