نتابع تأملاتنا في صفات المحبة, حسبما ذكره القديس بولس الرسول في (1كو13)
عبارة لا تتفاخر تعني لا تفتخر علي غيرها, وعبارة لا تنتفخ تعني لا تعامل غيرها بانتفاخ, أي لا تتعالي علي الغير. فالذي يحب يعامل من يحبه بمودة, وليس بعظمة… وقد قيل عن السيد الرب في محبته لنا, لما صار في شبه الناس:
إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم (مت20:28).
وهكذا في محبته لتلاميذه, انحني وغسل أرجلهم. وكان هذا أيضا تعليما صالحا لهم, إذ قال لهم بعد ذلك: فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم, فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأني أعطيتكم مثالا, حتي كما صنعت أنا بكم, تصنعون أنتم أيضا (يو13:14, 15).
ومحبة الله الآب, نقول عنده في القداس الإلهي:
الساكن في الأعالي, والناظر إلي المتواضعات.
إن سكناه في الأعالي, هذا الذي سماء السموات لا تسعه (1مل8:27). لم يمنعه هذا العلو من أن ينظر إلي البشر, الذي هو تراب ورماد (تك18:27). وهو يعرف جبلتنا, يذكر أننا تراب نحن (مز103:14)… إنها المحبة التي لا تتعالي.
محبة الله التي لا تتعالي علي أولاده في الحوار.
الله الذي يأخذ رأي إبراهيم في موضوع سادوم, ويقول: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟! (تك18:17). ويدخل معه في حوار, يسمح فيه لإبراهيم أن يقول له: حاشا لك يارب أن تفعل مثل هذا الأمر, أن تميت البار مع الأثيم… حاشا لك. أديان الأرض كلها لا يصنع عدلا (تك18:5). ولا يغضب الله, ويستمر الحوار…
نعم هو الله المحب الذي يشرك معه موسي من جهة مصير الشعب الذي عبد العجل الذهبي, ويقول له: اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم… ولكن موسي لا يتركه. بل يقول له: ارجع عن حمو غضبك, وأندم علي الشر بشعبك. اذكر إبراهيم وإسحق وإسرائيل عبيدك (خر32:10-14). ويستجيب الرب لموسي.
الله الذي في محبته يتنازل ليظهر لعبيده ويكلمهم
كما فعل مع سليمان, وتراءي له مرتين: إحداهما في جبعون, والأخري في أورشليم (1مل3, 9)… علي الرغم من أن الله كان يعرف بسابق علمه أن سليمان سوف يميل قلبه وراء آلهة أخري بسبب نسائه (1مل11:4).
ولعل من أبرز الأمثلة علي عدم التعالي, أن السيد الرب في تجسده دعا تلاميذه إخوته.
وفي ذلك يقول بولس الرسول عنه إنه: لا يستحي أن يدعوهم إخوة, قائلا: أخبر باسمك إخوتي (عب2:11, 12). وأنه: كان ينبغي أن يشيبه إخوته في كل شئ (عب2:17) بل أن الرب نفسه يقول القديسة المجدلية وزميلتها: اذهبا قولا لإخوتي أن يمضوا إلي الجليل, وهناك يرونني (مت28:10).
وهو نفسه يقول لتلاميذه, وقد أحبهم حتي المنتهي (يو13:1)… لا أعود أسميكم عبيدا… لكني قد سميتكم أحباء… (يو15:15)… ويعدهم قائلا: حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا (يو14:3). ويستمر هذا الوعد في الأبدية, في أورشليم السمائية, مسكن الله مع الناس, حيث يكون الله في وسط شعبه (رؤ20:3).
بل إن أعظم الأمثلة للمحبة التي لا تتفاخر ولا تنتفخ هي قول الرب لتلاميذه:
من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها, يعملها هو أيضا, ويعمل أعظم منها (يو14:12).
عبارة عجيبة في تواضعها, يقف أمامها العقل البشري مبهوتا… كما يقف العقل مبهوتا يضا أمام محبة الله للبشر, التي بسببها يتقدم السيد المسيح إلي يوحنا المعمدان ليعتمد منه, معمودية التوبة, نيابة عنا…!! أين هنا التفاخر والانتفاخ؟!… بل المحبة التي تصعد علي الصليب, لكي تحمل كل خطايا العالم, ويحصي وسط أثمة (أش53:6, 12).
ليس فقط لا يوجد تفاخر, بل بالأكثر انسحاق…
وكما سلك السيد المسيح, سلك أيضا تلاميذه بأسلوب المحبة التي لا تتفاخر ولا تنتفخ…
مهما كان المنصب عاليا, منصب الرسولية. فهوذا القديس بولس الرسول, يقول في توبيخه لأولاده في كورنثوس: أطلب إليكم بوداعة المسيح وحلمه, أنا نفسي بولس, الذي في الحضرة ذليل بينكم. وأما في الغيبة فمتجاسر عليكم. ولكن أطلب ألا أتجاسر وأنا حاضر… (2كو10:1, 2). ويقول في حديثه مع شيوخ كنيسة أفسس: اسهروا. متذكرين إني ثلاث سنين ليلا ونهارا, لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد (أع20:31).
عبارات عجيبة, يقولها الرسول العظيم الذي اختطف إلي السماء الثالثة, إلي الفردوس, وسمع كلمات لا ينطق بها (2كو12:2-4)… ومع كل هذه العظمة لا يتفاخر ولا ينتفخ, بل يقول عن نفسه إنه: ذليل, ومتجاسر وينذر بدموع.
وفي مجال الافتخار, يقول لا أفتخر إلا بضعفاتي.
ويشرح كيف أن ملاك الشيطان لطمه بشوكة في الجسد, وأنه تضرع ثلاث مرات بسببها ولم يستجب الله لصلاته في هذا الأمر, بل قال له تكفيك نعمتي. (2كو12:5-9).
لم يفتخر أحد من الرسل بمنصبه العظيم ولم يتفاخر.
بطرس الرسول يكتب إلي الشيوخ فيقول: اطلب إلي الشيوخ الذين بينكم, أنا الشيخ رفيقهم, والشاهد لآلام المسيح (1بط5:1).
ويوحنا الرسول يكتب, في مقدمة سفر الرؤيا: أنا يوحنا أخوكم, وشريككم في الضيقة, وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره… (رؤ1:9)… يكتب بهذا الأسلوب في مقدمة الرؤيا التي رأي فيها السيد الرب, ورأي بابا مفتوحا في السماء, وعرش الله, وكثيرا من القوات السمائية التي لم يرها رسول غيره. ومع ذلك لا يتفاخر… بل يقول: أخوكم وشريككم…
وبولس الرسول يبدأ الكثير من رسائله بعبارة: بولس عبد ليسوع المسيح (رو1:1) (في1:1)
بل بالأكثر, سمي الرسل رسالتهم خدمة…
فقال القديس بولس الرسول: هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام للمسيح (1كو4:1). وقال إن الرب: أعطانا خدمة المصالحة (2كو5:18) في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام لله في صبر كثير, في شدائد, في ضرورات (2كو6:4). وقال الرسل عن عملهم الكرازي أنه: خدمة الكلمة (أع6:4). وقال القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس الأسقف: أعمل عمل البشر. تمم خدمتك (2تي4:5). وقال عن نفسه وعن زميله أبلوس: من هو بولس, ومن هو أبلوس, بل خادمان آمنتم بواسطتهما (1كو3:5).
ولعل هذا كله تنفيذ لوصية الرب لتلاميذه:
من أراد أن يكون فيكم عظيما, فيكن لكم خادما.
وأيضا: من أراد أن يكون فيكم أولا, فليكن لكم عبدا (مت20:26, 27). وحسبما ورد في الإنجيل لمارمرقس الرسول: إذا أراد أحد أن يكون أولا, فليكون آخر الكل وخادما للكل (مر9:35)… هذا هو عمل الرسولية, الذي لا يتفاخر ولا ينتفخ, بل في محبته لله ولملكوته, وفي محبته للمخدومين يكون آخر الكل وخادم الكل.
ويشبه هذا, صلاة القديس أوغسطينوس من أجل رعيته, التي قال فيها: أطلب إليك يارب, من أجل سادتي عبيدك….
وكما كان الآباء في محبتهم لا يتفاخرون بالمناصب كانوا أيضا لا يتفاخرون بحياة القداسة ولا يتفاخرون ولا ينتفخون بالمواهب الإلهية.
ولا يظهرون أمام الناس بمظهر من قد أعطاه الله مالم يعطه لغيره. لأنه إلي جوار الكبرياء في هذا التفاخر, فإنه يوقع الآخرين أيضا في صغر النفس وفي الغيرة المرة. وكل هذا ضد مشاعر المحبة الحقيقية التي تهتم بغيرها أكثر مما تهتم بنفسها…
وهكذا نجد أن الرسل في علو مستواهم الروحي يقولون عن أنفسهم إنهم خطاة. فالقديس بولس الرسول يقول إن: المسيح يسوع جاء إلي العالم, ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا (1تي1:15). ويقول: أنا الذي كنت قبلا مجدفا ومضطهدا ومفتريا ولكنني رحمت لأني فعلت ذلك بجهل في عدم إيمان (1تي1:13).
والقديس يوحنا الحبيب يقول: إن قلنا إنه ليس لنا خطية, نضل أنفسنا وليس الحق فينا (1يو1:8).
والقديس يعقوب الرسول يقول: لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي, عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم, لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا (يع3:1, 2).
المحبة لا تفتخر بالمواهب, بل تستخدمها في اتضاع لنفع وخدمة الآخرين.
هوذا القديس بطرس الرسول حينما أقام الرجل المقعد, الأعرج من بطن أمه, المستعطي عند باب الهيكل… وانذهل الناس من هذه المعجزة, قال لهم بطرس الرسول: ما بالكم تتعجبون من هذا, ولماذا تشخصون إلينا, كأننا بقوتنا أو بتقوانا قد جعلنا هذا يمشي (أع3:12). وأخذ يحول أنظارهم إلي السيد المسيح الذي أنكروه الذي بالإيمان باسمه تشدد هذا المقعد ومشي…
الذين يتفاخرون وينتفخون بالمواهب, لا يحبون غيرهم, بل لا يحبون أنفسهم أيضا.
لأن التفاخر بالموهبة, قد يبعدها عن صاحبها, إن كانت موهبة حقيقية من الله. كما يدل ذلك أيضا علي أن الذي منحه الله الموهبة, لم يستطع أن يحتملها, فارتفع قلبه بسببها علي غيره, وبدأ يتفاخر علي من لم يأخذوها. وليس في هذا الأمر حب, وليس فيه تواضع, وليس فيه فهم للموهبة.
فالمواهب يمنحها الله لخير الناس, وليس للكبرياء.
الله يمنحك الموهبة, لكي في محبتك للناس, تستخدم الموهبة لخيرهم… كمواهب الشفاء مثلا, أو إخراج الشياطين… أو مواهب الذكاء والمعرفة, التي تستخدمها في محبة لتعليم الآخرين وهدايتهم, وليس للتفاخر والانتفاخ. وإلا فإنك تكون قد تركت الهدف من الموهبة, وهو محبة الآخرين وخدمتهم, وتحولت إلي التمركز حول الذات بطريقة غير روحية…
قلنا إن المحبة لا تفتخر ولا تنتفخ, بسبب علو المركز, ولا بسبب المواهب, ولا بسبب المال…
كذلك لا تتفاخر بسبب الغني ولا التمايز المادي.
المفروض أن الغني يستخدم غناه لخير المحتاجين, وهكذا يكون قد أحبهم وكسب محبتهم له… ولكن لا يتفاخر عليهم وينتفخ. ويشعرهم بالضعف والمذلة. وإن أعطاهم, ولا يجوز أن يعطيهم بارتفاع قلب, ولا بشعور أنه المعطي, وأنهم منه يأخذون. فهو فيما يعطي, إنما يتقاسم معهم مالا, قد أرسله الله ليتوزع في حب, عليه وعليهم…
هنا ونقول: إن كان التفاخر ضد المحبة, فكم بالأكثر التفاخر الذي يقبح غيره.
الذي يقيم مقارنة بينه وبين غيره, فإذا به هو الأفضل, وغيره الأدني, مع ذلك مساوئ هذا الغير التي هي كذا وكذا…
إن تحقير الآخرين لا يتفق مع المحبة التي يفترض فيها أن تستر عيوب الآخرين, لا أن تقبحهم, أو تشهر بهم وتظهر مساوئهم…
بل المحبة بالأكثر تدافع عن الغير, لا أن تذمه.
عندما تزوج موسي بامرأة كوشية, تكلم ضده هرون ومريم أخواه. ولم يكن في كلامهما عليه حب له. أما الرب الذي يحب موسي, فقد دافع عنه, وذكر أنه أمين علي كل بيته. ووبخ هرون ومريم. وعاقب مريم لأنها تكلمت علي موسي بالسوء (عد12:1-10). هذه هي المحبة التي لا تقبح.
مثال من سير القديسين: القديس أبا مقار الكبير الذي ستر علي الأخ الخاطئ, وأخفي خطيته. وكذلك القديس موسي الأسود والقديس بيساريون… والشرح في هذا الموضوع يطول…
فإلي القاء في العدد المقبل إن أحبت نعمة الرب وعشنا.