واضح أن البيئة السياسية, الدولية والإقليمية والمحلية, تغيرت وتبدلت عما كانت عليه عندما أنشئت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بقرار من مجلس الأمن الدولي عام 2007 وبدأت عملها في مارس في لاهاي عام 2009 لمعاقبة الضالعين في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري ورفاقه في فبراير عام 2005 ربما هناك صفقات مقايضة, كما يقال, وربما هناك تفاهمات عناوينها مصالح الدول الكبري وضمانات لأنظمة إقليمية, والتضحية بأفراد تورطوا في الاغتيالات, والمساومة علي توريط تنظيمات ومنظمات يعتقد أن لها أدوارا تنفيذية تكميلية في تنفيذ عمليات الاغتيال فيما تتم حماية الطبقة العليا من المتورطين وأصحاب القرار.
وربما, من جهة أخري, قد لا يكون سهلا ضبط الأمور في تحقيق دولي مر عليه مئات المحققين وتمت صيانة الأدلة في أماكن آمنة. ربما لن يوافق قضاة علي تمنيات الساسة بـ ضبطية المحكمة الخاصة وإجهاض مبادئ الكف عن الإفلات من العقاب. ربما يعود الأمر في لحظة ما إلي ما يقرره المدعي العام دانيال بلمار الذي له صلاحية الأداء, ولديه حكاية ما حدث, ويعرف إذا كان يملك ما يكفي من الأدلة الدامغة لتجيز له طلب إصدار القرارات الظنية أم لا. لكن في نهاية المطاف كل من تورط في إصدار التعليمات أو الإيحاء بضرورة الاغتيال, وكل من نفذ دورا ما في اغتيال الحريري ورفاقه الـ21, وما تبع ذلك من اغتيالات سياسية شملت صحافيين وعسكريين, كل منهم يعرف ماذا حصل ويعرف الحقيقة.
قد يراهن علي صفقات إجهاض العدالة لكنه ليس في أمان من نفسه لأن الأدلة لدي آخرين مجهولين في مكان ما, ولأن مثل هذه المقايضات التي يزعم ويقال إنها تبرم باسم الاستقرار أو باسم المصالح الأكبر قد تأتي بمفاجآت وقد تدين وتحاكم حتي بلا محكمة.
وعلي رغم ذلك, من المفيد التدقيق في التعابير كما في الافتراضات وفي تطورات هذا الأسبوع حين اتهم حزب الله إسرائيل بالتورط في اغتيال الحريري.
الأمين العام لـ حزب الله السيد حسن نصر الله عقد مؤتمرا صحفيا الأسبوع الماضي عرض فيه صورا قال أن حزب الله اعترضها أثناء قيام طائرات استطلاع إسرائيلية بالتقاطها للطريق الذي كان يسلكه موكب الحريري قبل اغتياله. واعتبر نصر الله أن التصوير من زوايا مختلفة ومن مواقع مختلفة وفي أوقات مختلفة هو دليل للإعداد لعملية الاغتيال. وقال إن هذه المعطيات تشكل قرائن حول ضلوع إسرائيل في الجريمة.
المدعي العام القاضي دانيال بلمار طلب من السلطات اللبنانية تزويده كل ما لدي الأمين العام لـ حزب الله من معلومات, وبأشرطة الفيديو لمؤتمره الصحفي و أي مواد أخري من شأنها أن تساعد مكتب المدعي العام في كشف الحقيقة, كما جاء في بيان صدر عن مكتب بلمار.
البيان أكد أن للمدعي العام وحده المسئولية عن التحقيق ما يقطع الطريق علي ما سعي حزب الله إليه من محاولة إجبار الحكومة اللبنانية علي إجراء تحقيق مواز للتحقيق الدولي ومحكمة بديلة عن المحكمة الخاصة الدولية.
بطلبه من السلطات اللبنانية تزويده كل المعلومات الموجودة لدي الأمين العام لـ حزب الله ودعوته الأمين العام ممارسة سلطته لتسهيل عملية التحقيق وضع دانيال بلمار حزب الله في موقع أصعب. فهو جزم أنه علي استعداد للتدقيق في أي معلومات ومواد وأدلة تتعلق بالاغتيال, بما فيها تلك التي يقول حزب الله انها تثبت تورط إسرائيل. وهو قنن المسئولية الرسمية في السلطات اللبنانية الحكومية لأنه طالبها هي تزويده بما لدي حزب الله ولم يطلب ذلك من الأمين العام للحزب. ووضع حزب الله وقيادته في موقع المسئول والمطالب بتوفير ما لديه من معلومات إلي المحكمة الخاصة الدولية المعنية بلبنان.
كل اللبنانيين وربما كل العرب يتمنون لو أن إسرائيل وراء اغتيال الحريري ووراء كل الاغتيالات السياسية الأخري في لبنان. فذلك قد يكون صمام الأمان لحماية لبنان والمنطقة من فتنة طائفية سيما بين السنة والشيعة, كما يقال, علي أساس أن إدانة حزب الله عبر مجرد صدور قرار ظني للمحكمة الدولية قد يؤدي بـ حزب الله إلي تكرار ما حدث في 7 أيار (مايو) 2008 عندما زحف علي بيروت والجبل وصوب سلاحه إلي اللبنانيين.
كل اللبنانيين – وربما كل العرب – يتمنون لو كان لدي حزب الله دلائل وأدلة دامغة علي أدوار إسرائيل في الاغتيالات ويسلمها إلي المحكمة الدولية الخاصة. عندئذ تقلب المقاييس علي افتراضات شتي ويعهد إلي المحكمة والمدعي العام ضمان عدم الإفلات من العقاب ولأن الأمين العام لـ حزب الله عرض صورا ولديه وثائق و قرائن علي تورط إسرائيل لربما حان الوقت لمفاجأة تعاونه مع المحكمة الدولية تلبية لدعوة بلمار, فيضع إسرائيل في خانة القلق.
واليوم, وعلي غير عادة حزب الله, تبدو قيادته قلقة وغاضبة ومبعثرة ومخطئة من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية. وربما لديها أسبابها الوجيهة سيما وأنها وجدت نفسها فجأة في بوز المدفع وحدها بعدما أثبتت سورية براعة فائقة في الناحية السياسية والجنائية والقضائية في تناولها ملف الاغتيالات السياسية في لبنان. إنما ليس في مصلحة حزب الله أن يستبق الأمور بنوع من الهيستيريا, مهما كان غاضبا أو عاتبا, بريئا أو متورطا. ليس في مصلحته أن يهاجم المحكمة الدولية سيما إذا كان في حوزته دلائل وقرائن علي تورط إسرائيل. علي العكس. إن الناحية الإسرائيلية يجب أن تكون مدخلا لتعاون حزب الله مع المحكمة حتي إذا اعتقد حزب الله أن المحكمة مسيسة.
فالتسييس, إذا كانت المحكمة حقا مسيسة ليس في الناحية القضائية والجنائية منها, وما من سلطة لأي دولة أو جهة علي نوعية الأدلة الموجودة لدي التحقيق. هناك قدرة لدي الحكومات علي حجب أدلة أو حجب تعاون مع المحققين والمدعي العام. إنما ليس لديها القدرة علي التلاعب بما في حوزة التحقيق وفرق التحقيق والادعاء العام, ولا بما قد يمليه الضمير القضائي علي القضاة. التسييس قد يكون من ناحية مدي دفع واندفاع الدول في شأن المحكمة, سيما فرنسا التي اندفعت ودفعت إلي إنشاء المحكمة في عهد جاك شيراك ثم تراجعت قليلا وتهاونت كثيرا في عهد نيكولاي ساركوزي الذي اعتمد الانفتاح علي سورية حجر أساس لسياساته. التسييس قد يكون في رغبة الرئيس الأميركي باراك أوباما تجنب العدالة إذا كانت ستؤدي إلي مواجهات عسكرية لا يريدها. ونعم, لقد وضعت إدارة باراك أوباما الاستقرار فوق العدالة في أكثر من مكان بما في ذلك لبنان, ربما, مطيحة بتعهداتها السابقة. إنما لا تسييس في أعمال المحكمة لأنها لم تبدأ عملها بعد.
صحيح أن دانيال بلمار مريض يحتاج للعلاج وصحيح أنه ليس فوق الانتقاد سيما وأنه يتصرف أحيانا من منطلق الضعيف غير الواثق بالنفس وبالكفاءات. إلا أن من الواضح أن لدي أطراف ما, من بينها حزب الله معلومات تفيد بأن دانيال بلمار بات جاهزا للتوجه الأرجح في تشرين الأول (أكتوبر) إلي القاضي التمهيدي ليضع أمامه ملفات وأدلة تقنع القاضي بإصدار قرارات ظنية اتهامية بحق ثمانية أشخاص ينتمون إلي حزب الله.
سيناريوهات الصفقات عديدة بما في ذلك مزاعم صفقة مع حزب الله تشابه صفقات لوكربي بحيث يقدم أفرادا إلي المحكمة ويحاكمون ويسجنون ومن ثم يفرج عنهم لأن المحاكم الدولية لا تحاكم ولا تسجن إلي الأبد… وذلك مقابل تبرئة النظام كأمر واقع ومن خلال صيغة دقيقة للغاية لأن حزب الله ليس حكومة ولأن له خصوصيته.
هناك سيناريوهات مختلفة جذرية من حيث موقع المسئولية علما بأن الحكومة اللبنانية هي المسئولة عن تسليم أية عناصر تطالب المحكمة الدولية بها في قرارات ظنية, حتي وإن كانت عناصر من حزب الله. كذلك, هي التي ستكون في بوز المدفع وهي التي ستفقد الصدقية إذا رفضت اعتقال من تطالب بهم المحكمة الدولية أو إذا تقاعست في التعاون مع هذه المحكمة. بل ان لبنان الدولة هو الذي سيدفع الثمن الباهظ بغض النظر عن الحكومة الحالية أو المستقبلية.
بالطبع, إن المحكمة قادرة قانونيا وبحكم نظام المحكمة علي إجراء محاكمة غيابية لأي متهم ولكل من تصدر القرارات الظنية ضده. وهناك من يراهن علي انتهاء المحكمة بمجرد فشلها في إجراء محاكمات مع أفراد يوصلون التحقيق إلي المرحلة الثانية لأن المحاكمة الغيابية لا توفر فرصة بناء القضية لبنة بلبنة لتطال الفوج الثاني من الذين يريد الادعاء العام إصدار قرارات ظنية ضدهم. وهؤلاء ليسوا بالضرورة مع الجانب التنفيذي أو التعاقدي من الاغتيالات بل هم, افتراضا, في شق القرار وبالذات في سورية.
إنما هناك, من جهة أخري, من يذكر بأن كلام التبرئة لم يصدر عن المحكمة وأن البدء بعناصر من حزب الله لا يعني إعفاء أو تبرئة عناصر سورية ركز التحقيق عليها سنوات.
كثير من البلبلة وكثير من الرهانات يرافق مسيرة المحكمة الدولية في هذا المنعطف ولربما الرهان علي إجهاض العدالة هو الرابح إنما هذا لا يجهض الحقيقة التي يعرفها أكثر ما يعرفها أولئك القائمون علي تخطيط وتنفيذ الاغتيالات السياسية في لبنان.
ما لا نعرفه هو ما في حوزة الادعاء العام من قرارات ظنية آنية ولاحقة. لا نعرف مدي كفاءة دانيال بلمار في التحقيق أو في الادعاء العام. لا نعرف ماذا في حوزة التحقيق عبر السنوات ومختلف المحققين من أكثر من مكان. فليس سهلا أبدا احتواء الأفراد والأدلة في هيكلية من هذا النوع. لا نعرف إن كان القضاة سيخضعون لصفقات سياسية وإن كانوا علي استعداد للإطاحة بمبدأ إنهاء الإفلات من العقاب.
نعرف أن الواقعية السياسية تفرز أكثر من ناحية سياسية في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان – وقد تفلح وتنتصر علي العدالة باسم المصالح أو الاستقرار. إنما لن نعرف إن كان ذلك الانتصار مفتاح احتواء للاغتيالات لضمان الاستقرار. أم أنه إطلاق موجة أخري من الاغتيالات السياسية بإفلات من العقاب.
ويخطئ من يفترض الحسم بهذا الاتجاه أو ذاك.
** عن الحياة اللندنية