كم كان مؤثرا رؤية عدد كبير من المكفوفين والمكفوفات وهم يذرفون الدموع في وداع الأب الجليل القمص بولس باسيلي الذي انتقل يوم الاثنين الموافق 19 يوليو في شيخوخة صالحة, فهو وبحق كان ##الأب الروحي للمكفوفين في مصر## احتضنهم ورعاهم ماديا وروحيا وعلميا وأسريا, وكان يتحدث عنهم وعن نجاحاتهم بفخر وأبوة وكأنهم مشروع عمره وحلم حياته الذي تحقق.
جمع الأب الراحل القمص بولس باسيلي في شخصيته العديد من الصفات التي تندر أن تجتمع في رجل دين قبطي, وعلي حد تعبير قداسة البابا ## وكأنه مجموعة من الناس في رجل واحد##, فعلي المستوي الوطني كان وطنيا ثائرا من طراز المناضلين الأحرار, وخطيبا مفوها في المناسبات الوطنية والعامة علي خطي القمص سرجيوس ملطي, وكان مشاركا نشطا في الحياة السياسية والعامة, وعلي حد علمي هو أول كاهن في تاريخ الحياة السياسية المصرية ينتخب لعضوية مجلس الشعب المصري, وكان ذلك في دورته(1971-1975), وقبل ذلك عضوا في الاتحاد القومي والاشتراكي, وعلي الرغم من ثورته وغيرته الوطنية كان دبلوماسيا قادرا علي كسب الأصدقاء والتأثير في القيادات السياسية.
في نفس الوقت كان القمص بولس باسيلي واعظا دينيا مفوها بليغا ومؤثرا, قضي حياته كلها في الوعظ علي حد تعبير قداسة البابا شنودة, تتلمذ علي يد المصلح الديني القبطي الكبير حبيب جرجس, وكان أول دفعة تخرجت من الكلية الاكليريكية التي انشأها الراحل حبيب جرجس في مهمشة, وعين بها أستاذا للوعظ فور تخرجه عام 1938 ولعقود طويلة حتي عام 1976, وكان مؤلفا لعدد كبير من الكتب الروحية وفي مقدمتها ## المواعظ النموذجية##, وهو بهذا ينضم إلي قافلة القمامصة الكبار في تاريخ الكنيسة القبطية الحديث والمعاصر أمثال سرجيوس ملطي,وإبراهيم لوقا, ومرقص داود, وبولس بولس, وميخائيل إبراهيم, وبيشوي كامل, وميخائيل سعد,وصليب سوريال,وتادرس يعقوب ملطي, وزكريا بطرس, ومكاري يونان, وسمعان إبراهيم ,ومن البروتستانت إبراهيم سعيد, و منيس عبدالنور,…..الخ.
ومن ناحية ثالثة فإن الخدمة الاجتماعية المهمة التي قدمها بتأسيسه لجمعية الكرمة القبطية عام 1953, واهتمامه بفئة المكفوفين والمكفوفات والمسنين والارامل والمغتربين والمحرومين والفقراء, بالإضافة إلي نشاطه الديني والوطني طبعا, وضعه في صف الكوكبة من الأراخنة الأقباط الكبار الذين أثروا وعملوا بشكل حقيقي لمساعدة شعبهم كل في مجاله من أمثال حبيب جرجس, وعزيز سوريال عطية, ومراد كامل, وحبيب المصري,وإيريس حبيب المصري,وعياد عياد,ويعقوب نخلة روفائيل,ويوسف سميكة,وراغب مفتاح,وانطون سيدهم,وإيزاك فانوس, وسامي جبرة,وميشيل باخوم,وسابا حبشي,وثروت باسيلي, ووليم سليمان قلادة, وسليمان نسيم,وزكي شنودة, ومفيد إبراهيم سعيد…. وغيرهم.
ومن ناحية رابعة كان القمص بولس باسيلي مثقفا مستنيرا ومنفتحا واسع الاطلاع, محبا للثقافة ومضحيا من آجلها في نفس الوقت,تتلمذ علي يد رائد التنوير والليبرالية المصرية الراحل سلامة موسي. وقد أسس مجلة مار مرقس عام 1949 والتي استمرت في الصدور حتي أوقفها السادات عام 1981,وأسس دارا للنشر عام 1948 , وساهم كمثقف في تأليف ما يربو علي 50 كتابا خلط فيها بين ثقافته الروحية العميقة مع ثقافته العامة الواسعة, وقبل مجلة مار مرقس كان يساهم مع أستاذه حبيب جرجس في مجلة الكرمة محررا وكاتبا ومصححا لغويا.
وعلي المستوي الإنساني كان القمص بولس باسيلي من فئة الناس التي تستريح في حضرتها,ففي المرات القليلة التي قابلته فيها لم أره إلا مبتسما بعذوبة, حلو الحديث لطيف المعشر متواضع القلب يفكر بطريقة إيجابية في الحياة منشغلا دائما بتحقيق المزيد من الانجازات بعيدا عن القيل والقال, وفي كل مرة كان حديثه معي يمتد إلي جمعية الكرمة التي افني عمره في خدمتها, وعن الثقافة والتأليف وهي ركن أساسي في حياته واهتماماته.
بقيت مسألة سمعتها وانا صغير من أن القمص بولس باسيلي كان يلقي الشعر مدحا في السادات تحت قبة مجلس الشعب, وكان هذا محل نقد بعض الأقباط, وما العيب في هذا؟.. المهم هي المواقف الحقيقية في وقت الأزمات,فالمحن تختبر معادن الرجال, فهو كسياسي صقلته تجربة المشاركة الوطنية منذ صغره ,مدح رئيسه عندما كان خارجا منتصرا من حرب أكتوبر, ولكنه تصدي بشجاعة لإطلاق السادات الشيخ الشعراوي عمدا ليشكك في عقائد المسيحيين عبر تليفزيون الدولة الرسمي, وكان هذا عملا مدبرا بامتياز من الرئيس السادات ضمن خطته لأسلمة الحياة العامة في مصر عبر إطلاق رموز التأسلم السياسي في منابر الدولة رغم خطورة ذلك علي الوحدة الوطنية. ولكن القمص بولس باسيلي انبري بشجاعة للرد علي الشيخ الشعراوي فيما يتعلق بتطاوله علي عقيدة المسيحيين ونشر ذلك علي الملأ في ثلاثة شرائط كاسيت أعتقد أن معطم المسيحيين في ذلك الوقت استمعوا اليها مادحين شجاعته وغيرته الدينية ,ووطنيته التي رأي أن الشعراوي بتعصبه الأعمي يهدد ركن أساسي من مقومات الدولة المصرية الحديثة وهو الوحدة الوطنية.ولم ينس له السادات ذلك فاعتقله مع رموز مصر البارزين في سبتمبر 1981 , وظل تسعة أشهر خلف القضبان حتي أفرج عنه الرئيس مبارك ضمن آخر دفعة من معتقلي سبتمبر, وقد خرج من السجن أكثر نشاطا وأكثر عطاء, لأنه يعرف كوطني حر وكمثقف أن السجن في بعص الأحيان يكون ضرورة وضريبة وطنية ومفخرة لصاحبه ووساما يضعه علي صدره….. وهذا بالفعل ينطبق علي اعتقالات سبتمبر .1981
وبعد خروجه من السجن نشر كتابا يبرز فيه وطنية الأقباط بعنوان ##الأقباط وطنية وتاريخ##, وكتابا آخر كرسالة لشريك الوطن المسلم بعنوان ## أنت أخي .. وأنا احبك##.
علي العموم انا منحاز لجيل القمص بولس باسيلي, جيل الليبرالية المصرية ما قبل الثورة,وأري أنه الجيل الذي ترك بصمة حقيقية في تاريخ مصر الحديث, حتي الابداع في عهد عبد الناصر كان امتدادا للزخم الذي احدثه هذا الجيل, وفي هذا أنا اختلف مع ابنه الصديق العزيز والكاتب المعروف فرانسوا باسيلي الذي ينحاز للناصرية وللقومية العربية, في حين أري أن الناصرية والقومية كانت المقدمات الطبيعية لفترة الإسلاموية التي نعيشها حتي الآن.
وداعا القمص بولس باسيلي.. وداعا أيها الوطني الثائر… وداعا أيها المصري الأصيل.. وداعا أيها الرجل الصالح… وداعا أيها المثقف المستنير.. وداعا أيها الأرخن الكبير…. إلي مواضع النياح والراحة ..إلي دار الخلود والمجد.