إننا أمام قامة فنان مصري فرعوني.. ما يقدمه من فن هو إضافة عالمية لفن الموزاييك باعتراف الجمعيات العالمية لفن الموزاييك بإنجلترا وأمريكا وألمانيا -التي تعتبر مهد الموزاييك متناهي الصغر- نحن بالفعل أمام فن فوق العادة وفنان أمضي ثمانية عشر عاما في صياغة هذه الأعمال التي تفوق بها علي أعظم ما قدم في أوربا وأمريكا بشهادة كبار الفنانين هناك.. وأعماله تعد مدرسة لفن الموزاييك.
بهذه الكلمات كتب الفنان والناقد الكبير مكرم حنين مقدما المعرض الأول للفسيفساء الدقيقة في العالم للفنان المبدع سعد روماني ميخائيل والذي أقيم بالقاعة الرئيسية للفنون التشكيلية بدار الأوبرا في الفترة من 10 مايو وحتي 22 مايو الجاري.
احتوي المعرض علي 38 عملا فسيفساء غاية في الدقة تمثل جانبا صعبا ودقيقا طالما تجنبه غالبية الفنانين.. وهو ما يطلق عليه (الميكرو موزاييك).. كما يصفه الفنان سعد ميخائيل.. وهو تحدي كبير يتخطاه الفنان كي يستنطق قطع الزجاج متناهية الصغر التي يصل عرض الكثير منها إلي أقل من المليمتر وأكبر قطعة لا يزيد عرضها علي أربعة ملليمترات مقدما ملايين الدرجات اللونية التي تساهم في إضفاء مسحة من الواقعية علي اللوحة النهائية, فضلا عن إعطاء الظلال والألوان الناصعة بحيث يظن المشاهد أنه أمام عمل متكامل لوني وليس مختزلا في درجات محدودة كما يتناوله الكثير من فناني الموزاييك.
إن التحدي الصارخ لتطويع الخامة الذي تناوله الفنان سعد ميخائيل يعد نموذجا فريدا للصبر في التنفيذ والدقة في التركيب, ولعل عمله في تصميم المجوهرات أضفي نوعا من الدقة في تناوله لأعمال الموزاييك, فلا تجد فراغات عشوائية بين القطع, فكل شئ محسوب قبل (تسقيط) الزجاج علي الإيبوكسي مادة لاحقة فيبدأ بالخطوط الأساسية للوحة كي يتناول القطع عليها بالملقاط, أما الظلال اللونية فيستشعرها في مخيلته كي يطوع الخامة إلي ما هو أبعد من (التكوين) وهو (التوظيف).. فكثيرا ما نري أعمال موزاييك جيدة التكوين ولكن (توظيف) الظلال اللونية غير محسوس, وذلك يرجع إلي أمر من اثنين.. إما عدم صبر الفنان في وضع القطع التي تعبر عن الظلال اللونية الدقيقة, وإما استخدام الفنان لقطع كبيرة الحجم لا تتماشي مع المعاني المطلوب إظهارها, وهذا ما تلافاه الفنان المبدع سعد ميخائيل, الذي استطاع بصبره 18 عاما وباستخدامه ملايين القطع اللونية دقيقة الحجم في إنتاج مجموعة من أروع ما أنتج في فن الموزاييك عالميا.
استطاع الفنان سعد ميخائيل أن يجدد من فن الموزاييك بتحليل المساحات اللونية للأعمال الفنية (وتفكيكها) بحيث يعيد جمع الأجزاء اللونية (المنقطة), ويعد هذا الاتجاه الفني لوضع نقاط اللون الدقيقة نوعا من البوينتزم Pointism وهو أحد اتجاهات فن التصوير الدقيق الذي يعتمد علي تضييق المساحات إلي نقاط لونية قد تكون متوفرة في الأصول المستمد منها التصميم وقد يولدها الفنان ويحللها بما يتوافق مع رؤيته للعمل الفني.
وعن خطوات العمل التي قام بها الفنان سعد ميخائيل يقول: تم إعداد خطة منظمة لتجهيز (باليته) الألوان لمدة تجاوزت عامين, وذلك قبل أن يتم وضع أو بالأصح (ترصيع) القطع من خلال نوعية معينة من الإيبوكسي اللاصق, وتعتبر العملية اللاحقة للباليتة -وهي الترصيع- من أهم العمليات فهي أشبه بترصيع الماس والأحجار الكريمة بواسطة ملقاط لتحتل كل درجة لونية مساحتها الموظفة لخدمة التكوين النهائي.
الصياد .. ولسعات الضوء
من ينظر إلي لوحة (الصياد) من أبعد من مترين قد يظن أنها رسم زيتي, ولكن عندما تقترب من اللوحة ستفاجأ بأنها تكوينا فسيفسائيا غاية في الدقة استطاع الفنان سعد ميخائيل أن يعبر به حدود الخامة (الزجاج) ليصل إلي وضع (ملامس) الخامات, وكيف استطاع هذا المبدع أن يشعر المشاهدين بملمس القماش وملمس الشجرة وملمس وجه الصياد من خلال (حجارة) بدقة عجيبة ومخيلة جمالية ليؤكد القيم الفنية للخامة.
أهم ما تميزت به (الصياد) هو وضع لسعات الضوء العالية في أماكنها الطبيعية, وكأن الضوء ينبعث من يسار اللوحة فينعكس علي تجاعيد وجه الصياد, وعند ثنايا أصابعه وعند أطراف ردائه وعلي رقبته, كذلك العناصر المحيطة بالصياد, فقد اهتم بها الفنان سعد ميخائيل ليعطي طبيعية للعمل.
كليوباترا .. الأكثر حداثة
كثيرون صوروا كليوباترا في أعمالهم.. البعض رسمها في وضع الشموخ وآخرون قدموها بأوضاع صارمة, أما الفنان المبدع سعد ميخائيل استطاع من خلال الفسيفساء أن يجعل من كليوباترا عارضة متميزة تزهو بنفسها في تألق ممسكة بطرف ردائها ذي الألوان الملوكية, وهذه اللوحة التي تحتوي الكثير من القطع الزجاجية لتكون الملكة العاشقة أبدع لوحات المعرض, وكأن الفنان لا يمارس فنه علي مستوي الإبداع الفني فقط, وإنما الإبداع الفكري والفلسفي أيضا, فلا نجد من يصور كليوباترا في ذلك الوضع المرن المتحرر من قبل, فسعد بذلك يتجاوز الحدود ليخرج علي المألوف بفن أكثر تحررا من ذي قبل, كنوع من التجديد في معالجة الأعمال الفنية.. ويظهر جماليات الخامة.
بريق الشيفون
لن تري لوحة (بريق الشيفون) إلا وستسأل نفسك: كيف تمكن الفنان من وضع ملمس الشيفون بشفافية علي ملمس الجسد, فهناك صعوبة بالغة في تنفيذ ذلك بالموزاييك نظرا للتقارب الشديد جدا بين درجات الجسم ودرجات الشيفون, ولكن ببراعة متناهية استطاع الفنان أن يحول الزجاج إلي شيفون يظهر فيه مناطق الشفافية للجسد واختلاف اللون المعبر عن الملمس, كما أن هذه اللوحة احتوت أجزاء زجاجية متناهية الصغر لتقوم بأداء دور الشيفون وانعكاساته الملمسية سواء علي جسد المرأة أو علي الجدران المحيطة به.
المثير للحيرة هو تدرج لون الشيفون من ناصع البياض جهة اليسار إلي القاتم جهة اليمين وكأن هذه المرأة ترفع يدها لتري من أشعة الشمس التي تخترق الشيفون محدثة كما مهول من الظلال لا يمكن حصره بدون كاميرا تصوير ضوئية, ولكن استطاع الفنان سعد ميخائيل تصوير هذه اللحظة بانعكاساتها جهة اليمين محدثة الظلال القاتمة في مشهد أبرع من أن يكون تصويرا فوتوغرافيا.
باقة الورد
قدم الفنان سعد ميخائيل (باقة الورد) ليظهر تناغما تاما بين الألوان يعيد للأذهان إبداعات الفنان العالمي (فان جوخ) فالدرجات مستخدمة بحرفية عالية تم توزيعها بأسلوب متباين (Contrast), فإن فصلت العمل من منتصفه رأسيا تجد حجم الأجزاء والكتل والألوان بين الجزء الأيمن متناسبا مع الجزء الأيسر, حتي الدرجات ذاتها تكاد تكون موزعة بنفس السخونة والبرودة علي الجانبين, وذلك يرجع إلي أن طبيعة (الباقة) يجب أن يكون توزيعه متناسقا ومتوازنا لونيا, أما إذا نظرنا إلي ظلال الورود فسنجد أن (حركة وضع الزجاج) متناسبة مع حركة الورود ذاتها.
فالأمر بالنسبة لسعد روماني ليس مجرد تنفيذ العمل وإنما تطويع عناصره متفردة لتوظيفها في العمل.. فلكل وردة درجة ميل خاصة ولها ألوان محددة لتؤدي إلي ظلالها التي تكون مع مثيلاتها في اللوحة نفس اتجاه الظل الأساسي ليضفي الفنان واقعية علي الورود, وضع في الخلفية ظلال بأحجار سوداء كنوع من الظلال الناعمة (fadefeather) حتي لا تظهر الورود بأحرف مدببة مع الخلفية, فكل شئ في اللوحة محسوب بعناية قبل التنفيذ, فأعماله تم إعدادها في فترات قد تتجاوز السنين للوحة الواحدة.
السيد المسيح
لم يخل معرض الفنان سعد ميخائيل من لوحة متميزة للسيد المسيح بهالة النور بقطع الزجاج حول رأسه متدرجة إلي الأبيض, كما اهتم بتوضيح تفاصيل خصلات الشعر وتدرج لونه ولون البشرة نتيجة الظلال والألوان والانعكاسات, وتجدر الإشارة إلي أن الأعمال المسيحية للموزاييك انتشرت في أوربا وإيطاليا والفاتيكان لعل أشهرها جدران كنيسة (سان بيتر)
التي استخدمت فيها قطع رخامية ببراعة بحيث لا تعرف إن كانت لوحة زيتية أو عملا رخاميا, كما اكتشفت لوحات رائعة بالموزاييك في كنيسة (آيا صوفيا) بالقسطنطينية ترجع إلي القرن السادس الميلادي.
كما تميز المعرض بعرض أعمال موزاييك لصور شخصيات عالمية مثل نجيب محفوظ- عمر الشريف- فيروز- بيتهوفن- الملكة إليزابيث.. إلخ.
وإن كنا نتحدث عن إبداعات الفنان المصري المتفرد سعد روماني ميخائيل الذي حاز علي شهرة عالمية من خلال منهجه المتميز في الميكروموزاييك.. فإننا نأمل أن يسير علي هذا الدرب آخرين من فناني الموزاييك, وأن يحتل هذا المجال الدقيق مكانا في الجامعات المصرية والعالمية والمدارس الفنية حتي لا يعود للاندثار. وتحية شكر وتقدير للفنان المبدع سعد ميخائيل علي ما قدمه من أعمال جليلة لإعادة إحياء مجالا كنا قد ظننا أنه انتهي.