أعلن المسيح ذاته في أحد الشعانين ملكا بطريقة ظاهرة,وقبل أن ينادي أمامه بأنه ملك إسرائيل,ولم يعترض علي ذلك بل شاء أن يدخل أورشليم راكبا مثل ملك محققا بذلك نبوءة النبي زكريا:إبتهجي جدا يا بنت صهيون,واهتفي يا بنت أورشليم.هوذا ملكك يأيتك.هو عادل ومنصور ووديع(زكريا9:9),لأنه كان يعلم أنه بعدستة أيام سيعلق علي الصليب.وعلي الصليب سوف يصعد المسيح ملكا مكللا بتاج من شوك,والصليب سيكون عرشه,والقصبة التي ضربوه بها صولجانه,والحربة التي طعنوه بها ستكون سيفه.نعملقد ملك الرب من فوق خشبة(مزمور95:10)حسب الترجمة القبطية,والخشبة هي خشبة الصليب.وعلي الصليب سيمد يديه,باسطا رحمته علي كل الخليقة,وعلي إمتداد الشرق والغرب يمد يديه مرفوعا ليضم إلي صدره وقلبه جميع من سباهم الشيطان لطاعته.علي الصليب صعد الفادي فإلتقي بجسده علي الصليب الشمال والجنوب والشرق والغرب.
إلتقت البشرية في جميع إمتداداتها,وإلتقي فيه الشرق بالغرب والشمال بالجنوب فتصالح فيه الكل,واجتمع فيه الجميع,ولم يعد يهودي ويوناني عبد أو حر,ذكر أو أنثي(غلاطية3:28)…المسيح فادي الكل وملك الجميع,صار المسيح للكل,من عال ودون,من أبيض وأسود,علي إختلاف أجناس الناس وألوانهم ولغاتهم.علي الصليب صعد المسيح,فهزم الشيطان ونهب منه أمتعته(متي12:29),(مرقس3:27),وصار ملكا علي الكل,وصار الكل ملكا له,وعلي الصليب تأسست مملكته الجديدة,فكان الصليب له عرشا,صعد عليه فملك علي الجميع.
التعارض بين المملكتين:
لكن عرش المسيح في الجلجثة صليب,والصليب خشبتان متعارضتان لا يلتقيان إلا في المركز,وفي تعارضهما معني التعارض بين مملكته ومملكة الشيطان,والتعارض بين مبادئ مملكتة ومبادئ مملكه الشيطان أو بين السماء والعالم,وكما يقول الرسول بولسأما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم(غلاطية6:14) وهذا يشير إلي التعارض في المبادئ والتعارض في الأهداف بين مملكة المسيح بمبادئها وأهدافها,وبين مملكة الشيطان بمبادئها وأهدافها,وهذا هو سر العداوة القائمة بين المسيح ومملكته وبين الشيطان ومملكته.
ملك المسيح ملكا روحانيا لا ماديا,ولم يملك بالعنف والاغتصاب,بل ملك بالألم وبالشوك وبالدم المسفوك,وبالفداء وبالتضحية,ومملكته تتألف من المتعبين والمبلوين والمجربين والحزاني والمضطهدين,الذين تعبوا من عبودية الشيطان والعالم والحياة المادية واستعباد الخطيئة ,فانضموا إلي مملكة المسيح الرب فوجدوا فيه الراحة والحمي والملاذ وسلام القلب وإشباع العقل وراحة الضمير.
المسيح يدخل أورشليم راكبا:
في أحد الشعانين دخل المسيح أورشليم راكبا,ولم يجد غضاضة في أن يدخل أورشليم راكبا جحشا,لأنه أراد أن يعلن ذاته ملكا,وأن يمارس وظيفته الملكية التي نالها في ناسوته بعد أن نزل عليه روح القدس في نهر الأردن,لافتا بذلك أنظار علماء الشريعة إلي نبوءة النبي زكريا في الأصحاح التاسع من سفره وقد تحققت تماما في الرب يسوع.
(ابتهجي جدا يا ابنة صهيون واهتفي يا بنت أورشليم.هذا ملكك يأتيك هو عادل ومنصور ووديع راكبا علي أتان وجحش ابن أتان)(نبوءة زكريا9:9),وقد روي القديس متي الإنجيلي قصة دخول المسيح أورشليم راكبا علي جحش ومعقبا علي ذلك بأن في هذا الدخول تحقيقا للنبوءات.قال:وقد كان هذا ليتم ما قيل بفم النبي القائل:(قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا وراكبا أتان وجحش ابن أتان)(متي 21:4, 5),وكذلك روي القديس يوحنا قصة الركوب والدخول وعقب قائلا:وفقا لما هو مكتوب:(لا تخافي يا ابنة صهيون.هوذا ملكك يأتي إليك,راكبا علي جحش ابن أتان)(يوحنا 12:14, 15).
هذا هو اليوم الذي شاء المسيح له المجد أن يدخل فيه إلي أورشليم القدس راكبا علي دابة هي حمار أو جحش.
وإنه لأمر بديهي أم يكون لعظمتك يا سيدي المسيح حكمة في ذلك,كما هو شأنك في كل عمل وفي كل قول.
في كل زمان رحلتك علي الأرض كنت دائما يا سيدي تسير علي قدميك,ولم يذكر عنك أنك ركبت علي دابة إلا هذه المرة,وكانت رحلتك علي الأرض أوشكت علي نهايتها,وبعد ستة أيام تصلب.وبالصليب والآلام وقيامتك من بين الأموات وصعودك إلي السماء العليا التي منها نزلت,تتم مهمة الفداء التي أتيت من السماء من أجلها,وبها يكون الخلاص الذي وعد به الله آدم والذي أنبأ به جميع الأنبياء السابقين,وانتظرته كل الأجيال.
ومن بين الأنبياء النبي زكريا الذي قال بالوحي الإلهي(إبتهجي جدا…اهتفي يا ابنة أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك.هو عادل ومنصور وديع,وراكب علي أتان وعلي جحش ابن أتان)(زكريا 9:9)(متي21:4, 5)(يوحنا12:15),(لوقا1:32, 33).
هذا هو القصد الحكيم من دخولك يا سيدي الرب أورشليم القدس راكبا علي أتان وجحش تحقيقا لنبوءة النبي زكريا,فأنت هو الملك الموعود به,(الذي يجلس علي عرش داود,ويملك علي بيت يعقوب إلي الأبد,ولن يكون لملكه انقضاء).
دخل المسيح له المجد أورشليم كملك.لكنه ملك روحاني سماوي,ودخل راكبا علي حمار دخولا متواضعا.
دخل المسيح أورشليم في يوم أحد الشعانين راكبا جحشا,ليعلن ذاته ملكا ولم يجد غضاضة في أن يمارس عمله كملك وأن يصحبه تلاميذه والجموع في موكب احتفالي عظيم يحيونه كملك ويهتفون له هتاف التكريم(وقد بسط جمع عظيم جدا ثيابهم في الطريق,وقطع آخرون أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق,والجموع الذين كانوا يسيرون أمامه والذين كانوا يسيرون خلفه,كانوا يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم من أجل كل أعمال القدرة التي شاهدوها ويهتفون قائلين:(المجد لمخلصنا ابن داود,مبارك الملك الآتي باسم الرب,السلام في السماء والمجد في العلي.مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب.المجد لمخلصنا في الأعالي)(متي21:8, 9)-(مرقس11:8-10),(لوقا19:36-38).
ولم يكن ذلك فقط من التلاميذ والجموع الذين صحبوه من بيت عنيا وبيت فاجي عند منحدر جبل الزيتون,بل وكذلك التحم معهم(الجمع العظيم الذي جاء للعيد)(يوحنا12:12, 13)فهؤلاء أيضا سمعوا(أن يسوع قادم إلي أورشليم .فأخذوا سعف النخل وخرجوا لإستقباله.وهم يهتفون قائلين:هو شعنا,تبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل)(يو12:12, 13).
بل زاد علي ذلك بأن طلب هو بذاته الأتان والجحش وأرسل اثنين من تلاميذه في طلب الأتان والجحش.قال الإنجيل:(ولما اقتربوا من أورشليم وجاءوا إلي بيت فاجي وبيت عنيا عند جبل الزيتون أرسل يسوع اثنين من تلاميذه قائلا لهما:(اذهبا إلي القرية التي تجاهكما فما إن تدخلانها حتي تجدا أتانا مربوطة ومعها جحش مربوطا لم يركبه أحد من قبل فحلاهما وأتياني بهما.فإن قال لكما أحد لماذا تفعلان ذلك فقولا له هكذا:(إن الرب محتاج إليهما ففي الحال سيرسلهما إلي هنا,فذهب التلميذان الرسولان فوجدا كما قال لهما,وفعلا كما أمرهما يسوع,وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما)(متي21:1-7),(مرقس 11:1-7),(لوقا19:29-35).
ثم إنه عندما اعترض رؤساء الكهنة والكتبة عليه لأنه قبل هتاف الجمع والتلاميذ والأولاد,ولم يمنعهم عنه,أجابهم مدافعا,ومؤيدا بما قاله الأنبياء عن ذلك من قبل.يقول الإنجيل (فلما رأي رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنعها,والأطفال الذين يهتفون في الهكيل قائلين:(المجد لمخلصنا ابن داود),تميزوا غيظا وقالوا له:(أما تسمع ما يقول هؤلاء؟),فقال لهم يسوع:(نعم أفما قرأتم قط أن من أفواه الأطفال والرضع أعددت لك تسبيحا)(متي21:15, 16)ويقول الإنجيل للقديس لوقا(فقال له بعض الفريسيين من بين الجمع:(يا معلم انتهر تلاميذك)فأجاب وقال لهم:(أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء,صرخت الحجارة)(لوقا19:39, 40).
ويضيف الإنجيل للقديس يوحنا قائلا:(ولم يفهم تلاميذه ذلك في مبدأ الأمر,ولكنهم لما تمجد يسوع تذكروا أن ذلك مكتوب عنه,وأنهم فعلوا له هذا)(يوحنا12:16).
ولكن لماذا دخل أورشليم هذه المرة راكبا؟
وهنا نقف لنتأمل المسيح راكبا علي جحش,أليس هذا الأمر حدثا جديدا في حياة المسيح علي الأرض لم نقرأ عنه من قبل؟ولم يرد في الأناجيل غير هذه المرة إنه ركب علي أتان أو علي جحش!
عهدناك يارب تسير مشيا علي الأقدام,ولا تركب غير السفينة لتعبر بها من شاطئ إلي آخر..
أما في البر فكنت تسير مشيا علي قدميك من مدينة إلي أخري,ومن قرية إلي قرية,بل وتصعد إلي الجبال وتنحدر منها,فلماذا ركبت أتان وجحشا في هذه المرة؟
إنك لم تكن تملك لنفسك أتانا ولا جحشا,ولكنك استعرتهما من أصحابهما,فلماذا هذا الإصرار؟
لقد كنت تقطع المسافات الطوال,وتمشي علي قدميك أميالا في كل يوم(تطوف في الجليل كله,تعلم في مجامعهم وتنادي ببشارة الملكوت,وتشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب)(مت4:23)بل كنت (تطوف بكل المدن والقري,تعلم في مجامعهم,وتنادي ببشارة الملكوت)(مت9:35).
عندما ذهبت لإقامة ابنة يايرس,سرت علي قدميك مسافة كبيرة إلي أن وصلت إلي البيت (متي9:18-24),وعندما ذهبت إلي مدينة نايين لتقيم ابن الأرملة سرت أيضا علي قدميك وكان معك كثيرون من تلاميذك وجمع كثير(لوقا7:1, 12),بل وكذلك فعلت عندما ذهبت لإقامة لعازر من بين الأموات حتي إذا ما وصلت إلي بيت عنيا كان قد صار للميت في القبر أربعة أيام(يوحنا11:17).
فلماذا أصررت علي أن تركب أتانا وجحشا في يوم أحد الشعانين؟
عندما أردت أن تخلص المرأة السامرية وأهل السامرة سرت علي قدميك ماشيا من إقليم اليهودية إلي إقليم السامرة وهي مسافة طويلة يقطعها المسافر في مدة تزيد علي ست ساعات(يوحنا4:3-6).
وكم من مرة سرت علي قدميك من إقليم الجليل شمالا إلي إقليم اليهودية جنوبا مارا بإقليم السامرة(لوقا17:11)وبالعكس من إقليم اليهودية جنوبا إلي إقليم الجليل شمالا مارا بإقليم السامرة في الوسط.
بل علي الأقل,يارب ألم تسر علي قدميك مرات من أورشليم إلي أريحا أو من أريحا إلي أورشليم,وهي مسافة تبلغ سبعة عشر ميلا,بينما أن المسافة من بيت عنيا وبيت فاجي إلي أورشليم لا تزيد علي ميلين اثنين فقط,فلماذا ركبت في هذه المرة أتانا وجحشا,وأصررت علي ذلك حتي إنك أرسلت في طلبهما من قرية بعيدة؟
لا يمكن إلا أن يكون لك في ذلك قصد حكيم.إنك يا سيدي,وقد أشرفت علي إتمام رسالتك علي الأرض ولم يبق علي إتمام عمل الفداء غير ستة أيام,فكان لابد أن تلفت نظر اليهود.ونظر تلاميذك إلي أنك بالحقيقة(ملك إسرائيل)(يوحنا1:49)وأنه عنك بالذات أنبأ النبي زكريا قائلا:(قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا وراكبا أتان وجحش ابن أتان)(متي21:5),(زكريا9:9).
علي أنك يا سيدي لم تشأ مع ذلك أن تدخل أورشليم كملك أرضي,وإلا كنت قد دخلتها ممتطيا جوادا أوفرسا أو حصانا كما يفعل ملوك الأرض,وإنما دخلت أورشليم راكبا جحشا ابن حمار مدللا علي تواضعك ووداعتك علي قول النبي(قولوالا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا وراكبا أتان وجحش ابن أتان)(متي21:5),(زكريا9:9).
ولعلك في اختيارك هذا المدخل المتواضع تريد أن تطمئن الملوك علي مراكزهم ,وأنك لم تأت لتعاديهم أو لتنتزع عنهم سلطانهم الزمني,أو تشاركهم فيه,فإنك جئت لمهمة أسمي وأرفع من أن تأخذ لنفسك ملكا أرضيا فانيا زائلا,فقد تركت صورة المجد في السماء من أجل خلاص البشر,فكيف تستبدلها بصورة المجد الزائل العابر؟فليطمئن هيرودس,وبيلاطس,وعلي ملكهم وسلطانهم فأنت لم ولا ولن تنازعهم فيه,لأنك أسمي وأرفع من أن تدخل معهم في خصومة ونزاع علي ملك عابر وسلطان زمني زائل.أنت يا سيدي لم تأت لتحارب ملوك الأرض ولا جئت لتدمرهم وتهلكهم,وإنما أتيت لتخلصهم مع شعوبهم,ولتوجه نظرهم إلي ما هو أبقي وأخلد وأدوم علي الزمن,جئت لتنبههم إلي خلاص نفوسهم جميعا..جئت كملك روحاني لتدخل في معركة حقيقية مع ملك ملوك الأرض جميعا…مع الشيطان رئيسهم (ورئيس هذا العالم)(يوحنا12:31),(14:30),(16:11).جئت لتحارب الأسد في عرينه…ولتنتزع منه الفريسة التي اقتنصها لمشيئته (2تيموثيئوس2:26)..هذه الفريسة الثمينة عندك..وهي عندك أثمن من كل مجد السماء والأرض معا…هي نفس الإنسان,ملكا كان أو عبدا…لأنها يمامتك وحمامتك التي خلقتها علي صورتك ومثالك(التكوين1:26, 27).
نعم يا سيدي…إنك ملك…لكنك لست عدوا للملوك ولا غريما لهم …إنك مخلصهم وفاديهم…إنك أبوهم وخالقهم وحاميهم…إنك مليكهم جميعا..وبغير منازع…(ملك الملوك ورب الأرباب)(الجليان-الرؤيا19:16),(17:14)(1تيموثيئوس6:15),(ورئيس ملوك الأرض)(الجليان-الرؤيا1:5),(مزمور88:27),(دانيال2:7).