أثار تقسيم الدوائر الجديد قلقا لا يستهان به في أوساط جميع النخب السياسية والدينية, وقبل أن نخوض في تفاصيل ذلك نتوقف لنلقي الضوء علي عدة مؤشرات سابقة للجدل الدائر:
هناك 18 محافظا عسكريا في حركة المحافظات الاخيرة, الأمر الذي ينبئ بأن من يديرون البلاد يستعدون لتطويق هذه المحافظات أمنيا, وكذلك لترتيب الأوضاع الانتخابية, أي التحكم في مجري التصويت دون التدخل المباشر في العملية الانتخابية والفرز.
مازال الحزب الوطني برجاله يتحكم في المفاتيح الانتخابية بقري مصر, ووفقا للإحصائيات الرسمية التي نشرت بروزاليوسف 3 سبتمبر 2011 فإن عدد العمد (2999) وعدد مشايخ القري (13379) وكل هؤلاء يعيينهم من قبل حبيب العادلي وكلهم أعضاء بالحزب الوطني, أي أننا أمام جيش انتخابي من رجال حبيب العادلي مكون من (16378), جيشا يقوده 18 محافظا عسكريا.. ويبقي السؤال: هل سيقوم هؤلاء بخدمة النظام القديم أم النظام الجديد أم كليهما؟
ثالثا: وفقا للإحصائيات الرسمية فإن إجمالي من لهم حق التصويت 50 مليون مصري موزعون علي 50 ألف لجنة انتخابية تقريبا وإذا افترضنا أن هناك 20 مليون مواطن سوف يدلون بأصواتهم, فلابد أن نحسم بدقة إمكانياتنا الأمنية التي يفترض ألا تقل عن 250 ألف جندي وضابط , بمعدل 5 أمام كل لجنة , 4 جنود وضابط, وذلك لأن عدد البلطجية وفق تصريح سابق للمستشار عبدالعزيز الجندي وزير العدل نصف مليون بلطجي تحت الطلب في ذلك الموسم الانتخابي.
هذه الملاحظات الثلاث لابد من وضعها في الاعتبار قبل أن نشرع في مناقشة تقسيم الدوائر.
تصويت بلون الدم
من وضع النظام الانتخابي خاصة رؤيته في تقسيم الدوائر جغرافيا وضع الأمن والسلم الأهليين في خطر, لماذا؟
هذا ما سوف نستدل عليه من استعراض بعض دوائر الصعيد مثل قنا وأسوان وأسيوط والمنيا:
محافظة قنا: اعتمدت التقسيم الجديد النظام الفردي في 5 دوائر باختيار 10 أعضاء, وفي نظام القائمة تنقسم قنا إلي دائرتين شمالية وجنوبية لاختيار 10 أعضاء أيضا أي أن المحافظة سيمثلها 20 نائبا. وفي دوائر المقاعد الفردية نجد الدائرة الأولي (قسم شرطة قنا وتضم قسم قنا ومركز قنا وقفط, أما الدائرة الثانية ومقرها قسم شرطة قوص, تضم مركزي قوض ونقادة, والدائرة الثالثة ومقرها قسم شرطة نجع حمادي, تضم مركزي نجع حمادي( بندر ومركز, الدائرة الرابعة قسم شرطة دشنا وتضم مركزي دشنا, والدائرة الخامسة ومقرها مركز شرطة أبوتشت وفرشوط, أما الدوائر الخاصة بالقوائم الدائرة الأولي الجنوبية لاختيار 6 أعضاء والشمالية لاختيار 4 أعضاء, تضم الدائرة الجنوبية مراكز مدينة قنا ومركز قنا وقفط وقوص ونقادة, أما الدائرة الشمالية فتضم نجع حمادي ودشنا والوقف وأبوتيشت وفرشوط.
وبعيدا عن اتساع الدوائر (تبلغ مساحة الدائرة الشمالية ما يقارب مساحة لبنان) وأيضا دور هذه التقسيم في خدمة أصحاب المال والأعمال, فإن الخطر الحقيقي أن هذا التقسيم جعل أصوات 14 قبيلة مفتتة, وأشهر هذه القبائل هم العرب والأشراف والهوارة والحميدات وغيرها, الأمر الذي سوف يضع كل تلك القوي القبلية في اختيارين أحلاهما مر, أما التوافق علي مرشحين بعينهم وهذا شبه مستحيل نظرا لتاريخ الصراعات الدموية بينهم أو الصدام المسلح, ولن يقبل أي منهم بنتائج الانتخابات, وتجدر الإشارة أن التقسيمات السابقة للدوائر كانت تتيح مجالا لقبيلة متنافستين علي الاتفاق الضمني بتوزيع المقاعد بينهما دون الصدامات المسلحة, علما بأن قنا ملتقي تجارة السلاح في مصر, كذلك فإن نفس التركيبة لن تسنح بنجاح أي مرشح قبطي أو سلفي إلا لو وضع علي رأس قائمة, نظرا لأنهما لا ينتميان لأي من القبائل القنائية.
محافظة أسوان: نفس الخطر , وكلنا نراقب كيف استبعد النظام الجديد دائرة نصر النوبة مما أدي إلي الصدامات الأخيرة.
محافظة أسيوط: لم يختلف الأمر كثيرا عن قنا وأسوان خاصة بعد تخفيض مقاعد أسيوط من 22 مقعدا إلي 20 مقعدا مع تقسيم المحافظة إلي دائرتين الأولي تضم مراكز ديروط والقوصية ومنفلوط ومركز ومدينة أسيوط ومقرها قسم شرطة أول أسيوط, والثانية تضم مراكز أبنوب والفتح وساحل سليم والبداري وأبوتيج وصدفا والغنايم ومقرها مركز شرطة الغنايم .
هذا التقسيم سوف يؤجج الصراع بين 22 عائلة تقليدية تتنافس علي المقاعد من جهة, وبين تيار الإسلام السياسي خاصة جماعة الإخوان المسلمين من جهة أخري, وكانت هذه العائلات تتقاسم المقاعد فيما بينها في السابق وكان الإخوان المسلمون ينافسون عادة ويفوزون أحيانا بدوائر الفردي بمراكز القوصية, قسم أول أسيوط ومنفلوط, ولكن تلك العائلات وجماعة الإخوان لن تستطيع أي منهما أن تشكل مركز ثقل انتخابي مستقل مما يهدد أيضا بالصدام المسلح, وستكون الغلبة للأقوي.
محافظة المنيا نفس الشيء وذات الخطر ولو أخذنا علي سبيل المثال قوائم سنجد أنها تضم مركز ومدينة المنيا ومركز سمالوط ومدينة المنيا الجديدة ومقرها قسم أول المنيا, وهذه الدائرة تصلح كنموذج لباقي دوائر المنيا فسوف تشهد هذه الدائرة صراعا بين 3 قوي تقليدية في سمالوط (عائلات : مكادي – عامر – الشرايعة) وفي مدينة المنيا سوف تشتعل الاتجاهات الطائفية ما بين مركز الثقل الانتخابي القبطي, ومركز الثقل الانتخابي السلفي والإخواني في جنوب وغرب المدينة, مما يهدد بصدامات عرقية في شمال الدائرة الأولي وطائفية في جنوب الدائرة, وقس علي ذلك ما سوف يحدث في الدوائر الأخري خاصة في أبوقرقاص الملتهبة أو ملوي ودير مواس المحتقنين.
برلمان بلا أغلبية
وعلي ذلك القياس يمكن التنبؤ بأن دوائر الصعيد سوف تشهد مذابح وصدامات مسلحة قبلية وعائلية وطائفية, ناهيك علي أن القوي الحديثة الشبابية, والأقباط لن يستطيعوا حتي الاستمرار في العملية الانتخابية, أما القوي الإسلامية من إخوان وسلفيين وجماعة إسلامية فلن تستطيع أن تحقق نجاحات علي الأرض دون استخدام القوة في مواجهة القوي التقليدية حيث الثقل الإسلامي في المدن, وثقل القوي التقليدية في الريف.
كل تلك المؤشرات في مجملها تؤكد علي أن الإعداد للانتخابات من قبل أولي الأمر قد بدأ بتعيين 18 محافظا عسكريا لهم خبرات سابقة في الانتخابات (مثال علي ذلك عودة اللواء عادل لبيب لقنا) إضافة لجيش العمد والمشايخ السابق الإشارة إليه, إضافة لتقسيم الدوائر بهذه الطريقة, يجعلنا نعتقد أن الذين اعتمدوا ذلك يريدون الوصول إلي النتائج التالية:
برلمان بلا أغلبية واضحة, وإن كانت القوائم سوف تسمح بتمثيل أغلب ألوان الطيف السياسي.
أن تؤدي الصراعات الدموية خاصة في الصعيد بين القوي القبلية والدينية إلي تفتيت الأصوات وعدم التحالف بينها, أو التدخل الاستثنائي في الدوائر إذا احتدم الصراع المسلح بين المتنافسين مع عدم السماح لأي قوي أن تحصل علي ما يسمي (الثلث المعطل).
هل يمكن أن تكون هناك هندسة اجتماعية أو سياسية تخرج الانتخابات كما يريد من يديرونها؟!