محاولة التفريق الإجرامي بين عنصري الأمة المصرية المسلمين والأقباط هي محاولة شاذة ذميمة قديمة!! وقد جرب سلاحها أكثر من مرة, ولكنه دائما ما كان يرتد إلي صدور أصحابه عائدا إليهم علي الدوام بالفشل الذريع, وحين يعبر مكرم باشا عبيد عن نبذه لهذه الدسائس المنكرة التي يقوم بها المستعمرون آنذاك للتفرقة بين الجانبين يقول: يقولون أقباط ومسلمون..! كلا.. بل هم مصريون آباء وأمهات وبنون, أو قولوا هم إخوة لأنهم بدين مصر يؤمنون, أو أشقاء لأن أمهم مصر وآباهم سعد باشا زغلول. أيقال هذا القول في مصر وعن مصر التي علمت العالم كله والشرق بصفة خاصة معني الاتحاد المقدس بين أعضائها جميعا, حتي إن الهنود في مناسبات عديدة كانوا يقولون إن مصر أستاذة الهند ومثلها الأعلي والأسمي في اتحاد كل طوائفها, وإني لأذكر أنه في وقت خروج المنشقين من لوفد دب الضعف في نفسي فذهبت مع بعض أصدقائي إلي سيادة الرئيس وقلت له إنه لا يصح أن تكون الأغلبية في حزب الوفد من فئة الأقباط, فغضب سيادة الرئيس كل الغضب وثار ثورة عارمة وقال: ماذا تقول فإني لا أعرفك أنت ولا إخوتك كأقباط, بل أنتم بالنسبة لي ولنا جميعا مواطنون مصريون وكفي!.
يضيف مكرم باشا: قولوا لهم يا سادتي: عبثا تحاولون فصم وحدتنا القومية فقد جمعتنا معا علي مدار قرون طويلة دماء آبائنا وأجدادنا التي تجري وتسيل دائما في عروقنا, ودماء أبنائنا التي جرت في شوارعنا.. عبثا يذكروننا بانقسام مضي فقد غسلناه بدموعنا.. عبثا يقولون هم أقباط ومسلمون في وفدهم أو في برلمانهم, فقد كنا جميعا ولانزال مصريين في سجوننا ومعتقلاتنا.. عبثا يفرقون بين آمالنا فقد اتحدت آلامنا علي مدار الدهر عبثا والله كله عبث. فقد اكتشفنا سر الحياة وهو الإخلاص والتآخي والاتحاد, وما اتحادنا إلا اتحاد قلوبنا ومشاعرنا ونفوسنا معا, ولن يفصلنا عن بعض فاصل بعد أن جمعها الواحد القهار.
وفيما يلي مقتطفات تاريخية عامة من بعض الخطب التي كان يعرض فيها مكرم باشا عبيد رفضه ونبذه التام لهذه النغمة الآثمة في المناسبات الدينية والاحتفالات العامة, التي هزت فيها مواقفه وكلماته مشاعر الرأي العام وكل فئات وطوائف المجتمع المصري أقباطا ومسلمين بقدر ما أثارت فيه من إعجاب, ولعلنا نلحظ في تلك المجموعة المختارة من المقتطفات الروحانية أصفي وأجمل نواح تعد سمة أساسية في شخصية مكرم باشا وأشدها بهاء وسناء, وهي نزعته الصوفية المستمدة من داخل أعماق نفسه, وقد تهيأ له هذا الاتجاه الصوفي بما اجتمع لديه من رقي النفس والثقافة الواسعة وسعة الاطلاع المتعمق, وسمو الروح الوطنية النفسانية, وهو ما أكده أحد أئمة الدين الإسلامي الحنيف تعقيبا علي الدعاء الذي هتف به يوما ما مكرم باشا في وسط الجماهير المحتشدة في فناء وزارة المالية علي أثر ولايته الوزارة نفسها حيث قال: إن هذا تعمق في الصوفية, مشيرا إلي أن الدعاء كان يفيض بحق بالنغمات الروحية النادرة!!.
المعني الأسمي للصوم
ونبدأ هذه المقتطفات بجزء من الخطبة التي ألقاها معاليه في أكتوبر سنة 1942 علي ضريح الزعيم الخالد سعد باشا زغلول بمناسبة الاحتفال بعيد الفطر المبارك وعنوانها فلسفة الصوم.. وفيما يلي نص الخطبة: أهنئكم ومواطني أجمعين, وأهنئ بوجه خاص إخواننا في الله وفي الوطن – إخواننا المسلمين – بهذا العيد المبارك عيد الفطر… أهنئهم لا لأنهم أفطروا بل لأنهم صاموا.. ذلك هو المعني الأسمي والأعم والأشمل والغرض الأساسي من هذا العيد وتلك هي ذاتها فلسفة الصوم العميقة, ومن ثم فليس هناك شيء أعمق ولا أصدق من معني فلسفة الصوم لأنها من وحي الروح والله, أو قل بالأحري هي نبت الخلود لا الوجود, وعندي أن الحكمة الأساسية والأولي المستهدفة من وراء الصوم, ليست أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب فحسب لكي يعود فيفطر, بل أن يفطر لكي يعود فيصوم من جديد.
وذلك لأن الصوم كما شرعته الأديان السماوية جميعا, ما هو إلا الرحمة المتجسدة المتجددة, وإن كان الله قد أراد بالصوم أن نمتنع من أن نأكل شيئا, فذلك لأنه أراد منا أن نحس في أجسادنا وفي أرواحنا الرحمة والشفقة نحو الإنسان الجائع الذي منع من أن يأكل طعاما أو يشرب شرابا, أو قل إن الله أراد أن تصبح سمة الرحمة سمة أساسية سجية فينا جميعا, لا مجرد هوية ولا رمزية فحسب, وفضيلة في داخلنا وأعماق نفوسنا لا أن تكون مجرد فضل ولا تفضلا.
لهذا أوجب أن يتكرر الصوم طالما أن هناك فقيرا حرم قوت اليوم, ووجب أن تتكرر الرحمة, لتتكرر معها النعمة للفقير وللغني علي السواء, وما من شك أن أجر الصوم أوفي وأعظم لمن تذوق لذة الإفطار ثم صام, وتنعم بالعزة والرفاهية الشديدة ثم ارتضي لنفسه أن يضام.. ذلك لأن كثيرا من الناس إذا ما نعموا بلذائذ الحياة الدنيا شق عليهم تماما أن يصوموا عنها بعد هذا, أو يحرموا منها, بل إن بعضهم قد يصوم قليلا أو طويلا, فإذا ما أفطر وذاق مذاق الثروة أو الجاه أو السلطان, فبعدا للصوم, وبعدا للفاقة والحرمان!! ذلكم خطر الإفطار علي الفاطرين ولو أنه في حد ذاته يزيد من أجر الصيام للصائمين.
تهنئة العيد المبارك
في نفس التوقيت وأثناء الاحتفال بعيد الفطر أيضا في العام التالي ألقي معاليه كلمة علي ضريح الزعيم الخالد أيضا سعد باشا زغلول تحمل عنوان عيد الفطر وفيما يلي نص الكلمة: العيد المبارك… هل هي كلمة أنا قائلها أم أنني ناقلها فحسب؟ وهل أنا أشعرها أم أنني بالفعل أصورها وأحسها في داخلي؟ ذلك تساؤل أكاد أتسمعه همهمة, وأتخيله بسمة, فتنفرج عنه شفاه بعض أولئك المتحذلقين المتدينين الذين يدينون بالمدنية دون الدين, وليس لي إلي هؤلاء إلا كلمة واحدة أصارحهم بها, وقد صارحتني بها نفسي, هي أن البركة كل البركة في صوم الصائمين المحرومين, الجائعين القانعين.
ولا يحسبن أحد أن حقي في تهنئة إخواني المسلمين مستمد من صلة في الدنيا دون الدين… كلا!, فالحق إن هو إلا سبيل واحد وإن يكن ذا طرفين, وقبلة واحدة وإن تكن بين حرمين!, فلنتحدث عن هذا الحق من ناحيتين وعلي صورتيه, أما من ناحية الدنيا فما أجملها دنيا تلك التي فرقت فوفقت أو بالأحري فرعت فجمعت بين المصريين علي اختلاف مذاهبهم في الدين! فما من عيد للمسلمين أو للمسيحيين من المصريين إلا وتفتح لهم الدور في وطننا لاستقبال الفريق الآخر من المواطنين المهنئين, المعيدين مع المعيدين, لا عن مجاملة, بل عن مؤاخاة ومجاورة ومزاملة… وأما من ناحية الدين, أفتجمعنا في الوطن محبة الإقليم, ولا تجمعنا في الله الرحمن الرحيم؟ أو نكون إخوة في الوطن وفي إنسانية هذا العالم الأصغر, ولا نكون إخوة في الله, والله أكبر؟
ألا فلنرتفع بالدنيا إلي مستوي الدين, وبالأرض إلي أعالي السماء, إذا شئنا لأرواحنا أن تحيا حياة النعيم في دار الشقاء.
مبارك إذن شهر الصوم, وكل صوم, وقد شرعته الأديان السماوية رياضة روحية أكثر منها رياضة بدنية نعم فما الصوم عن شهوة البطن إلا صيام عن شهوة الحيوان, أراده الله رمزا للصيام والامتناع التام وكبح جماح شهوات النفس البشرية أو شهوة الإنسان, وما شهوة الإنسان إلا شهوة السلطان!! ولست أعني بالسلطان الحكم بل التحكم, تحكم الأقوياء في فئة الضعفاء, وكذا تحكم وسيطرة الأغنياء علي فئة الفقراء والعلماء والمتعلمين في عقول الجهلاء, وقلوب البسطاء, بل يا ويل الإنسان من تحكم شهوات النفس وتحكم العاصفة في العاصفة, فلو أنه راضي نفسه علي الصوم الروحي, كما يروض جسمه علي الصوم المادي, لرأيناه يقوي دون أن يستعبد ويغضب دون أن يحقد, ويتمني دون أن يحسد, ويكسب أبرك أفضل الكسب مما يقصد!! ألا ليت الإنسان يدرك أن الصوم في الدين هو التضحية في الدنيا, وأنه إذا كان مظهر الصوم أن لا يأكل فجوهر الصوم أن يبذل ثم يبذل, ذلكم هو الدين, وتلكم هي الوطنية في أروع مظاهرها, فإذا كانت الوطنية نابعة من الإيمان, فالإيمان مظهره التضحية والحرمان, ولا ريب عندي أننا إذا أشرعنا الصوم دنيا ودينا فلن تفيض في صدورنا ينابيع الحياة, ولن تشيخ في أبصارنا مصر الفتاة!!.
الخاتمة
نستقرئ من نصوص الخطب السابقة أن الصورة التي كانت تطالع الجمهور دائما وبلا انقطاع عن شخصية مكرم باشا عبيد هي صورة مكرم الخطيب ومكرم البرلماني ومكرم الحزبي ومكرم الوزير ومكرم السياسي المخضرم ومكرم الاقتصادي الماكر وكذلك صورة مكرم باشا المغلفة دائما في ثوب المحاماة والدفاع عن المظلومين وهو دور صعب لا يستطيع أن ينهض به وحده إلا رجل أوتي لديه ما اجتمع لمكرم باشا من براعة التحليل والتدليل للكلمات والمعاني واستخراج البراهين والأدلة الموثقة حتي تمكن من أن يحتل مكان الطليعة في مهنة المحاماة وأن يفوز مرات عديدة برئاسة النقابة عن فئة المحامين حتي لم يتيسر إقصاؤه أحيانا عن كرسي النقيب إلا بإجراءات التزييف المتعمد والمستمر أو بالقوة الجبرية السافرة في أكثر من عهد, ولكن هناك صورة أخري لا تظهر أمام الناس إلا في حالة المناسبات العامة التي تلهب عاطفة ومشاعر الجمهور وخياله, وقلما للناس أن يروا هذه الصورة البارعة التي يظهر فيها مكرم باشا عبيد بما اجتمع في شخصيته الفذة من الذكاء وحسن البديهة وطلاقة اللسان وقوة العارضة وحضور البديهة, فاستطاع مكرم باشا عبيد بمواهبه الخطابية والبيانية وكذا الفقهية أن يحتل مركز الصدارة, فأخذ نجمه يعلو في سماء السياسة والخطابة والكتابة, وأخذ الشباب يهتف باسم نجم الشباب كما أطلقوا عليه في هذا الوقت الذي افتتنوا به, فتحولت أنظار الناس إلي ذلك الكوكب المتألق والخطيب العبقري فإذا هو يزداد بريقا ولمعانا, وإذا الجميع يزدادون به وبحماسه الوطني إعجابا وافتتانا فسحر الناس بالوطنية الثائرة وشهدوا فيه الخطيب الساحر والناثر الشاعر, وإذا الفاتن أمام حساد ينقمون عليه وأعداء يكيدون له ويتآمرون ليتخلصوا منه. أما الحساد الناقمون فقد أكلتهم نيران الحسد التي صارت تأكل أصحابها وحرقتهم نار العبقرية التي لا تبقي علي حسادها, وأما الكائدون فراحوا يهزأون ويسخرون, سخروا من العبقرية وسخرت منهم ومن تسخر منه العبقرية فهو سخرية الناس أجمعين!! هكذا كتب لمكرم باشا عبيد أن يواجه طوال حياته أكبر حشد من الحاسدين يمكن أن يجتمع في صعيد واحد لمناوأة رجل واحد!! ومن أشهر عباراته عن ذلك ما قاله في إحدي المناسبات: إن ثلاثة أرباع جهدي علي الأقل ضائع في رد مكائد الحاسدين والحاقدين!!.
أخيرا يمكننا أن نستقرئ من هذه المجموعة الرائعة الممتعة من خطب الوطني المناضل الكبير والأديب السياسي العظيم مكرم باشا عبيد لمحات وضاءة عن حياة رجل السياسة, ورجل النضال, ورجل المال ورجل المحاماة, ورجل البيان.
* المراجع:
المكرميات – مجموعة من الخطب والبيانات والمقالات النادرة للمجاهد الكبير مكرم باشا عبيد – من فجر الثورة إلي اليوم.
* مكرم الإنسان – أحمد قاسم جودة.
* مكرم الأديب – صاحب المعالي الأستاذ حفني محمود بك.