نحن نعرف أن المسيح له المجد عندما تجسد كان الهدف خلاص الإنسان,فالتجسد وسيلة لغاية,والغاية هي خلاص الإنسان,لأن الإنسان لما سقط في الخطيئة وأصبح مطرودا من الفردوس ومحكوما عليه بالموت أظهر الإنسان ندامة,وعبر عن هذا بالاعتراف والصلوات من آدم حتي غيره من أولاده.وأيضا عبر عن ندامته بالذبائح التي قدمها الإنسان في مختلف العصور,ومعني الذبيحة أنه في حاجة إلي فادي,لأنه كان من المستحيل أن يكون الحيوان وسيطا بينه وبين الله,لأن الوسيط لابد أن يكون أرفع وأعظم مرتبة من الإنسان وله دالة عند الله…
من ذلك أدرك آدم وذريته أنهم في حاجة إلي وسيط ولم يأت زمانه بعد,ولذلك حلت الذبائح مؤقتا,فكأن هذه الذبائح مجرد تذكرة للإنسان بحاجته إلي هذا الوسيط,وحتي لا ينسي حاجته إلي هذا الوسيط,أمرت الشريعة بعمل الذبيحة…
من هنا كان الحيوان تذكرة ورمزا وإشارة إلي الذبيح والوسيط والفادي الحقيقي الذي لم يأت زمانه بعد,ولما أتي الذبيح الحقيقي وقبل في جسده الحكم الذي لفظ به الله علي آدم وذريته,وبهذا الوضع مات المسيح عن الإنسان.وهذا هو معني الفداء..
معني الفداء…أن هناك وسيطا ينقذ الآخر,وهنا الفداءوالرب وضع عليه إثم جميعناأو ما يقوله بولس الرسولإن المسيح مات عن الجميعأوليس حب أعظم من هذا أن يموت أحد عن أحبائه…أنتم أحبائي…
إذن عبر الإنسان عن ندامته باعترافه وصلواته وذبائحه.وكل أنواع العبادات التي قدمها الإنسان كان فيها مبرهنا علي الخطأ الذي وقع فيه,وهذا هو السبب في أن مراحم الله امتدت نحو الإنسان وغمرته بالعطف وبالرعاية,ولولا توبة الإنسان وندامته وتقديمه صنوف العبادات ترضية لله,لكان شأنه شأن الشيطان الذي أخطأ ولكنه لم يخلص,لأنه لم يطلب التوبة ولا وجدت عنده سبيلا,فالشيطان مكابر ومعاند ومقاوم ومضاد,وهذا هو معني الاسم الذي اشتهر به(إبليس)وهي كلمة غير عربية مشتقة من الكلمة اليونانية.
والله تعالي إذ رغب في أن يرحم الإنسان وأن يفديه ما كان يمكن أن يتمم عمل الرحمة بطريقة تتعارض مع احترامه لعدالته واحترامه للحكم الذي نطق به,فالله بقدر ما هو رحيم رحمة بغير حدود,هو أيضا عادل عدالة بغير حدود,والله يحترم كلمته والحكم الذي يصدر منه,بل السماء والأرض تزولان ولاتسقط كلمة واحدة ولا حرف من كلمة ينطق الله بها.
من هنا كان الحل الوحيد الذي لم يكن غيره حل وهو أن يأخذ الله صورة الإنسان ويتخذ شكله محتجبا في جسد,ويقبل في هذا الجسد نفس الحكم الذي أصدره هو علي الإنسان,وفي هذا كل الرحمة وكل العدل.كل الرحمة لأنه ليس هناك حب أعظم ولا رحمة أوسع من أن يقبل الله علي ذاته القدوسة أن يتخذ له جسدا ترابيا,ويقبل فيه كل صنوف الضعف والهوان والمذلة والصلب والألم والموت…وكل العدل لأنه ليس أدل علي هذه العدالة المطلقة من أن يقبل علي نفسه تنفيذ الحكم الذي أصدره هو بنفسه علي الإنسان,ولا شك أن في قبول الله ذلك معني العدالة ومعني احترام الحكم الذي أصدره الله علي الإنسان,حتي أنه لما كان تنفيذ هذا الحكم علي بديل آخر للإنسان,لا يجد له مفرا آخر غير أن يقوم الله بنفسه به,لم يتوان الله في سبيل احترامه لكلمته من أن يقبل هذا الحكم علي نفسه في جسده الذي اتخذه له…
وغاية ما نريده من هذا كله…أن الصليب كان ضرورة ولم يكن فضلة زائدة,وأن الخلاص بالأسلوب الذي تم به في العهد الجديد كان أمرا ضروريا,ولم يكن هناك سبيل آخر لخلاص الإنسان غير الطريق الذي تم به,ولم كان هناك طريق آخر غير هذا لما كان هناك داع لاتخاذ هذا الطريق بالذات,وفي هذا رد علي الذين يقولون إنه لا حاجة إلي الفداء ما دام الله يتصف بالغفران والرحمة.أن الله لا يستطيع أن يغفر من دون ترضية كافية لعدالته,وفي هذا أيضا رد علي أتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التي تنادي بأن العذراء حبل بها من غير دنس الخطيئة الأصلية بدعوي أن العذراء قد استثنيت من دون جميع الناس وأنها أعفيت من الخطيئة الأصلية بأسلوب خاص تنفرد به عن غيرها…وردنا واضح أنه لو كان الأمر كذلك…لكان عمل المسيح الفدائي فضلة زائدة وليس ضرورة لخلاص جميع الناس,ومادام يمكن للعذراء أن تكون في غني عن الخلاص فلماذا لا يكون غيرها علي نفس القياس.وفي هذا كله نقض لقضية الفداء وهدم للعقيدة الأولي من العقائد المسيحية التي علي أساسها يقوم بناء المسيحية الشامخ…
هذا هو الغرض الأول والهدف الأكبر من تجسد المسيح,فلولا الفداء لما كان التجسد, ومن هنا كانت عظمة عيد القيامة بازاء جميع الأعياد لأنه لولا القيامة لما كان الميلاد…وما لم يكن المسيح قد قام مبرهنا بقيامته علي لاهوته من جهة,وعلي تحقيقه الخلاص من جهة أخري,لما كنا في حاجة لان نحتفل في عيد الميلاد لرجل عاش ثم مات,وبموته انتهت قضيته.لكننا نحتفل بعيد ميلاده لأننا نعرف من هو ونعرف مقامه اللاهوتي ومركزه في الخلاص,فنحن لا نحتفل بميلاد القديسين وإنما نحتفل فقط بميلاد المسيح,لأنه الله الظاهر في الجسد والذي بواسطته كان الخلاص…
ويمكن أن يضاف إلي هذا الهدف هدف أكبر للتجسد هدف آخر علي قدر أهميته وعظمته لكنه ثانوي القيمة بالنسبة للهدف الأول,ويمكن أن يقال إن الله في تجسده حقق هدفا كبيرا في لقائه بالإنسان,وفي هذا اللقاء دليل عناية الله بالإنسان.فلم يعد الله إلها يسكن وراء الجبال كما تقدمه لنا الميثولوجيا اليونانية وأساطير الرومان…ولكنه صار في المسيحية قريبا إلي الإنسان وقد نزل خصيصا ليعيش مع الإنسان.ويشاركه في اللحم والدم,ويشاركه آلامه ومتاعبه,ويكفكف من دموعه ويشفي أوجاعه,هكذا كان المسيح صورة صادقة للرحمة الإلهية وقد نزلت إلي الأرض وعاشت مع الإنسان وشاركته نصيبه في الآلام والمتاعب,والذي يقرأ الإنجيل يري ولا سيما في إنجيل لوقا صورة الله المشترك مع البشرية في آلامها,لم ير قط ضاحكا كما يقول بيلاطس في تقريره الذي رفعه إلي طيباريوس قيصر,والذي وجد علي لوحه نحاسية في روما تحت الحفريات.وإنما رؤي المسيح باكيا وراثيا ومشفقا وحزينا ومتألما.عاني كل ما يعانيه أبأس الناس وأفقرهم وأضعفهم,بحيث لا نكاد نجد صورة من الناس أشد إعداما وإملاقا وفقرا,من الصورة التي قدمها لنا الإنجيل,في المسيح الذي لم يجد له مكانا يأوي إليه حتي في وقت ميلاده,نزل ضيفا علي مملكة الحيوان,وبدلا من السرير كان مذود البقر له مهدا,وقد قال مرةللثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكارا أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسهعاش نجارا يحصل قوته بكده وتعبه وعرقه وكفاحه ونضاله كعامل بسيط,وبعد أن تفرغ للخدمة الجهارية عاش مسكينا علي صدقات المحسنين من الرجال والنساء اللواتي كن يخدمته بأموالهن,وكان له صندوق وهذا الصندوق كان يحمله التلميذ الخائن…وكان علي شهادة أحد زملائه يحمل ما كان في الصندوق…
عاش المسيح إذن فقيرا بكل ما في الكلمة من معني,ولا يمكن أن نتصور حالة من الفقر أوضح من الحالة التي عاش بها المسيح,وبهذا يجد الفقير المسكين عزاء…لأن الله عندما أخذ صورة الإنسان أخذ صورة أفقر فقير يمكن أن تخطر ببال أحد من البشر,ولم يكن له أثواب وإنما كان له ثوب واحد وكان هذا الثوب إحسانا قدم إليه…وإما طعامه فكان من أبسط الأنواع فكان هو الطعام السائد الذي يتمتع به كل فقير في بلد كان يعتمد كثيرا علي السمك,ولم نقرأ في الكتب المقدسة ما يشير إلي أن المسيح تمتع بطعام خاص,وحقا أنه قبل دعوات من أشخاص كثيرين كان أكثرهم عشارين وخطاة,وكان يتكئ في بيوتهم وعلي موائدهم لكنه كان مشغولا بخلاص نفوسهم,ولم يكن الطعام بالنسبة له غير طعم يجذب به كصياد حكيم السمكة ليخرجها من يم الخطايا وبحر الآثام ويردها إلي شاطئ الأمان…
إذن تجسد المسيح,وفي تجسده خير وبركة للإنسان,لأنه عرف الله فيه,الله غير منظور لكنه صار منظورا في المسيح,وكل صفات الله وكمالاته كانت معروفه في أكثرها,معرفة نظرية عن طريق الكتب المقدسة أو عن طريق كتابات الفلاسفة والمفكرين,ولكنه في العهد الجديد أمكن للإنسان أن يعرف صفات الله وكمالاته,معرفة مباشرة في المسيح الذي هو صورة الله غير المنظور,ولم تعد صفات الله في نظر الإنسان مجرد صفات يقرؤها ويدرسها في كتاب ويسمعها من معلم,ولكنه صار يراها واضحة أمامه في المسيح الذي عاش معهم وشاركهم حياتهم وتعامل معهم,ولذلك صار يعرف بابن البشر…
وهذا هو المعني الذي حينما تأمله القديس أوغسطينوس بارك من أجله خطيئة آدم,لأنه لولا خطيئة آدم لما كان جاء المسيح,وفي مجئ المسيح تحقق كل هذا الخير للإنسان,وكل هذه البركة,وظهر كل هذا الحنان,وهذا الإشفاق,وتعلم الإنسان العلم كله من فم الله,رآه بعينيه وسمعه بأذنيه وشاهده ولمسته يداه علي ما يقول يوحنا الرسول.لذلك قال أوغسطينوس(مباركة خطيئة آدم التي جلبت للإنسان كل هذا الخير).