يؤكد الفن في المجتمعات المعاصرة علي التوازن بين البيئة وتأثيرها علي الإنسان…وهو ضرورة لارتباط الواقع بالخيال واندماجهما…فيعطي القيم الجمالية للحياة…وينطوي علي الأشكال المختلفة التي يتفاعل معها الفنان معتمدا علي ملامح البيئة…ويتخذ من التراث منطلقا لأعماله.
هذه المعاني الموروثة تطل علينا في لوحات كل من الفنانة جاذبية سري ….والفنان فاروق وجدي وخبراتهما التي أضفت علي أفكارهما مزيدا من المعاني في تكوينات تكشف عن عالم ملئ بالجمال والتفاؤل…والقيم الفنية التي تتمثل في معرضهما.
تجسد
تطالعنا الفنانة القديرة جاذبية سري بلوحاتها الجديدة التي تعرض في قاعة الزمالك للفن…والتي تمتاز بالخيال الخصب وقوة التكوين الذي تحدثه مساحات اللون…وهذه المجموعة التي تبلغ حوالي 40لوحة تعبر فيها عن الإنسان وخاصة المرأة تحت عنوانتجسديتضح فيها خبرة أكثر من55عاما-تتميز بالدقة والعمق في إبراز جوهر تلك التكوينات الإنسانية…وهذا يرجع للمساحات واللمسات اللونية الساحرة التي تضعها جاذبية سري علي سطح اللوحة وإحساسها بالكتلة وتجسيدها.
والمتأمل للوحات المعرض يشعر أن الفنانة استهوتها الطبيعة بشكل شامل…نري تجمعات الناس في تكوينات إنسانية تعبر عن المكان والزمان…وكأنهما أحاديث مرئية ترسبت في أعماقها…وجاءت حية نابضة علي أسطح لوحاتها في فانتازيا للألوان من خلال معاناتها الصادقة مع متناقضات الحياة.
كما تتجلي إبداعاتها عن الزمان والمكان من خلال جولاتها في رحلاتها الفنية من مدن وقري وشواطئ مصر وباريس وغيرهما…حيث انعكست استلهاماتها بالألوان عن حقائق الوجود والحياة…إنها تحب الحياة وتنظر إلي البيئة بمنظار التفاؤل مع الانبهار بسحر الضوء اللانهائي..في تكوينات مبتكرة..فنحس بحياة الناس من خلال الوحدات الشبيهة بالوجوه والبيوت…في تساؤلات يشع منها قلق متفائل.
استطاعت جاذبية سري في هذا المعرض أن تلخص تجربتها الطويلة بالخطوط والمساحات اللونية السميكة والرقيقة لتحقق في النهاية علاقة عناصر اللوحة بالفراغ…والتي تؤكد تميز أعمال الفنانة منذ بداية حياتها الفنية وتأثيرها بالواقع المعايش من حولها…المشبع بأحاسيس نلمس فيها مسحة حزن رغم نقاء الألوان المبهجة الشفافة…وامتزاجها ببعضها البعض فأكسبت المعرض ثراء ملحوظا يتناسب مع مستوي إبداعاتها التي أحبتها.
وأهم ما تتميز به الفنانة جاذبية سري تلك الحركة الفياضة التي تحكم التأليف الإبداعي..فهي فنانة متطورة..وهذا سر نجاحها وتفوقها فقد أعطت من خلال لوحاتها واقعا فنيا له مذاقه وجمالياته…لتخرج الأعمال التجريدية التعبيرية ملتصقة باسم جاذبية سري.
ويعتبر معرضها هذا استمرارا لرحلتها الفنية التي تسعي إلي عالم الحب والخير والجمال…فالفن كامن في أعماقها منذ متابعتها للحركة الفنية,واهتمامها واضح في الجمع بين الماضي والحاضر في لوحات عبرت عن المشاعر الإنسانية وعن روح وجمال المكان والزمان والإنسان.
وفي مجموعة إبداعاتها نجد الفنانة جاذبية مسيطرة بمقدرة وأستاذية علي المساحات والخطوط…محتفظة بروح مصر رغم تطور أشكالها الزيتية الجريئة…تتميز بالحس الدرامي ومقدرة علي التعبير المركز..واللون يعطي دلالة غنية تسقطه بفرشاتها في عنف رقيق.
والفنانة جاذبية سري أصبحت علامة بارزة في الحركة الفنية المصرية منذ تخرجها..وهي تشارك في المعارض المحلية والدولية حتي الآن بهذه الباقة من إنتاجها الفني التي تعتبر مزيجا من التعبيرية في الأداء والتجريدية في الشكل.
صبايا وأواني
وفي قاعة قرطبة للفنون بالمهندسين يعرض الفنان الكبير فاروق وجدي أحدث أعماله الفنية تحت عنوانصبايا وأواني وهو المعرض رقم22 للفنان ضمن سلسلة معارضه الخاصة بخلاف المعارض الجماعية والدولية.
يضم المعرض حوالي 40 لوحة قدم فيها رؤية مصرية…تعبر عن حكمة الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة التي تنبع من الماضي البعيد وتستمر حتي يومنا…فهي نافذة تطل علي ثقافات الشعوب وعاداتها.
وبلاغة عنوان المعرض إنما تعتمد علي إيجاز التعبير وعبقرية الاختزال..حيث مزج بين صفات الصبايا وأشكالها..بأحجام الأواني وزخارفها الشعبية…وكأنها تقسيمات وترية تتردد في جنبات العمل الفني في إيقاع متوازي مع التكوين الكامل للعمل الفني.
ومجموعة اللوحات تتجلي فيها الجماليات بحنين دافئ..بكل ما يتضمنه من معان وأحاسيس للأمثال مثلزفة القلة فرسم فاروق وجدي صبايا وأطفالا وهم يحملون الأواني المتنوعة وهم سعداء يحتفلون بتلك المشاعر الشعبية ولوحة أخري القلل القناوي وفيها نجد أشكالا مختلفة من الفتيات بألوانها الزاهية وتقابلها مع الأواني في إيقاعات حميمة وغيرها من التكوينات التي تترك أثرا من مشاعر وأفكار في نفس المشاهد.
وكل الوجوه التي يرسمها فاروق وجدي وجوها تعبيرية…يحاول فيها من جديد أن يفصح عما في النفس الداخلية من صراعات مؤلمة أو مبهجة إنه يحب الإنسان…يرسم ملامحه في خطوط بسيطة مليئة بالبلاغة والقيمة الفنية…نجدها في رسم العين والأنف والفم…والزخارف المحيطة بعناصر التكوين.
نلمس في إبداعاته المعروضة مهارته واتقانه للرسم بالمساحات اللونية والخطوط الشاعرية..غاية في الدقة والرقة…تعكس التراث المعاصر للبيئة الشعبية في لوحة البحر بيضحك ليه وعلاقة الصبايا والأواني بماء النيل وعن العادات الشعبية في السبوع نجد لوحةأبريق السبوع رسم المثلثات والمربعات والخطوط المخروطية تتناغم مع الألوان وهدوء البيئة مثل لوحات من الجنوب ونقطة التماس ..ومنتهي الاتزان نجد الألوان تتردد أشكالها وخطوطها في عمل فني يوحي برؤيته الخاصة عن الحب النقي…ومن أجل البيئة والإنسان.
واتصفت معظم لوحاته بالأصالة والبساطة في تركيبات بنائية استطاع الفنان فاروق أن يسيطر عليها…ويقدمها بذكاء في أعمال ذات قيمة فنية…والتي تحمل في طياتها مضمونا ينبع من رؤية الفنان…وتجوله ودراسته للحياة الشعبية…وارتباطه بكل الفنون القديمة.
ويرجع ذلك إلي ولادته ونشأته في بيئة شعبية لاتزال فيها أصالة الإنسان المصري حيث يستعملها حتي الآن…وقد نجح الفنان فاروق وجدي في مزج أعماله بالرموز الشعبية وروح التراث القديم…وإيجاد حلول جمالية أصيلة نابعة من خيال فنان مصري محب للبيئة.
تحية وتهنئة للفنانين جاذبية سري وفاروق وجدي…لما قدماه من إبداعات تشع منها جماليات الحياة…في تواصل فني وعطاء الطبيعة والإنسان للقيمة البصرية…يحقق لنا المتعة والإحساس المتدفق بالجمال.