أنشئ علي هيئة صحن.. توفيرا في النفقات وسعته مائة ألف متفرج
وراء إنشائه 14 مهندسا مصريا وثلاثة آلاف عامل
في الساعة الثامنة والنصف من مساء 24 يوليو سنة 1960م, شاهد العالم مشروعا ضخما قامت به مصر حيث افتتح الرئيس جمال عبدالناصر استاد القاهرة وسط عاصفة مدوية من التصفيق والهتاف, وارتفع علم الاستاد علي الصاري الكبير, وارتفع صوت المدافع تدوي معلنة مولد عملاق في القاهرة وارتفعت البالونات في الفضاء وانطلقت الصواريخ تعبر عن الفرحة بافتتاح الاستاد.
ترجع الفكرة إلي سنة 1936م عندما خططت اللجنة الأهلية للرياضة البدنية لخطوة عملية عقب أوليمبياد برلين, فدعت المهندس الألماني وانر مارش الذي صمم ملعب برلين الذي أقيمت به دورة الألعاب الأوليمبية سنة 1936م, فحضر إلي القاهرة ودرس معها المشروع ثم اتصلت اللجنة بمصلحة المباني الأميرية حيث وضع تصميم لهذا الملعب, ثم جاء تقرير اللجنة عام 1937م يقول إنها واصلت سعيها لدي السلطات العليا لتحقيق إقامة هذا الملعب, خصوصا وقد زاد شعورها بذلك عندما رغبت في أن تنال مصر حظها من الدورات الأوليمبية.
وعندما أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية واصلت السعي لتنفيذ المشروع واقترحت إدارة الرياضة بالوزارة إدراجه ضمن برنامج السنوات الخمس, وفي سنة 1944 بمناسبة مشروع مدينة الأوقاف الجديدة بجوار الزمالك حجزت وزارة الشئون الاجتماعية قطعة أرض من هذه المدينة مساحتها 211567 مترا مربعا للمشروع.. ثم شكلت لجنة حكومية أقرت حجز المساحة المطلوبة, لكن وزارة الأشغال اعترضت علي ثمن الأرض الذي يبلغ حوالي 211.567 جنيها وطلبت إعادة النظر في الموضوع واختيار قطعة أخري لإنشاء الملعب تكون أثمان الأراضي فيها أقل تكلفة, واقترحت إدارة الرياضة بوزارة الشئون تخصيص مبلغ 200 ألف جنيه في مشروع ميزانية سنة 1946-1947م للبدء في هذا المشروع, ولكن المبلغ لم يدرج فيها. وعادت الوزارة إلي إدراج هذا المبلغ في ميزانيتها للسنتين المتتاليتين, إلا أن وزارة المالية حذفته من الاعتماد.
وعقب قيام ثورة 23 يوليو 1952 ظهرت بوادر الفكرة مرة أخري من عضو مجلس قيادة الثورة عبداللطيف البغدادي وزير الشئون البلدية في فبراير سنة 1956 عندما اقترح عدة مشروعات علي الحكومة وكان علي رأس قائمة المشروعات وأبرزها مشروع الاستاد الرياضي والمدينة المحيطة به, والتي تقرر أن تمتد بين العباسية ومصر الجديدة لتمنح مصر منطقة سياحية جميلة تجتذب إليها الناس من كل مكان بملاعبها الرياضية وسوقها الدولية واقترح ثلاثة أسماء للمشروع وهي مدينة الثورة, المدينة الرياضية ومدينة الاستاد وتقرر أن يشغل هذا المشروع مساحة قدرها ألفا فدان منها 350 فدانا للاستاد و160 فدانا للسوق الدولية ومدينة الملاهي ويخصص الباقي للمنشآت السكنية والمرافق العامة.
وبدأت الفكرة تأخذ طابعها الرسمي عندما وافق مجلس الوزراء علي تشكيل لجنة عليا للاستاد يرأسها الوزير عبداللطيف بغدادي وتضم اللجنة وزير المالية والاقتصاد ووزير التربية والتعليم, ووزير الشئون الاجتماعية والعمل, ووزير التجارة والصناعة ومدير عام مصلحة السكك الحديدية, ورئيس الإمدادات والتموين بوزارة الحربية والمدير العام لبلدية القاهرة إلي جانب لجنة فرعية. وفي عام 1957 بدأ التنفيذ واستعانت اللجنة للقيام بالمشروع العملاق مرة أخري بالخبير الألماني وانر مارش ووضع التصميم بالاشتراك مع القائمقام أركان حرب مهندس صلاح غالب الذي أشرف أيضا علي المشروع وأدخل عدة تحسينات, ومنها الإشارة لاستعمال الأتربة المرفوعة من حفر الاستاد في بناء الجسر الترابي الذي تقام عليه مدرجات المشاهدين, بدلا من الخرسانة المسلحة وبهذه الطريقة وفر نصف مليون جنيه من النفقات بعدما أثبتت هذه الأتربة صلاحية احتمالها. وبدأ تسلم أراضي المعسكرات العسكرية التي خصصت للمشروع, ومنها أرض ضرب النار وتبلغ مساحتها 500 فدان التي يقام الاستاد مكانها, وقد دفع عنها تعويضا قدره 15 ألف جنيه, كما استحوذ المشروع علي منطقة السجن الحربي ومعسكر سلاح الفرسان ومعسكر استقبال الجنود الجدد وأرض مطار ألماظة الذي تقرر الاستغناء عنه اكتفاء بمطار القاهرة الدولي.
وأول إنشاءات أقيمت للمشروع هي شبكة الطرق الرئيسية ثم تنفيذ الملعب الرئيسي بالاستاد واعتمد لإنشاء الاستاد مبلغ وقدره خمسة ملايين ونصف المليون من الجنيهات بما في ذلك الملعب الرئيسي الذي بلغت تكلفته نحو 3 ملايين جنيه وبقية الملاعب الأخري والصالات وحمام السباحة وقدر أن يتم الإنشاء في مدة لا تزيد عن الخمس سنوات.. وتم وضع برنامج زمني لهذا العمل علي أن تتم جميع الإنشاءات خلال هذه المدة وتحول الموقع من هضبات وتبات استخدمت في الماضي كميادين لضرب النار للقوات المسلحة إلي رمال مستوية وشهدت منطقة العمل ملحمة رائعة بسواعد الشباب المصري ورغم المتاعب والصعوبات إلا أن الإرادة القوية سعت لظهور هذا المشروع للنور بأسرع وقت, فكانت تضرب المعاول ضرباتها علي صوت العمال وبلغ عددهم ثلاثة آلاف عامل وهي تغني أغاني الشعب البسيطة, ولسهولة الوصول إلي المقاعد بالملعب صمم المهندسون الـ14 المشتركون في تنفيذ المشروع الملعب علي شكل صحن يقع نصفه تحت منسوب الأرض بالمنطقة والنصف الأعلي تم تشكيله من ناتج الحفر. فكانت هذه الفكرة العبقرية محط أنظار العالم بعد الانتهاء من الملعب الذي يتسع لحوالي 100 ألف شخص ويمكن لعدد 80 ألف متفرج من الجلوس علي مقاعد.. وحوالي 20 ألف شخص وقوفا, وتكون الاستاد من طابقين: طابق سفلي تبدأ مدرجاته من منسوب الأرض الطبيعي وينتهي لأسفل إلي عمق 15 مترا تحت مستوي الأرض أما الطابق العلوي يبدأ من منسوب 1.20 مترا تحت مستوي الأرض وينتهي عند ارتفاع 19.65 مترا من الجهة الغربية وارتفاع 11.35 مترا في الجهة الشرقية ومدرجات هذا الطابق جزء منها من الخرسانة المسلحة والجزء الآخر مقام علي الردم الناتج من الحفر وللاستاد أربعة مداخل رئيسية و14 مدخلا فرعيا.
وفي 24 يوليو 1960م الساعة الثامنة والنصف تحقق الحلم الذي راود المصريين لسنوات طويلة وأزاح الرئيس جمال عبدالناصر الستار عن اللوحة التذكارية معلنا مولد معجزة في أفريقيا تضاهي استاد برلين وارتفعت أصوات سبعة آلاف رياضي ورياضية اصطفوا في أرض الاستاد, تشاركهم أصوات عشرات الألوف من المتفرجين من المدرجات نشيد الله أكبر. الله أكبر وعبرت الصحف في اليوم التالي للافتتاح عن فرحتها فقد قالت جريدة الأهرام بالبنط العريض في الصفحة الأولي: عيد الشباب.. عبدالناصر يفتتح للشباب أمس أكبر استاد رياضي في الشرق الأوسط ونشرت الجمهورية: أكبر معجزة رياضية حققتها الثورة أمس.
وعرف الاستاد في بادئ الأمر باسم استاد الثورة واستاد ناصر ثم استاد القاهرة, وأول مدير للاستاد هو المهندس أحمد دمرداش, وفي عهده ظهرت إنجازات عديدة في الاستاد منها تخصيص جزء من المدينة الرياضية الحديثة لمعهد التربية الرياضية للبنات وضمت المدينة الرياضية ملاعب ليلية مزودة بالإضاءة ونهارية لكرة السلة والعديد من الألعاب الأخري.. ونقل خلال عامين من الافتتاح معاهد التربية الرياضية للبنات والبنين إلي مبان خاصة أعدت لهم باستاد القاهرة حتي يتمكن شباب هذه المعاهد من ممارسة دراساتهم النظرية والعلمية وتكلفت هذه المباني 500 ألف جنيه.
وهذا الصرح الرياضي العملاق شهد بطولات واحتفالات كبيرة وعديدة, احتلت مكانات مرموقة في العالم, فكان ولايزال مسرحا لكثير من المناسبات القومية كالاحتفال بأعياد الثورة وانتصارات الجيش المصري في أكتوبر 1973, وكانت بداية نشاط الاستاد مقصورة علي كرة القدم فقط ثم أدخلت الألعاب واحدة تلو الأخري حتي أصبح الآن مجمعا رياضيا ضخما يضم سبعة مواقع منها مجمع الصالات المغطاة, مجمع السباحة والاسكواش, واستاد الفروسية, الصالة المكشوفة, واستاد التنس, والملاعب الفرعية ومضمار الدراجات.
وأقيمت فيه مباريات الفرق المصرية في الدوري المصري وبطولات أفريقيا التي حضرها العديد من الرؤساء والملوك العرب, فهو علامة مهمة في البنية الرياضية المصرية حيث تقام أهم المباريات المصرية عليه ويشهد كل عام مباريات القمة بين النادي الأهلي ونادي الزمالك ومباريات منتخب مصر لكرة القدم وقد شهد مؤخرا هذا الملعب كأس الأمم الأفريقية لعام 2006 والتي فازت بها مصر.
ورغم أن الصرح الرياضي العملاق شهد احتفالات المصريين بمناسباتهم الوطنية والرياضية علي مدار خمسين عاما إلا أنه لم يلق الاحتفال اللائق بمناسبة اليوبيل الذهبي لإنشائه.