يمر المسيحيون في الشرق بحالة قلق, فعددهم في تراجع ودورهم في انحسار. ويشكل استمرار هذه الظاهرة كارثة وطنية بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعندما تقع الكارثة فإنها لا تستثني أيا من دول الشرق. والقيادات الرسمية في هذه الدول تعرف أن هذه الحالة تعني خسارة أدمغة وعقول وسواعد منتجة, وأن معني ذلك استنزاف المجتمعات المشرقية من كفاءات وقدرات وإمكانات علمية هي بأمس الحاجة إليها. وتعرف هذه القيادات الرسمية أيضا أن فقدان التنوع الذي تميزت به المجتمعات الشرقية من جراء الهجرة المسيحية يعني:
أولا: إعادة صياغة هذه المجتمعات علي قاعدة اللون الواحد, الأمر الذي يؤدي إلي استقواء التطرف من حيث هو رفض للآخر وإلغاء له.
ثانيا: انتعاش ثقافة الانغلاق علي حساب ثقافة الانفتاح.
ويقدم هذان الأمران رسالة مزدوجة إلي العالم مفادها:
أ – أن الشرق يضيق ببعض أهله. وأنه يختنق بالتنوع والتعدد. وأن من مظاهر ذلك خنق حرية التعبير الديني. وبكلام أكثر وضوحا تعني هذه الرسالة أن الإسلام يضيق بالمسيحية في الشرق بعد حوالي 1400 عام من التعايش المشترك الذي تجسد في حضارة إنسانية مزدهرة. وعلي رغم أن هذا التعايش مر بفترات صعود وهبوط, لكنه لم يغب ولن يغيب يوما.
ب- أما الرسالة الثانية فإن مضمونها يوحي بأن المسلمين في الغرب قد يحملون معهم هذه الثقافة بمضمونها الرافض للآخر مما يعني أنهم غير قابلين للتكيف مع مجتمعاتهم الجديدة والاندماج فيها, ذلك أن هذا الرفض يشكل قنبلة اجتماعية موقوتة. ومن شأن هذه الرسالة أن تصب المزيد من الزيت علي نار ظاهرة الإسلاموفوبيا المشتعلة أصلا, والتي تستمد قوتها التدميرية من الجهل والكراهية من جهة أولي, ومن سوء رد فعل بعض المتطرفين المسلمين من جهة ثانية. ولذا فإن عدم الفصل في الثقافة الإسلامية العامة بين الغرب والمسيحية يجعل من كل مشكلة إسلامية -غربية, مشكلة إسلامية -مسيحية شرقية, ويجعل بالتالي من مسيحيي الشرق هدفا في متناول اليد لردود فعل علي بعض مواقف أو علي بعض تصرفات الغرب, علي النحو الذي عرفه العراق مؤخرا. وبذلك يكون مسيحيو الشرق ضحية الفعل الغربي اللامسيحي, وضحية رد الفعل الشرقي اللاإسلامي, مما يضاعف من معاناتهم ومن تزايد قلقهم علي المستقبل والمصير.
وتعرف القيادات الرسمية كذلك أن شعوب العالم المتعددة والمختلفة, بكل عقائدها وثقافاتها ولغاتها وألوانها, قد تداخلت معايشها وتشابكت مصالحها; وأن الحدود القائمة بينها أصبحت بفضل الإعلام التقني- الإلكتروني الحديث حدودا وهمية. وهي تعرف كذلك, فيما يتعلق بالمسلمين والمسيحيين تحديدا, أن ثلثي المسيحيين اليوم يعيشون في دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية, وأن ذلك يعني أن المسيحية لم تعد دين الرجل الأبيض. ولا دين المستعمر. ولا دين الشعوب الغنية. ولكنها دين الفقراء والملونين والمستعمرين والمظلومين كذلك. وأنها لم تعد دين أوربا وأمريكا, ولكنها دين شعوب تتعايش مع الشعوب الإسلامية جنبا إلي جنب من أندونيسيا وحتي نيجيريا. كما تعرف أن أكثر من ربع المسلمين الذين يبلغ عددهم مليارا ونصف المليار إنسان تقريبا يعيشون في دول وفي مجتمعات غير إسلامية تمتد من أمريكا الشمالية وحتي أستراليا مرورا بأوربا والصين والهند.
وتفرض هذه المتغيرات الجذرية حالة من اثنتين: إما الصدام علي قاعدة رفض الآخر وعدم الثقة به. وإما العيش المشترك علي قاعدة المحبة واحترام الاختلاف.
ويستطيع الشرق العربي أن يقدم نموذجا ناجحا لصيغة العيش المشترك المنشود علي قاعدة أن رسالتي المسيحية والإسلام أشعتا من هذا الشرق. وأن المسيحيين والمسلمين هم أبناء هذا الشرق تربطهم الحضارة الواحدة والثقافة الواحدة واللغة الواحدة وحتي الأصول العرقية والعائلية الواحدة, إضافة إلي الأوطان الواحدة التي ناضلوا معا من أجل قيامها ومن أجل المحافظة علي سيادتها وحريتها. ويفترض ألا تؤثر المتغيرات العددية في جوهر هذا الواقع.
ولكن هذا الافتراض يكاد لا يبدو صحيحا دائما. وهنا مصدر الخطر الذي يتحتم علي القيادات الرسمية أن تتنبه له وأن توليه عنايتها.
وتشهد بعض دول الشرق صعودا في حركات التطرف والغلو. بعض القيادات الرسمية تحاول احتواء هذه الحركات. ولكن الوقائع أثبتت أن هذا الإهمال لم يؤد إلا إلي تشجيع التطرف, وتاليا إلي المزيد من الغلو. كما أثبتت الوقائع أنه مع الوقت, تتضخم الفاتورة, وتتضخم معها معاناة المسيحيين حتي تصل بهم الأمور إلي الغضب اليائس الذي يعبر عن ذاته بإحدي السلبيتين أو بكلتيهما معا: الهجرة أو العزلة.
والبعض الآخر من القيادات الرسمية يتصدي لحركات التطرف والغلو من الأساس, ويذهب في صراعه معها إلي حد عزلها وإقصائها, وفي الوقت ذاته ينفتح علي القوي الوطنية المسيحية ويتعاون معها. وهنا أثبتت الوقائع أيضا أن هذه المفاضلة أدت إلي تعميق الهوة بين حركات التطرف والمواطنين المسيحيين, إذ صورت هؤلاء المواطنين, الوطنيين, وكأنهم حلفاء لخصمها في السلطة شرعة ومنهاجا; مما يعطي لهذه الخصومة بعدا دينيا وليس سياسيا فقط.
وعندما تسوي القيادات الرسمية خلافاتها مع حركات التطرف (كما حدث في عهد السادات مثلا), تجد القيادات الوطنية المسيحية نفسها خارج مظلة السلطة ومكشوفة أكثر أمام رد فعل التطرف.
ولأن القيادات الرسمية غالبا ما تكون متحالفة أو متعاونة مع الغرب (الولايات المتحدة والدول الأوربية) فإن الاعتقاد الخاطئ بأن الغرب هو المسيحية, يصور تعاون مسيحيي الشرق مع القيادات الرسمية الوطنية وكأنه امتثال لتوجيهات هذا الغرب والتزام بسياسته, مما يعزز بالتالي اعتبارها مسيحيي الشرق والغرب طرفا واحدا.
وفي ضوء هذا التوصيف للواقع من المهم التأكيد علي ضرورة وأهمية ما يأتي:
أولا: فك الارتباط بين الدور الوطني الطبيعي لمسيحيي الشرق وبين الصراع علي السلطة الذي ينشب بين القيادات الرسمية وحركات التطرف والغلو الديني.
ثانيا: تأصيل وتعميم المبادئ الأساسية في الثقافة العامة بتوضيح أنه لا الغرب يمثل المسيحية ولا مسيحيو الشرق امتدادا للغرب.
ثالثا: التأكيد علي أن لا الهجرة المسيحية من الشرق ولا التقوقع المسيحي علي الذات, يحل المشاكل التي يعاني منها المسيحيون في الشرق, بل إن ذلك يزيدها تعقيدا.
رابعا: توعية الرأي العام في المجتمعات الإسلامية بما في ذلك حركات التطرف والغلو بأن الهجرة المسيحية من الشرق ليست خسارة للمسيحيين وحدهم ولا حتي للمجتمعات الشرقية وحدها, ولكنها, إضافة إلي ذلك, تقدم في جوهرها شهادة سلبية مشوهة وسيئة عن حقيقة الإسلام وعن صيغة التعايش الإسلامي- المسيحي, يدفع ثمنها المسلمون المنتشرون في العالم.
خامسا: تعميم ثقافة المواطنة الواحدة, بمعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعدم ربط هذه الحقوق بدين معين أو بمذهب محدد. إن المسئولية العامة والأساس للقيادات الرسمية تقوم, أو يجب أن تقوم, علي القاعدة المبدئية التالية, وهي أن معاناة مسيحيي الشرق هي معاناة لمسلمي الشرق, ولمسلمي العالم. وإن مسؤولية التصدي لهذه المعاناة هي مسئولية إسلامية بقدر ما هي مسئولية مسيحية.
فالشرق عندما يفقد تلويناته الدينية والمذهبية والعنصرية, يفقد خصائصه ومميزاته التي هي مصدر جماله وجاذبيته. وتتحول صورته من سجادة زاهية الألوان, بديعة التنسيق, متداخلة الأشكال.. إلي مجرد قطعة من ##الموكيت## الباهت.
يستطيع مسيحيو الشرق أن يعيشوا في مجتمعات غير شرقية. ويستطيع مسلمو الشرق أن يعيشوا بمعزل عن المسيحيين. ولكن الشرق لن يبقي شرقا. إنه يفقد بذلك هويته ودوره ورسالته.
لقد حافظ الشرق طوال الـ 1500 عام الماضية علي هذه الهوية, وتباهي بأداء هذا الدور وتغني بحمل هذه الرسالة, علي رغم كل المحن والويلات التي حلت به, وهو اليوم مدعو مرة جديدة ليؤكد ذاته وأصالته, فقد أثبتت كل تلك التجارب أن الشرق يكون بمسلميه وبمسيحييه. وإلا فإنه يكون شيئا آخر. أي شيء آخر.
عن صحيفة الاتحاد