فلسفة المثابرة التي قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إنها عقيدة يؤمن بها وسترافق إدارته للسنوات المقبلة, هي أيضا سياسة حكيمة ومفيدة يجب الاقتداء بها في أكثر من ميدان ومكان…
قد تبدو المثابرة تمرينا مملا ومتعبا يراهن البعض علي هجره بمرور الوقت ضجرا أو إحباطا. لكن الوجه الآخر للمثابرة هو إنهاك وإرباك ومفاجأة من راهن علي زوالها بما يؤدي إلي الوصول إلي الهدف المدروس بصبر وبتماسك وبحكمة مكتسبة.
واليوم هناك أكثر من ملف يجدر بالإدارة الأمريكية أن تتحلي بالمثابرة في شأنه لتنفيذ استراتيجية يتم التوصل إليها بعد انتهاء فترة الاستطلاع والاستماع الجارية والتي يجب ألا تطول وتترك الانطباع بأنها في حد ذاتها سياسة الإدارة الجديدة. فهناك أمور ملحة لا تتحمل العلك والتدليك حتي تنضج, وهناك مسائل لا يمكن التطرق إليها من دون وضوح الخيارات والشراكات الاستراتيجية, إن كانت مع الصين وروسيا أو السودان و ##طالبان## وإسرائيل وفلسطين والعراق وأفغانستان وإيران. وهناك ضرورة للدول الأخري أن تفكر بجدوي ومنافع المثابرة بدلا من اعتباطية الرفض والكيل بالمكيالين انتقاما من الازدواجية والتي تطبق المثل القائل باقتطاع الأنف لتلقين الوجه درسا في الانتقام.
وفي هذا الإطار علي القمة العربية في الدوحة التفكير مليا في انعكاسات احتمال احتضانها للرئيس السوداني, ضاربة بعرض الحائط قرار المحكمة الجنائية الدولية والتي تصرفت بتكليف من مجلس الأمن – في الوقت الذي يجب علي الدول العربية أن تقوم بدفع المحكمة الجنائية إلي إعلان استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض ضد المدنيين في غزة دليلا علي ارتكابها جرائم حرب – كما استنتجت منظمة ##هيومان رايتس ووتش##. فهذه المكابرة علي المحكمة الجنائية بالوقوف مع الرئيس عمر البشير الذي أصدرت المحكمة مذكرة بتوقيفه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور, إنما تسيء إلي العرب قبل أن تسيء إلي إسرائيل التي يتمسك العرب بضرورة عدم إفلاتها من المحاسبة. فلبعرب, بهذه المكابرة, ينسفون إحدي أهم أدوات محاسبة إسرائيل في سابقة لم يسبق أن حلموا بها. فلقد حان زمن الكف عن المكابرة تملصا وهروبا إلي الأمام وحان وقت المثابرة.
منظمة ##هيومان رايتس ووتش## عرت الفظائع التي تم ارتكابها في دارفور وثابرت علي المطالبة بالمحاسبة لسنوات. هذا الأسبوع أصدرت المنظمة تقريرا من 17 صفحة بعنوان ##أمطار النار: استخدام إسرائيل غير القانوني للفوسفور الأبيض في غزة##. قالت فيه ##إن إطلاق إسرائيل المتكرر لقذائف الفوسفور الأبيض علي مناطق مزدحمة بالسكان في غزة أثناء الحملة العسكرية الأخيرة, كان قصفا عشوائيا ويدل علي وقوع جرائم حرب##, وأن ##الجيش الإسرائيلي استخدم هذه الذخائر عن عمد أو لامبالاة في خرق لقوانين الحرب##.
القادة العرب الذين استقبلوا الرئيس عمر البشير هذا الأسبوع, يقولون إنهم ليسوا طرفا في ##اتفاقية روما## التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية, وبالتالي ليسوا ملزمين بقرارات المحكمة. يقولون إنهم لا يتوجهون إلي المحكمة الجنائية الدولية بطلب رسمي للتحقيق فيما ارتكبته إسرائيل في غزة, لأنهم ليسوا أعضاء في المحكمة. ومعروف أن الأردن وجيبوتي وجزر القمر هي وحدها الدول العربية الموقعة علي اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
واقع الأمر أن في وسع القمة العربية – لو شاءت – تكليف الدول الثلاث بطرح تجاوزات إسرائيل في غزة أمام المحكمة, لا سيما أن لديها الآن وثيقة منظمة عالمية تصف التجاوزات بأنها جرائم حرب. إذا وقع الخيار علي هذا الأمر, يجب علي القمة العربية عدم التفكير بما في ذهن بعض أعضائها, وهو استخدام قمة الدوحة لشن حملة ضد المحكمة الجنائية الدولية وضد قرارها بحق البشير وإطلاق تهم علي نسق ##المؤامرة## ضد السودان وغض النظر عن إسرائيل تكرارا.
الخيار الآخر, بحسب مطلعين وعالمين بالأصول القانونية للمحكمة, هو أن تضغط الدول العربية علي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كي يحيل طلب القمة إلي المحكمة الجنائية الدولية كما فعل في شأن دارفور. وهذا بدوره يستلزم الدعم والاحترام الكاملين من قبل العرب لقرارات المحكمة من دون مساومة علي المادة 16 في مجلس الأمن لتأخير تنفيذ قرارها ضد البشير لفترة سنة.
حكومة السودان لا تريد المادة 16, لأنها إذا طلبتها, فإنها تقر بأن رئيسها يقبل الإدانة بارتكاب جرائم حرب, لذلك, إن ما تريده هو أن يطلب آخرون تطبيق تلك المادة, ثم ترضخ لها من دون التزام.
الأمين العام بان كي مون خائف من انتقام حكومة السودان من المنظمات الإنسانية ومن موظفي الأمم المتحدة وجهودها للإغاثة الإنسانية, ولذلك فهو يشق نافذة بين الحين والآخر علي ترغيب الرئيس السوداني باتخاذ إجراءات داخلية تروض الأوضاع وتنفس التحقين, لكنه تكرارا يجد الأبواب توصد في وجهه لسببين رئيسيين هما: أولا, العراقيل القانونية التي تحول دون رغبته إما بلقاء البشير أم بقيام الرئيس السوداني بإجراءات قانونية داخلية فات عليها الأوان. وثانيا, رفض الرئيس السوداني رفضا قاطعا اتخاذ أي إجراء ضد وزيره المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب أحمد هارون, وذلك خوفا من ارتداد هارون وقبيلته الكبيرة والقوية عليه وعلي نظامه.
الأوربيون يبحثون عن طرق لتنفيس التصعيد لا سيما أن عمر البشير يتحدي الأسرة الدولية والمحكمة الجنائية ومذكرة التوقيف ويتوجه من مطار دولة إلي أخري ويلقي تشجيعا من قادة أفارقة بينهم رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي الذي قال للمدعي العام لويز مورينو أوكامبو إن أفريقيا تعالج خلافاتها بالتوافق وليس في المحاكم, فيما يقوم الرئيس السوداني بطرد منظمات الإغاثة الدولية التي تساعد شعبه.
رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة القس النيكاراجوي ميجيل ديسكوتو بروكمان تخطي صلاحياته بتصرفات ومواقف أجبرت رئيس الدول الموقعة علي اتفاقية روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية كريستشان ويناويز إلي إرسال رسالة صارمة احتجاجا وإعرابا عن القلق البالغ, طالب فيها أن تكون مواقف رئيس الجمعية العامة منسجمة مع مواقف الدول الأعضاء المطالبة بإنهاء الإفلات من العقاب واحترام المحكمة الجنائية الدولية التي وقعت 107 دول علي إنشائها.
ثم هناك الصين التي لها مصالح نفطية ومالية في السودان ومع النظام في الخرطوم والتي يعتمد عليها الرئيس السوداني لحمايته علي رغم أنها أثبتت عدم قدرة علي توفير الحماية الكاملة داخل مجلس الأمن وفي وجه المحكمة, فأعضاء المجلس منقسمون ولا يوجد ما يكفي من الأصوات لصالح البشير أو لحمايته. والصين لا تريد أن تكون في الواجهة وتستخدم الفيتو في أوضاع محرجة.
أما الولايات المتحدة فما زالت تدرس استراتيجيتها أثناء رئاسة أوباما, علما أنه عندما كان مرشحا أعلن مواقف صارمة دفاعا عن دارفور, بما في ذلك إجراءات عسكرية علي نسق فرض حظر الطيران.
بعض المصادر يقول إن السفيرة الأمريكية لدي الأمم المتحدة المتشددة في شأن دارفور سوزان رايس تدرس كل الخيارات المتاحة, بما في ذلك العودة إلي مذكرة المبعوث الأمريكي للإدارة السابقة إلي دارفور ريتشارد وليامسون التي اقترح فيها ثلاث خطوات لكبح الرئيس السوداني, وهي: قيام الولايات المتحدة بتعطيل كل وسائل الاتصالات في الخرطوم لمدة يومين لإثبات ضعف السودان وهشاشته, وممارسة الضغط المتزايد في مرفأ السودان من حيث يتم تصدير النفط وكسب الإيرادات وذلك عبر إيفاد سفن بحرية إلي قرب المرفأ كخطوة أولي, ثم تفتيش بعض السفن الذاهبة والعائدة منه, ثم فرض حصار لمنع الصادرات النفطية. وتقوم الولايات المتحدة بتحديد أهداف الطائرات العسكرية التي تقوم برحلات محظورة إلي دارفور كي تكون الخطوة الأولي تدمير بعضها علي الأرض ليلا ثم تدميرها كلها في حال استمرت المكابرة السودانية ورفض تسليم المتهمين.
وللتأكيد فإدارة أوباما لم تتخذ القرار العسكري, بل هي ما زالت تدرس خياراتها, بما في ذلك هذه الاقتراحات, وما يبلغه أقطاب هذه الإدارة إلي المهتمين بهذا الملف وذوي التأثير في الحكومة السودانية, هو أن الضغوط ضخمة من المنظمات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية, وأن لا مفر من مواجهة الواقع. واقع عدم الإفلات من العقاب لما حدث في دارفور. وعليه التحذير عسي أن تقوم الحكومة السودانية أو المؤسسة العسكرية بإجراءات تصون السودان من إجراءات عسكرية مطروحة علي طاولة الخيارات.
الصين تلعب أوراقها حاليا بطريقة قد تعطي المؤسسة الحاكمة في السودان الرسالة الخاطئة, ذلك لأنها لا تتعاون ولا تساعد أوربا والولايات المتحدة في ملف السودان, فيما تحسب حساباتها الأوسع, لا سيما تلك المتعلقة بالاقتصاد وبالعلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة. لكن الموقف الصيني لربما هو في نهاية الأمر تضليل للسودانيين, لأن الصين لن تتمكن من المواجهة بمفردها فيما لا تتوافر في مجلس الأمن الأجواء اللازمة لها لحشد المعارضة للمحكمة الجنائية أو لإجراءات لاحقة في حال استمرار المكابرة.
الولايات المتحدة عازمة علي حياكة شراكة استراتيجية مع الصين وروسيا, وهي تدرك الآن أنها كانت في سبات عميق فيما كانت الصين وروسيا تصيغان بينهما شراكة نفوذ وطاقة ونفط وسيطرة في أكثر من منطقة, في شبه امتداد للحرب الباردة التي استمرت بها إدارة جورج بوش أيضا إنما باستئساد وليس بإجراءات. اليوم تريد الولايات المتحدة في عهد أوباما شراكات استراتيجية ذات قواعد جديدة عنوانها الأساسي الاقتسام إنما مع الاحتفاظ بأدوات النفوذ والسيطرة. تريد تجنب الظهور بمظهر المنافس المدني أو المهيمن العسكري وأان ترتدي حلة الشراكة – انما حتي حدود مثل التمسك بالدولار كعملة عالمية ورفض التفكير بعملة بديلة كما ألمحت الصين وقبلها روسيا.
كيف ستنعكس هذه الشراكات الكبري علي كيفية تناول القضايا والنزاعات الإقليمية؟ هذا هو السؤال الذي يستحق التمعن لا سيما عندما تجتمع القيادات العربية أو الأفريقية. ففي قمة الدوحة يجب التفكير بفلسفة المثابرة التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي لتري كيف يمكن تطبيقها من أجل المصلحة العربية المشتركة ومن أجل الضغط علي إسرائيل للحؤول دون مشاريعها لإجهاض قيام دولة فلسطين المستقلة إلي جانب اسرائيل. وهذا ما قاله الرئيس باراك أوباما عندما سئل في مؤتمره الصحفي ماذا سيفعل إزاء ازدياد التملص من خيار الدولتين, قال إنه مؤمن بالمثابرة وأن إدارته ستصر علي المثابرة بعناد حتي تحقيق المبادئ والأهداف التي تؤمن بها.
علي القمة العربية الالتفات إلي هذه الناحية والبناء عليها كما يجدر بالقمة العربية البناء علي تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش وأن تصر علي الأمين العام بان كي مون كي يوضح أن كان يري أن ما قامت به إسرائيل جريمة حرب – أو أقله أن يحيل المسألة إلي المحكمة الجنائية الدولية.
فلا منفعة من شن الهجوم علي مؤسسات العدالة أولا لأن التهمة خطيرة وثانيا لأن مؤسسات العدالة هي في مصلحة العرب وليست ضد مصلحتهم, شأنها شأن الشرعية الدولية. فإذا ثابرت الحكومات والمؤسسات والهيئات الشعبية والنخبوية العربية علي الإصرار علي إجراء التحقيقات في غزة وفلسطين وحيثما قامت إسرائيل بالتجاوزات ستجد نفسها في نهاية المثابرة أمام مفاجأة عادلة عكس ما ستقودها إليه المكابرة علي العدالة.
نقلا عن جريدة الحياة اللندنية