إن مصر بالنسبة لنا ليست وطنا نعيش فيه, إنما هي وطن يعيش فينا في داخلنا.. هكذا تحدث قداسة البابا شنودة الثالث عن مصر, وقال أيضا: إن مصر وإن كانت أحيانا عقلا تتعدد أفكاره, فهي قلب واحد يتعانق شيوخه وأحباره. الوحدة الوطنية في مصر عميقة الجذور, فدائما ودوما وقف المسلمون والمسيحيون صفا واحدا علي أرض المعركة, وسالت دماؤهم واختلطت رفاتهم وتجاورت قبورهم وتعانقت في الفضاء مآذنهم وأبراج كنائسهم كأنهم نسيج هذا الوادي الطيب.., ومن قبل هذا قال مكرم باشا عبيد مهاجما السعي الإنجليزي في إحداث الوقيعة بين المسيحيين والمسلمين: يقولون أقباط ومسلمون, بل هم مصريون, مصريون آباء وأمهات وبنون, أو قولوا إنهم إخوة لأنهم بدين مصر يؤمنون, أو أشقاء لأن أمهم مصر وأباهم سعد زغلول. ومن أقوال الزعيم سعد باشا زغلول: لولا وطنية الأقباط لقبلوا دعوة الأجنبي لحمايتهم وكانوا يفوزون بالجاه والمناصب بدل النفي والسجن والاعتقال, ولكنهم فضلوا أن يكونوا مصريين معذبين محرومين من المناصب والجاه والمصالح, ويساقوا للضرب ويذوقوا الموت والظلم, علي أن يكونوا محميين بأعدائهم وأعداء وطنهم.. هذه شهادة سعد باشا زغلول للتاريخ عن الأقباط, وقال أيضا قداسة البابا كيرلس الخامس للمندوب السامي البريطاني: يا ولدي إن الأقباط والمسلمين منذ أقدم العصور يعيشون جنبا إلي جنب, ففي البيت الواحد يتعايشون معا, وفي المصلحة الواحدة يجلسون إلي مكاتب مشتركة, وفي غرفة واحدة يأكلون من أراض طيبة واحدة ويشربون من نيل عظيم واحد, ويتلاحمون في كل ظروف الحياة. في السراء معا وفي الضراء معا أيضا, ولن يستطيعوا أن يستغنوا بعضهم عن بعض, ولن نطلب حماية نحن الأقباط إلا من الله ومن عرش بلدنا مصر. ويعود قداسة البابا شنودة الثالث في إحدي محاضراته ليقول: إن مصر بلدنا وهي أمنا, وكل ما يمسها يمسنا, ونحن نعلن للجميع أن المسلمين والمسيحيين يضعون محبتهم لله والوطن, ومحبتهم لبعضهم البعض فوق كل اعتبار, ويتعاونون من أجل مصر وخيرها, ويتطلعون إلي مستقبل زاهر لها, فإذا دققنا النظر في دور الأقباط في التاريخ السياسي لمصر الحديثة لظهر لنا جليا أنهم لعبوا دورا محسوبا وفعالا في المجتمع, واهتموا بالتعايش والانصهار الكامل في الحياة السياسية.
استفحال ثقافة التعصب في جيل بأكمله
يقول ميلان هوبل: إن شئت استئصال شعب ما من جذوره فلتكن أول خطوة هي محو ذاكرته.. احرق كتبه, واسحق ثقافته, ودمر تاريخه, ثم كلف آخرين يقومون بتأليف كتب جديدة وبناء ثقافة جديدة واختراع تاريخ جديد.. ولن يمضي وقت طويل قبل أن تبدأ الأمة في نسيان ما هي, وكيف كانت!!, وهو ما حدث فمازالت ثقافة الكراهية والحقد والعنف تجاه الآخر منتشرة بين الكثيرين, تلك الثقافة التي توغلت عبر جيل بأكمله. تسممت أفكاره في العقود الماضية عبر أجهزة الإعلام وبرامج التعليم, وكاد المجتمع المصري أن ينقسم داخليا إلي فئتين مؤمنين وكفرة, وكدت أن تعرف المرأة المسيحية من غير المسيحية عبر ظاهرة التحجب.. هذه الثقافة المنبوذة فاقت الوصف, فخطر التطرف هو أشد فتكا وتدميرا لأنه يسعي إلي القضاء علي اليابس والأخضر, ونحن نري ما يحدث في العالم.. حيث صار العالم في خطر, بسبب التطرف والإرهاب المغلف بغطاء ديني يستخدمه زعماء هذا التطرف لتحقيق مصالحهم, في الحقيقة أن الاعتداءات المتلاحقة ضد الأقباط تكشف عن تقاعس الأجهزة الأمنية عن أداء واجبها علي أكمل وجه لحماية الأقباط من اعتداءات الجماعات الإرهابية التي طالت ممتلكات الأقباط فضلا عن كنائسهم, مع التسليم بوجود الكراهية التي انتشرت وسط قطاعات ليست بالقليلة من أبناء الشعب المصري بسبب التعليم الخاطئ في المؤسسات التعليمية بجميع مراحلها, فالتعليم المبني علي الفرز والإقصاء لا يجمع شمل الأمة بل إنه مثل القنابل الموقوتة التي تنتظر شرارة الانطلاق.. ومن هناك منبر ثقافي مشوه تخرج منه قنابل وألغام.
وللفتنة الطائفية في مصر سببين أحدهما رئيسي والآخر فرعي. السبب الرئيسي هو سعي البعض إلي إقامة دولة دينية واستجابة الرأي العام جزئيا إلي هذا السعي, أما الأسباب الفرعية فيمكن إجمالها في عدة نقاط أساسية هي: انكسار القضية القومية, التعصب الوظيفي, الإعلام الرسمي والإعلام غير الرسمي, الخلل الدستوري, الخط الهمايوني.
مواطنة الأقباط عبر مراحل تاريخية
بالنسبة للأقباط فإن مسيرة المواطنة بالنسبة لهم في المجتمع مرت بخمس مراحل أساسية, مع الأخذ في الاعتبار أنهم ليسوا أقلية وافدة أو أجنبية, بل هم مصريون وجزء أساسي من الجماعة الوطنية المصرية الخالصة: المرحلة الأولي: تبدأ من عصر محمد علي حيث بزغت المواطنة بقرار فوقي, لكن الظروف والمناخ السياسي والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي كلها كانت مواتية نتيجة للمعاناة التي عاش فيها المصريون خلال العصر العثماني, فدفعهم ذلك إلي السعي لتحقيق المواطنة, وبمرور الوقت ظهرت طبقة اجتماعية وانخرط المصريون -لأول مرة في التاريخ- داخل الجيش المصري مسلمين وأقباطا, وجري انتخاب مجلس شوري النواب عام 1866, المرحلة الثانية: هي ثورة عام 1919 أو ما يمكن تسميته الالتفاف القاعدي حول المواطنة, حيث سعي المصريون -لأول مرة في تاريخهم- دون تمييز.. رجالا ونساء. فقراء وباشاوات. مسلمين وأقباطا لتحقيق الاستقلال, وتمثل ثورة 1919 لحظة نموذجية تبلورت فيها المواطنة بشكل عملي علي أرض الواقع, المرحلة الثالثة: هي ثورة عام 1952 أو ما يمكن تسميته بالمواطنة المبتسرة. إذ حدث تراجع عن الخطوات التي تحققت علي أرض الواقع في مسيرة المواطنة وتم اقتصار المواطنة علي الجانب الاجتماعي أو العدالة الاجتماعية دون أن تمتد لتشمل المساواة السياسية, وتكافؤ الفرص في التغيير السياسي, ويعد ذلك كبوة للعمل الوطني, المرحلة الرابعة: ارتبطت بعهد الرئيس الراحل السادات وشهدت تديينا للحركة السياسية أو تغييبا للمواطنة, حيث حدث في تلك الفترة فرز ديني, وإحياء لمفهوم أهل الذمة, والنظر إلي الأقباط بوصفهم جماعة دينية, هذه النظرة أدت إلي حدوث شرخ تاريخي لأن أهم الأدبيات التي تتحدث عن الذمية والوضع القانوني لغير المسلمين ظهرت خلال هذه الفترة سواء علي المستوي الرسمي أو علي مستوي جماعات الاحتجاج الديني, المرحلة الخامسة والأخيرة: وهي المرحلة الحالية ونجد فيها محاولة لاستعادة المسار الطبيعي للمواطنة, أو علي الأقل هناك محاولة لوضع قضية المواطنة علي مائدة البحث ورغبة في تجنب الوقوع في فخ اعتبار الأقباط جماعة دينية أو طائفية وبسبب هذا الإصرار علي قضية المواطنة نجد هناك أجنحة في التيار الديني بدأت تعيد النظر في أطروحتها حول الوضع القانوني لغير المسلمين, وذكر بعضهم أنهم تجاوزوا مفهوم عقد الذمة -لأن عقد الذمة انتهي عندما واجه المواطنون جميعا (مسلمين ومسيحيين) الاستعمار والفساد.. بشكل عام فإن قضية المواطنة ترتبط بالتطور التاريخي, وتساعدنا قراءة الظرف التاريخي علي فهم أسباب صعود وهبوط المواطنة في مصر.. حقا إن قاعدة الدين وطن!!.. هي قاعدة استعمارية.
* مراجع الدراسة:
* وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها المعاصر -المجلد الأول, الثالث, الرابع- الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني.
* الطائفية إلي أين؟ – الدكتور فرج فودة.
* الأقباط النشأة والصراع من القرن الأول إلي القرن الحادي والعشرين – ملاك لوقا.
* أقباط القرن العشرين – ملاك لوقا.
*الإيمان بالله-الشيخ عبد الحليم محمود-شيخ الأزهر الأسبق.
*فتنة التكفير -المفكر الإسلامي الدكتور -محمد عمارة.
*الفريضة الغائبة-عبد السلام فرج.