حدث أن توفي اثنان من أساقفة الكرسي الأنطاكي,فكان طبيعيا أن تتجه الأنظار إلي(يوحنا)وإلي صديقه (باسيليوس)الذي كان قد انتظم في سلك الرهبنة.ولما كان يوحنا يعرف ما اتصف به باسيليوس من فضائل,فقد استدعاه إليه,فلبي دعوته وترك صومعته ونزل إليه,فأخذ(يوحنا)يلح علي باسيليوس بقبول الرسامة,فاعتذر باسيليوس بحرارة وشدة,ولم يثنه عن رأيه إلا وعد من صديقه يوحنا بأن يقبل هو أيضا السيامة الأسقفية بعد أن يقبلها باسيليوس,وهكذا نجح يوحنا في رسامة باسيليوس أسقفا علي مدينة(رافانه) بالقرب من أنطاكية.أما يوحنا نفسه فلما جاء دوره للسيامة هرب منه,واعتزل في أحد الأديرة البعيدة,فأرسل إليه صديقه باسيليوس يؤنبه علي تخليه عن وعده له,وخيانته لعهده معه,فكتب إليه(يوحنا),لا خطابا بل كتابا,في عظمة سر الكهنوت وجلاله,من أعظم ما خلفه لنا آباء الكنيسة من تراث أدبي روحاني لاهوتي,وأصر يوحنا علي عدم أهليته شخصيا لقبول تلك الكرامة,ولكنه عاد بعد حين إلي عمله مع البطريرك.
فلما توفيت (أنثوسا)أمه,رأي(يوحنا)أن يغادر العالم نهائيا إلي حياة النسك والوحدة,فاعتزل في دير(كاسوس)علي إحدي الروابي المحيطة بأنطاكية,منصرفا إلي الصلاة والدرس والعمل اليدوي لمدة أربع سنوات,فأحبه الرهبان,وأرادوه رئيسا عليهم,فلم يقبل,وهرب منزويا في مغارة منفردا ورآه راهب عابد حبيس اسمه انسوسينوس,في إحدي الليالي,وقد دخل عليه الرسولان بطرس ويوحنا,فتقدم الرسول يوحنا ودفع إلي ذهبي الفم إنجيلا,وقال له:لا تخف:من ربطته يكون مربوطا,ومن حللته يكون محلولا,ففهم الشيخ الحبيس من هذه الرؤيا,أن ذهبي الفم سيصير راعيا أمينا.ومع أن ذهبي الفم كان في بدء حياته الرهبانية متخوفا من نفسه ومن عدم قدرته علي ممارسة النسك,إلا أنه بعد قليل تمرس بحياة النسك,وأحب الحياة الرهبانية حبا كاملا,واعتبرها هي الحياة المسيحية المثلي,وأخذ يتغني بنعيمها وجمال التعزيات الإلهية فيها.
ويبدو أن صحته ضعفت,فنزل إلي أنطاكية للعلاج,فرآه البطريرك(ملاتيوس),فتعلق به ورسمه شماسا كاملا في درجة(دياكون) ووكل إليه مهمة الوعظ,وظل كذلك لمدة خمس سنوات,حتي رسمه البطريرك(فلافيانوس)الذي جاء بعد ملاتيوس,قسيسا.
وكانت أنطاكية مدينة المدنية الأغريقية,ومركزا للثقافة العالية,وكان أهلها يتمتعون بالرخاء والغني,وكان فيها الكثير من الأندية والمسارح والملاهي,فأخذ يوحنا ذهبي الفم يقاوم شرور عصره,ويعظ ويعلم ويرشد,منددا بالخلاعة والفجور,داعيا إلي حياة القداسة,والصدوف عن اللذات,والعزوف عن الشهوات,فأقبل علي مواعظه الدسمة الكثيرون من الشعب,وأحبوه وتعلقوا به,وجعل يشرح أسفار الكتاب المقدس مستخرجا منها المعاني الروحية بفصاحته المعهودة وبلاغته المأثورة.ومع ذلك كان الأغنياء يبغضونه لتبكيته لهم علي قساوة قلوبهم.
وتقدم يوحنا ذهبي الفم,ونما في الفضيلة والمعرفة,ملتهبا غيرة وقداسة وروحانية,وزانه الكهنوت ورفعه علما علي رابية عالية في كل ما ينبغي أن يتحلي به الكاهن القديس من أمانة لسيده المسيح,واشتدت مواعظه حرارة وقوة,وازدادت نقاوة,فكان علي قول القديس بولس الرسولمقدما في التعليم نقاوة ووقارا وإخلاصا,وكلاما صحيحا غير ملوم(تيطس2:7).فأحبه الراغبون في الحق,الساعون في طريق السماء…وظل قسيسا يعظ ويعلم في أنطاكية لمدة اثنتي عشرة سنة….
وذاع اسمه,وعلا نجمه,وبلغ صيته مسامع الإمبراطور وبلاطه في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية,بينما كان يوحنا لا يزال قسيسا في أنطاكية,ومتمناه أهل القسطنطينية أن يكون كاهنهم وراعيهم.
فلما رقد في الرب(نكتاريوس)بطريرك القسطنطينية(381-397) رأي الإمبراطور (أركاديوس)ARCADIOS(377-408),وكل الشعب معه اختيار ذهبي الفم خلفا للبطريرك الراحل.ولما كانوا يعلمون بزهد الرجل عن قبول مثل هذا المنصب العالي,ورهبته من تحمل هذه المسئولية الثقيلة,فضلا عن تعلق الشعب الأنطاكي به,لجأوا إلي حيلة ماكرة:ذلك أن الإمبراطور أرسل إلي(استيريوس) قائد جيوش الشرق رسلا,وطلب أن يأتوه بيوحنا,فذهب إليه قائد الجيوش,ولم يعلمه بالأمر,لكنه استدرجه لزيارة ضريح أحد الشهداء خارج أنطاكية,وهناك وجد الذهبي فمه رسل الإمبراطور الذين حملوه قهرا في المركبة الملكية إلي العاصمة,فلم يجد يوحنا مفرا من النزول علي رغبة الإمبراطور والوزراء والإكليروس والشعب القسطنطيني,في البقاء.
وفي يوم الأحد الموافق 26السادس والعشرون من شهر شباط(فبراير) لسنة398,وضع الأنبا ثيئوفيلوس بابا الإسكندرية الثالث والعشرين يده الرسولية عليه,ومعه سائر أساقفة الكرسي القسطنطيني لسيامته بطريركا ورئيسا لأساقفة القسطنطينية.
ولم يهتز ذهبي الفم فرحا بهذه السيامة وهذا المنصب العالي,لأنه من ذلك الطراز الروحاني الذي يرهب المسئولية,ويخشي دينونة الله,ويتوجس خيفة من أن يظلم أحدا,أو يحابي وجه إنسان لغناه أو لمنصبه,أو أن يلين أمام الضغوط التي لابد أن يواجهها كبطريرك بصورة تتعارض مع واجباته الكهنوتية ومسئولياته,وأمانته كخادم لله وحده.
وأمام هذه المشاعر المرعبة التي ملكت عليه روحه ونفسه,زاد ذهبي الفم من تقواه وعباداته وزهد عن الطعام والشراب وكل مظاهر الترف في مقره البطريركي,وقنع بالقليل من الطعام البسيط,وباللائق من الملابس الخارجية.ولم يكن يجد وقتا كافيا للنوم.ولعل قلة أكله من جهة وتزاحم المسئوليات,واهتمامه بمصالح شعبه من جهة أخري,عملت علي قلة ساعات نومه.وفي هذا تقول الدسقولية(تعاليم الرسل):أقم نفسك,يا أسقف,طاهرا في أفعالك كلها,وأعرف رتبتك فإنك الراعي الصالح بين الناس…أزجر من يخطئ,ولا تطرد من يتوب….(باب3)…وليهتم الأسقف بخلاص كل أحد…فلكم يقول الرب:انظروا,ولا تزدروا بأحد من هؤلاء الأصاغر,وأعلم أنه سيطلب منك جواب بالأكثر.فمن أودع كثيرا يطلب منه كثير…كن بلا لوم كيلا يشك أحد من جهتك…العلماني يهتم بنفسه,وأما أنت فحامل حملا ثقيلا,مكتوب أن الله قال لموسي.أنت وهارون تحملان ذنوب الشعب…الغافلون علمهم…وأعلم أن لك أجرا عظيما إذا فعلت هذا,كما أن لك وزرا عظيما إذا توانيت عنه…(باب4).
ولقد خص ذهبي الفم الفقراء بعنايته الكبري,ووجه أموال الأوقاف وجهتها الصحيحة…فأنشئت بها الملاجئ والمياتم ودور الإيواء للفقراء والأيتام,ودار كانت تقيم فيها الأرامل والعذاري الراغبات في العفة مع الحياة الاشتراكية,وغير ذلك من المؤسسات الخيرية.واهتم البطريرك القديس بإرسال البعثات الرسولية إلي بلاد فينيقيا وسورية وإلي شعوب الغوط والمسكوب(روسيا)…
وعلي الرغم من مسئوليته الرعائية كان دائم السهر في قراءة الكتب المقدسة وتفسيرها,وكان يضع صورة القديس بولس الرسول أمامه,فقد كان معجبا به,وكان يقتديه وينهج علي منواله وله في تفسير الأناجيل ورسائل القديس بولس,كتب تشهد بعلمه وروحانيته وعمق دراساته…وهي الآن جزء من تراث الكنيسة الثمين الباقي ذخرا للأجيال.وقد شهد عنه القديس أوغسطينوس(354 -430)م بأنه من أشهر معلمي المسكونة,وأن مجده يشع في كل أقطار الدنيا,وأن أنوار علمه تضئ جميع الأمصار…ولقد شبهه بعض الأباء بالشمس التي تنير المسكونة كلها,ولقبوه بالرجل الحكيم الذي شرح أقوال الله.
ولم يشغله كل ذلك عن الاهتمام بطقوس الكنيسة وترتيبات العبادة.وإليه يعزي ترتيب القداس كما تتبعه إلي اليوم جميع الكنائس البيزنطية في كل بلاد أوربا الشرقية,كاليونان والروس والبلغار والرومان وغيرهم من الروم الشرقيين والمعروفين بالملكانيين وبسبب ذلك صار طقس القداس الذي تتبعه تلك الكنائس يعرف بقداس القديس يوحنا ذهبي الفم.
ومع حرصه الشديد علي رعاية شعبه والاهتمام بكل أحد,وتلبية كل استغاثة من كل مظلوم,إلا أنه كان لا يقبل شكاية أو سعاية أو نميمة أو وشاية علي أسقف أو قسيس من غير فحص وتأن وتمهل وتحقيق دقيق,إذ كان يعلم أنه كثيرا ما يقع الإكليروس هدفا لوقيعة دنيئة,أو ضحية لمصالح بعض الناس الأشرار…وكان ذهبي الفم متنبها إلي وصية الرسول بولس إلي تلميذه الأسقف تيموثيئوسولا تقبل السعاية في قسيس إلا بشهادة رجلين أو ثلاثة(1تثموثيئوس5:19).وجاء في الدسقولية (تعاليم الرسل):وليكن الأسقف بلا شر…ولا يحب النصيب الأكبر,ولا يكون مغتصبا,ولا يكون متسرعا…ولا يكون صاحب وقيعة,و….ولا يكون غضوبا,ولا حرونا,ولا محبا للكثرة,ولا يغتر بأمور هذا العالم…ولا سماعا(باب3)كن طبيبا صالحا باشا بلا دغل ولا كذب,ولا تكن قاسيا ولامحابيا,ولا صارما,ولا بلا رحمة,ولا متعالي القلب…ولا تهزأ بالشعب الذي تحت يدك….ولا تكن مستعدا أن تخرج بخفة أحدا من الكنيسة بل تثبت جيدا,…ولا تقبل في أحد شهادة شاهد واحد..ويكون هؤلاء قد شهد لهم بأن أفعالهم جيدة…وليس بينهم وبين المشهود عليه عداوة,لأنه يوجد كثيرون يفرحون بالشرور.فتفرق ماشيتك بلا وقار,وتجعلهم طعاما للذئاب….وتكون أنت مدانا بهلاكه…هذا اعلمه أن من أخرج من الكنيسة(إنسانا)غير مذنب…فقد قتل أخاه,وأهرق دمه مثل قايين الذي أهرق دم هابيل أخيه,ودمه صارخ إلي الله,ومطالب له…البار إذا قتل مجانا يكون في راحة عند الله إلي الأبد,هكذا من يخرجه الأسقف باطلا(باب4).
ولسنا نعرف كيف كان يجري يوحنا ذهبي الفم التحقيق في أية شكاية أو سعاية ترفع إليه ضد أسقف أو قسيس أو شماس.ولكن الطريق الأسلم للتحقيق هو ما أمر به الكتاب المقدس,وما أسهبت في شرحه الدسقولية(تعاليم الرسل),وهو أن لا ينفرد الرئيس الديني بالحكم علي أحد(1 كورنثورس5:1-5),(6:1-4),الدسقولية(الباب8)وإنما يجب توفيرا للعدالة,أن يكون لهذه المسائل (مجلس للقضاء)من خيرة رجال الدين المعروفين بالتقوي والعلم ومحبة الحق.ومخافة الله,ولا يفرض الرئيس رأيه مسبقا علي المجلس,وإلا تحول مجلس الحكم والقضاء إلي مجلس للبحث عن تبريرات لحكم مسبق,وصيغة ذكية يخرج بها للناس,وفي هذا قضاء علي الحكمة من وجود المجالس,وفيه هدر للعدالة,وهو أسهل الوسائل للبلوغ إلي الاستبداد المطلق والإرهاب البشع والذي لن يطول به الأمد حتي يولد الانفجار أو الإلحاد.
وكان علي ذهبي الفم,وهو البطريرك,أن يختار بين أمرين,أن يكون أبا وراعيا للشعب,ومحاميا عن اليتيم والأرملة والفقير,أو يكون إلي جانب الملك والملكة,يتردد علي القصر الإمبراطوري,وبهذا يكون محط تبجيل الوزراء والحاشية والجند وأغنياء الشعب.ثم تمتصه الشكليات والرسميات والحفلات,ويشغل وقته في شئون المملكة,وقد يجد نفسه دون أن يشعر,مدافعا عن تصرفات الملك والملكة,مهما كان بعدها عن الحق والعدل.وقد كان(أركاديوس)ملكا شريرا وضعيفا,وكانت زوجته(أفدوكسيا) امرأة خبيثة ومسيطرة,وكان أركاديوس يتخاذل أمامها,فترك لها القياد,وصارت هي الحاكمة بالفعل,وكانت إرادتها هي غالبا النافذة.
ولما كان الذهبي الفم رجل الله,وخادم المسيح بالحقيقة,وكان يفهم مهمته البطريركية جيدا,ولم ينحرف عن هذا الفهم متمثلا بسميه القديس يوحنا المعمدان الذي ظل طوال حياته أمينا لرسالته حريصا علي أن يقنع لنفسه بدور صديق العريس,ولم يطمع في أن يختار العروس لشخصه,لذلك كان علي ذهبي الفم أن يختار الاختيار الصعب:أن يكون كسيده المسيح إلي جانب الفقير واليتيم والمظلوم.وقد كلفه ذلك ثمنا باهظا,فكان عليه أن يقف ضد الملك والإمبراطورة الطاغية الظالمة المستبدة,وكل أجهزة الملكة وسطوتها وقدرتها الساحقة…
جاءت إليه أرملة فقيرة من أسرة أحد كتاب البلاط الإمبراطوري تشكو اعتداء الإمبراطورة(أفدوكسيا)علي كرم يخصها وأن(أفدوكسيا)قد ضمته إلي أملاكها الخاصة.
فماذا تراه يصنع البطريرك؟
لقد كتب إلي الملكة,لا مرة بل مرات كثيرة,يسترحمها ويرجوها أن ترد الكرم لصاحبته الأرملة,فرفضت ولم تستجب لنداء البطريرك القديس فقال لها أخيرا:أني أعلم يا سيدتي,أنك أنت القانون الحيلأن السلطة الملكية هي بين يديك.ولكن بإزاء تلك السلطة التي تبيح لك كل شئ هناك سلطان الضمير الذي يجعلك تميزين بين الحق والباطل فأتضرع إليك أن لا تسمحي للأشرار أن يتقولوا عليك ويأتوا بأمثلة خبيثة لا تمهدي لهم السبيل ليتذكروا قصة الملكة إيزابل وكرم نابوت اليزرعيلي,لأنهم سيخرجون من الكتاب المقدس تلميحات,ستكون لك إهانة وشتيمة.
فما كان من الإمبراطورة العاتية الباغية إلا أن أنكرت علي البطريرك القديس حقه في التدخل في مسألة لا تدخل في شئونه…هكذا رأت الملكة!وزادت علي ذلك بأنها غضبت عليه,وأمرت أن لا يسمح له بعد ذلك بالدخول إلي القصر الملكي.