قدمت منظمة المؤتمر الإسلامي ومجموعة الدول العربية والإسلامية, مشروع قرار, للجمعية العامة للأمم المتحدة, يدعو كافة الدول والمنظمات والشعوب إلي احترام الأديان وعدم ازدراء معتقدات الآخرين أو تحقيرها, وتبنت ##لجنة حقوق الإنسان## التابعة للأمم المتحدة, في نوفمبر الماضي, بأغلبية 85 صوتا مقابل 50 صوتا, قرارا غير ملزم, هذا موجزه:
تنظر اللجنة بقلق عميق إلي الحملة الشاملة التي تستهدف تحقير الأديان والأنبياء, كما تنظر بقلق عميق إلي انتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب التي غالبا ما تنسب إلي الإسلام, خطأ وافتراء, ويدخل في ذلك: التمييز العرقي والديني تجاه الأقليات الإسلامية, وهي ظاهرة تكثفت منذ التطورات المأساوية التي وقعت في 11 سبتمبر 2001##.
لم ننتج إلي الآن خطابا دينيا متسامحا ومتلائما مع روح العصر ومتطلباته, ولم نقدم نموذجا إسلاميا حداثيا علي مستوي الفكر والممارسة.
صوتت ضد هذا القرار الدول الغربية, وفي مقدمتها الولايات المتحدة, بينما أيدته الدول الإسلامية, وكذلك -وللمفارقة- الصين وكوبا وروسيا!
عبر ممثل فرنسا ##ماييه## نيابة عن الاتحاد الأوربي, عن حجة الرافضين, بقوله: ##إنه من الضروري التمييز بين مفهوم انتقاد الأديان ومفهوم الحث علي الكراهية الدينية, المفهوم الأخير وحده ينبغي تحريمه, أما انتقاد الأديان فهو جزء رئيسي من حرية التعبير, وحرية التعبير عنصر رئيسي للديموقراطية, وليس بمقدورنا أن نحد من التوترات بمنع التعبير عن الأفكار حول الأديان والعقائد##. في المقابل رفضت الدول الإسلامية هذه الحجج, وأعرب وزير الخارجية المصري عن خيبة أمل بلاده إزاء معارضة الدول الغربية للقرار, مؤكدا أن هذا النمط من التصويت, يمثل عدم اكتراث بما تعانيه العديد من الجاليات المسلمة في تلك الدول من تمييز وعنصرية وأعمال عنف, وقال: ##إن المبادئ الراسخة للقانون الدولي, تحرم الحض علي الكراهية والتمييز علي أساس الدين أو العرق##, وأكد الوزير المصري: ##إن ازدراء الأديان لا يعد تجاوزا لحدود حرية التعبير عن الرأي فحسب, وإنما يمثل انتهاكا لحق الإنسان في ممارسة شعائر دينه, بحرية ودون خوف أو تمييز##.
يأتي هذا التحرك العربي والإسلامي لاستصدار قرار من الأمم المتحدة بمنع ##الإساءة إلي الأديان## ومساءلة الدول المعنية عما يمارس من تمييز عنصري ضد الأقليات المسلمة أو حض علي كراهية الإسلام من خلال الآليات الدولية المتاحة, علي خلفية التوترات الناجمة عن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام ولرسوله, في صحف دانمركية من غير مبرر مصلحي أو منطقي إلا التباهي الأجوف بحرية الرأي والتعبير, وتعمد استفزاز المسلمين وقطع جسور التواصل بين الأديان والثقافات والشعوب, واستدامة عوامل الصراع وإحياء النزعات العدوانية وترسيخ الكراهية بين أتباع الديانات. وتكرر نشر هذه الرسوم, مما أدي إلي خروج مسيرات جماهيرية غاضبة في معظم الدول الإسلامية, خرج بعضها عن السيطرة إلي أعمال عنف بحق رعايا دول أجنبية وتسببت في مقتل وجرح أبرياء غير الأضرار التي لحقت ببعض السفارات الأجنبية والكنائس والممتلكات, وهذه الحملة من الكراهية ضد الإسلام والمسلمين, وبخاصة الجاليات المسلمة في أوروبا, إنما أفرزتها ظاهرة صعود التيارات اليمينية المتطرفة المعادية للمسلمين في أوربا والداعية إلي طردهم.
ولا شك أن مطالب الدول الإسلامية, مطالب عادلة, وكافة المواثيق وقواعد القانون الدولي, تؤيدها, وكما يقول المستشار ##عادل ماجد## في كتابه القيم ##مسئولية الدول عن الإساءة للأديان والرموز الدينية##, الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية, فإن التمييز ضد الأشخاص علي أساس الدين أو المعتقد يشكل إهانة للكرامة البشرية, وتنكرا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وهو يشكل صورة من صور التمييز العنصري المذمومة التي تقوم علي أسس دينية حظرتها الاتفاقية الدولية للقضاء علي التمييز العنصري بجميع أشكاله. ويضيف المستشار عادل ماجد: ##إن المساس بالحقوق الدينية للأشخاص يعد انتهاكا لأحد حقوقهم الأساسية, وإن ازدراء دين معين, يشكل تمييزا بغيضا لمن يدينون بهذا الدين, وبالتالي يعد مخالفا لأهم مقاصد ميثاق الأمم المتحدة##.
ولا يسع أي منصف إلا تأييد مسعي الدول الإسلامية في حماية الأديان ورموزها ومقدسات الأمم من الإساءة والعدوان, وبخاصة أننا في عصر طابعه التقارب والتعاون والتواصل علي أساس من التعايش وحسن الجوار واحترام الثقافات والأديان, ونبذ ثقافة الكراهية وإزالة أسباب العدوان, ولا شك أن الدول تتحمل مسئولية الإساءات للأديان والمعتقدات والرموز الدينية, ومن هذا المنطلق فإننا كعرب ومسلمين نتحمل مسئولياتنا الدينية والوطنية والأخلاقية عما يحصل في الساحة الإسلامية من إساءات موجهة لأقليات وطوائف دينية مواطنة, مسلمة وغير مسلمة, ومسئولياتنا في هذا الميدان مزدوجة:
* الأولي; علي مستوي الجبهة الخارجية, وهي تتعلق بمسئوليتنا عن تقديم صورة حضارية لديننا, فنحن حتي الآن لم نفلح في تقديم خطاب ديني متسامح ومتلائم مع روح العصر ومتطلباته, ولم ننجح في تقديم نموذج إسلامي حداثي سواء علي مستوي الفكر أو الأنظمة أو الآليات أو السلوك, ومازلنا عالة علي الآخر المتفوق حضاريا, ومع ذلك فنحن الأكثر شكوي والأعلي صراخا والأعظم اتهاما للآخرين, إذ كيف يمكن إقناع هذا الأوروبي بعظمة هذا الدين وسمو مقاصده وتعاليمه وهو يري ويعاني الآثار المريرة للهجمات الإرهابية علي يد شباب مسلم في عقر داره؟! علينا أن نعترف أن إساءات بعض شبابنا لديننا أعظم من إساءات متطرفي الغرب, ولقد كنا أسوأ محامين لإسلامنا.
* الثانية; علي مستوي الجبهة الداخلية, فالمسلمون إذ يطالبون الغرب بحماية الجالية المسلمة من العنف والتمييز, أجدر بهم أن يلتزموا هم أنفسهم بحماية الطوائف الدينية المواطنة في بلادهم, لأن كافة التقارير الدولية عن الحريات الدينية في البلاد الإسلامية تتحدث عن صنوف من التضييق والتمييز والإقصاء والتهميش, بل العدوان والتهجير, تمارس ضد الأقليات الدينية, ليست من قبل الجماعات المتشددة فحسب, بل أيضا من قبل بعض الحكومات الإسلامية, ومع أن دساتير الدول العربية تنص علي مبدأ المواطنة, إلا أنها نصوص معطلة بعيدة عن حقائق الواقع المجتمعي وعلاقاته, فمازالت هناك تشريعات تمنع تجنيس غير المسلم, ومازالت فتاوي تحرم تهنئة الآخر المسيحي, وهي رائجة, وهناك خطاب ديني يطالب المسلمين في الغرب بوجوب إضمار الكراهية له وبغضه وعدم التشبه به, ومازال بعض خطباء المساجد يدعون علي المسيحيين واليهود بالفناء, وبعض المناهج الدينية تلقن الأطفال مفاهيم ##الولاء والبراء## بشكل خاطئ, وتشحن نفوسهم ببغض وكراهية معتقدات غيرهم من أهل السنة والتشكيك فيها. وعندما قال مفتي مصر, لا حرج في التعبد علي مذهب الشيعة, قامت حملة تطالب بعزله, وهناك الخطيب البحريني الذي شبه الطائفة الشيعية بـ##بني صهيون البحرين##, وفي العالم الإسلامي مئات الآلاف من المدارس الدينية التي تخرج سنويا ملايين الشباب الذين يحملون مشاعر الكراهية, ليس لأتباع الأديان الأخري فحسب, بل للمذاهب والطوائف الإسلامية الأخري أيضا.
وختاما كيف نطالب الغرب بعدم الإساءة ونحن نروج ##موسوعة تفسير القرآن للأطفال## وفيها أن ##المغضوب عليهم## و##الضالين## هم اليهود والنصاري؟
أستاذ الشريعة بجامعة قطر