سأذكر ما دمت حيا هذه المواقف التي تصادفنا في حياتنا اليومية, سأفسح لها مكانا في رأسي فتدعوني لتدوين ما أري وما أسمع لقد ألفت العامة من الناس في كل مكان أن تستعمل المصعد للوصول إلي الأدوار التي يقطنوها أو يعملوا بها. بل أصبح هذا المكان الضيق ضرورة في حياتنا تضاف إلي الكم الهائل من الضروريات التي وضعت في حياتنا. مرة أخري إنه المصعد. لا تتعدي مساحته بعض الأمتار القليلة قد تقف بداخله بضعة ثوان أو ربما بضع دقائق إذ كان عتيقا, بل ربما تضطرك الظروف للوقوف بداخله لساعات إذا تعطل بك.
لا داعي للخوض في تفاصيله متناسين ما يحمل في داخله من مواقف وتأملات لا حصر لها.جئت في كتابي هذا بمصعد من النوع الحديث الذي يتسع لاستقبال عشرة أشخاص أو أكثر, ينقلني إلي مكان عملي الذي يقارب السحاب, لذا أصبح هذا الصندوق الصغير وسيلة انتقال لا تقل أهمية عن السيارة التي تقلني من سكني إلي حيث أعمل. وإذ أن من المستحيل أن ينفرد كل أحد بمصعد خاص به, أصبح المصعد وسيلة انتقال عامة رغم أنوف من يهوي العزلة عن طبقات المجتمع الأخري أو الارتقاء عنهم.
في أحد الأيام, أخذت المصعد كعادتي للنزول إلي الطابق الأرضي, وقفت منتظرا وصوله إلي أن جاء فاتحا أبوابه مطلا علي عالم صغير حجما عميق معني, رصت الناس بداخله رصا, لا يعرف أحدهم الآخر, واقفين دون حركة سوي التي تفرضها سرعة المصعد علي أجسامهم. فور دخولي لهذا العالم سلمت نفسي روحا وجسدا لصندوق صغير ليس من يقوده ولا تعرف عن نواياه شيئا وأغلق الباب من خلفي مرحبا بي دون أدني مظاهر الترحيب. وقف بنا المصعد في أحد الأدوار وإذ بعامل أمن يقف في عجالة بدت علي وجه, ممسكا بكتف شاب نحيل البدن, ملائكي الوجه قصير القامة. مد العامل خطي سريعة نحو باب المصعد سرعان ما استجاب لها الشاب الذي معه متسربلا في خطاه وقال وهو يدفعه إلي الداخل:
-فليصطحبه أحدكم معه إلي أسفل…
ظننت هذا الشاب من يهابوا ركوب المصعد إلي أن أحكم ضيق وجهه وعصر كل شفتيه لدي دخوله إلي المصعد دققت النظر فوجدت عيون أبت أن تنفتح وللوقت عرفت أنه كفيف. كان ثقل غلاظة قول هذا العامل في أذن الشاب كثقل حجر ألقي في ماء وزاد من خجله خجلا وألما كونه عالة علي ناس لايري وجوههم ولا يلتمس من ثناياها عزاء. نظرت متأملا من حولي وقع ما سمعنا ورأينا ولم أري سوي وجوه لازال الشلل يكسوها ولم ألمح سوي نظرات خاطفة لهذا الشاب..خضت في أعمق الأفكار موحيا إلي من المكان والحدث بأن هذا المكان هو العمي الوقتي إذ أنه مكان مغلق لا تري فيه الأعين سوي بعض الأمتار من حولها, تملأه الناس عن آخره ولكن لا شكل لهم ولا هيئة كما سبق ورأيتهم. أجساما لا تتحرك إلا حين تنفتح عيونهم علي ما هو أوسع, ما هو خارج المصعد..ربما مقصدهم ,وأن هذا الشاب الكفيف لم يكن غريبا عن المكان ولا حاجة له لأحد يصطحبه فهو خير من يري في هذه الأماكن المغلقة بل إنه الوحيد الذي رأي ما لم تره عيناي.