في المؤتمر الصحفي الذي عين فيه ابن بينظير بوتو البالغ من العمر 19 عاما رئيسا مشاركا لحزب الشعب الباكستاني, لفتت انتباهي تعليقات بلاوال بوتو زرداري الوجيزة التي بدأها بتعهده ”الصمود كرمز للفيدرالية”. كلماته كانت مختارة بعناية. فأعمق الانشقاقات في باكستان ليست بين التطرف الديني والليبرالية, وليست حتي بين الديكتاتورية والديموقراطية. إنما هي بين مختلف المناطق في البلاد. ومن هذه الناحية, فإن باكستان جزء من ظاهرة متنامية وهي استمرار وتنامي نفوذ المجموعات القومية الصغيرة. فمع انتهاء معركة الإيديولوجيات ــ الشيوعية والاشتراكية والليبرالية ــ انتقلت أقدم هويات البشر إلي صلب السياسة. وهي السبب الذي يدفع الناس إلي التصويت, ويجعلهم مستعدين للموت من أجلها.
كانت بينظير بوتو تحظي بإعجاب واحترام وحب الباكستانيين في كل أنحاء البلد. لكنها كانت أيضا من السند, وهو إقليم يشكل نحو 20 بالمائة من مساحة باكستان. معظم أعمال الشغب والتظاهرات بعد اغتيالها حصلت في السند. البنجاب, وهو أكبر جزء من باكستان, ويضم نحو 50 بالمائة من سكانها, لطالما سيطر علي البلد وعلي قواته المسلحة. والمواطنون غير البنجابيين ــ السنديون, والبشتون, والبلوش ــ يطالبون بتمثيل أكبر وبمزيد من الاحترام والاستقلالية من هذا النظام البنجابي. وخلال الانتخابات, يتوددون أيضا إلي الناخبين البنجابيين بشدة. آصف علي زرداري, زوج بينظير, والرئيس المشارك لحزب الشعب الباكستاني وصاحب النفوذ الحقيقي, كان محاطا بأبرز السياسيين البنجابيين خلال مؤتمراته الصحافية الأخيرة. وقد اختتم مؤتمره الأول كرئيس مشارك للحزب بتنويه مفعم بالمشاعر بالحراس الذين ماتوا وهم يحمون بينظير, وكلهم من البنجاب, كما أشار.
ويأمل الكثيرون في الغرب أن تزيل الانتخابات بعض هذه الشقاقات, لكن الانتخابات التي جرت الأسبوع الماضي في كينيا كان لها التأثير المعاكس. إن كينيا تضم مجموعة من 40 قبيلة عاشت بسلام نسبي منذ استقلالها عن بريطانيا. لكن الانقسامات في الانتخابات الأخيرة كانت تعود إلي حد كبير إلي الاختلافات العرقية. لقد فاز الرئيس مواي كيباكي بفارق بسيط من خلال تزوير النتائج كما يزعم, وهو ما أدي إلي ردود فعل عنيفة ضد قبيلته كيكويو. وهذا ليس مستغربا. فالانتخابات العراقية ــ التي صممت بشكل سيئ وأجريت بشكل سابق لأوانه ــ هي المثال الأكثر دموية علي انتخابات زادت من حدة الانقسامات في البلد. هذه الانقسامات لم تحدث بسبب الديموقراطية, لكن من شأن الانتخابات أن تزيدها حدة.
كما أن النمو الاقتصادي ليس دواء سحريا لتحديد الهوية في الواقع يبدو أن كليهما يتماشيان بكل سهولة. فقبل أسبوعين, أعادت جوجارات, وهي إحدي الولايات الهندية الأسرع نموا, انتخاب قومي هندوسي متشدد لولاية ثالثة كرئيس وزراء. وعام 2002, أشرف ناريندرا مودي علي أول مذبحة منظمة في تاريخ الهند المستقلة وهو حدث ساعدت فيه الحكومة العصابات بشكل مباشر علي قتل واغتصاب وتهجير عشرات الآلاف من المسلمين. وتركزت حملة مودي إلي حد كبير علي الهوية الإقليمية. وقد جمع مسائل مثل النمو والحكم والطائفية حول فكرة أساسية وهي ”الكبرياء الغوجاراتية”. في كل أنحاء الهند, يظهر أن الطبقات الاجتماعية والمناطق واللغة هي مصادر دائمة تحدد الهوية والنفوذ أكثر من أي فكرة قومية.
القومية علي نطاق إقليمي تتنامي حتي في أوروبا العصرية. فإحدي المسائل السياسية الأساسية التي تواجه أوربا والولايات المتحدة هذا الشهر هي وضع كوسوفو, التي تشكل جزءا من صربيا وترغب في الانفصال عنها. والعام الماضي, بقيت بلجيكا ستة أشهر من دون حكومة لأن سـكانها الناطقين باللغـتين الفلمنكية والفـرنسية لديهم نظرات مختلفة تماما عن مستقبل بلدهم. وفي بريطانيا, انتخبت اسكتلندا حزبا حاكما ملتزما بالسعي لتحقيق الاستقلال, وهو ما سيؤدي إلي حل الاتحاد بين بريطانيا العظمي واسكتلندا وويلز الذي نشأ بموجب اتفاقية عام .1707
لماذا يحدث كل هذا ولماذا الآن؟ العولمة وانتشار الديموقراطية هما النزعتان السائدتان حاليا, ومن شأن كلتيهما تمكين المجموعات الصغيرة داخل البلدان وإضعاف الدولة. فبإمكان جوجارات أن تزدهر من دون الرجوع إلي نيودلهي ومن دون مساعدتها. وباستطاعة السنديين الحفاظ علي هويتهم بشكل أفضل اليوم ــ نظرا إلي انتشار المحطات التليفزيونية الإقليمية, والمجتمعات القائمة علي شبكة الإنترنت ووسائل الاتصالات الرخيصة ــ أكثر من أي وقت مضي. الاسكتلنديون يعرفون أن بإمكان بلد صغير يضم خمسة ملايين نسمة الاستمرار بسهولة في الاتحاد الأوربي وبفضل الاقتصاد العالمي الحر اليوم. في ظل ظروف كهذه, فإن جاذبية الهويات القديمة ــ وكلها أقــدم بكثير من الدولة ــ تطـغي علي السياسة.
غالبا ما حاولت الولايات المتحدة فرض نظرتها إلي الأحداث في الأراضي الأجنبية. لكن غالبا ما تكون هذه النظرة ــ الصراع بين المتطرفين الإسلاميين والديموقراطيين العلمانيين مثلا ــ قناعا لهذه المعارك الأساسية. أيا كانت مساوئ الرئيس الباكستاني برويز مشرف, سيضطر خلفه بلا شك إلي أن يواجه بحذر تنامي القومية البشتونية, وهي قاعدة التأييد الأساسية لطالبان. وحتي من دون دعم إيران, فإن جاذبية حزب الله لدي الشيعة اللبنانيين تحتم استمرارية التوازن الهش في لبنان. وحتي إن ظلت أعمال العنف تنحسر, فإن الهوة بين الطوائف العراقية الثلاث أصبحت المشكلة السياسية الرئيسية في العراق. إن الحلول الجيدة تكمن في العمل الدؤوب الضروري لبناء الدولة من خلال إبرام صفقات سياسية والقيام بتسويات وبناء المؤسسات, وهي عوامل لا يمكن للأجانب أن يؤثروا فيها بسهولة. كل هذا يؤدي إلي عالم أغني وأقوي وتصعب إدارته.