من هو كيرلس الكبير:
لقد لقبوه بـعمود الإيمانكما لقبوا من قبله القديس أثناسيوس الرسولي بـحامي الإيمانوهو لقب روحاني كنسي عظيم,يدل علي مبلغ ما عاني الإيمان الأرثوذكسي في زمن كيرلس من معوقات وصعوبات كادت أن تعصف به,لولا أن وقف البابا كيرلس في وجه الزوابع والأعاصير,صامدا راسخا كالطود الأشم,وذهبت هي وذهب معها الهراطقة وأعداء الإيمان وبقي الإيمان الأرثوذكسي شامخا صافيا,وكان شرف القديس كيرلس أنه وقف مع الإيمان حارسا أمينا له,يحامي عنه,ويذود عن حياضه ببسالة وشجاعة فلم تلن له قناة,حتي عرف الإيمان المسيحي من بعده بإيمان كيرلس,كما عرف من قبله بإيمان أثناسيوس,ومن قبلهمابالإيمان المسلم مرة للقديسين(رسالة القديس يهوذا :3).
هذا هو القديس كيرلس الكبير,المعروف في الغرب المسيحي بكيرلس الإسكندري وبطل مجمع أفسس الأول,المجمع المسكوني الثالث,الذي انعقد في سنة431م,وهو البطريرك الذي وضع مقدمة قانون الإيمان والتي يتلوها المؤمنون قبل أن يتلوا قانون الإيمان وهي:
نعظمك يا أم النور الحقيقي,ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم كله,أتي وخلص نفوسنا.المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح,فخر الرسل,إكليل الشهداء,تهليل الصديقين,ثبات الكنائس,غفران الخطايا,نكرز ونبشر بالثالوث القدوس لاهوت واحد,نسجد له ونمجده,يارب ارحم يارب ارحم,يارب بارك آمين.
بل هذا هو كيرلس الأول,أول من تسمي باسم كيرلس,بين باباوات الإسكندرية,بطاركة الكرسي المرقسي,وترتيبه الرابع والعشرون في سلسلة الخلافة الرسولية وهو الذي دون القداس الذي سلمه إلينا القديس مرقس الرسول فصار يعرف أيضا بالقداس الكيرلسي.
دافع البابا كيرلس عن الإيمان الأرثوذكسي كل حياته,ضد عدوين للإيمان عنيدين,أولهما:الإمبراطور يوليانوس الجاحد والذي كتب عشر مقالات هاجم فيها دين المسيح,وقد ظن الذين قرأوها من الشباب الوثني أنها هدمت أركان الدين المسيحي,ولكن القديس كيرلس فندها مقالا مقالا وفضح تفاهتها وأبرز عظمة الإيمان المسيحي.
وأما الخصم العنيد الثاني فهو نسطور بطريرك القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية,الذي أنكر أن تسمي العذراء بوالدة الإله,وأنكر بالتالي أن يكون المولود منها ابن الله,وقد ناضل القديس كيرلس عن حقيقة المسيح له المجد,وأنه ابن الله من حيث لاهوته,وهو أيضا ابن مريم من حيث ناسوته,وأن اللاهوت قد اتحد بالناسوت اتحادا تاما كاملا,لكن من غير اختلاط أو امتزاج أو تغيير,اتحادا لا يقبل انفصالا أو تجزئة أو انقساما,وأبان أن المسيح واحد من طبيعتين,وأنه بعد الاتحاد,أي بعد التجسد,لا نستطيع أن نتكلم في المسيح عن طبيعتين,وإلا فلا يكون الاتحاد حقيقيا وتاما.
ولد في سنة366م وتسمي باسم(كيرلس) ومعناهعبد الربوحرفيا:(الرباني) ولقد عاش فعلا طبقا لمعني اسمه,عبدا للرب وحده,فكان كقول بعض القديسين كن عبدا لسيد واحد.
تتلمذ القديس كيرلس علي علماء مدرسة الإسكندرية وأرسله البابا ثيئوفيلوس وهو البابا الثالث والعشرون إلي دير القديس الأنبا مقار,لا ليحيا راهبا ديريا,بل ليتتلمذ علي شيخ روحاني,هو الأنبا سرابيون خليفة الأنبا مقار(القديس مقاريوس المصري)في قيادة الحياة النسكية فظل تحت يده خمس سنوات درس فيها علوم الكنيسة وروحانية الآباء,عاد بعدها إلي الإسكندرية فرسمه البابا شماسا فقسيسا,وكان موهوبا ومجملا بالفضائل الروحانية.وكان عالما مقتدرا علي الوعظ والتعليم الصحيح فصيح العبارة,غيورا وحارا في العبادة,وكان لاهوتيا من جبابرة الروح والعقل.
وكان لمواعظه أثر بليغ في نفوس الناس.فلما رقد البابا ثيئوفيلوس في الرب اختاره الأساقفة والشعب ليكون بطريركا.
وقد يبدو غريبا لأقباط اليوم أن يصير كيرلس بطريركا في زمن كان يعيش فيه شيخ الروحانية العظيم وعملاق الرهبنة,الأنبا شنودة رئيس المتوحدين.ولكن القائمين علي تدبير الكنيسة في ذلك الزمن كانت لهم البصيرة الروحانية النيرة,فلم يخلطوا بين مؤهلات الرهبنة ومؤهلات القيادة الكنسية.وقد كان آباء الرهبنة أنفسهم أشد حرصا علي حفظ رسالة الرهبنة صافية خالصة لهدف الرياضات الروحانية العالية,بل كانوا يهربون من خدمة الكهنوت,ويحذرون أولادهم الرهبان من قبولها,لأنهم أرادو أن يحتفظوا بأهداف الرهبنة لذاتها,لا لتكون وسيلة لغاية أخري,فلا يحولونها إلي مدرسة لاهوتية لتخريج كهنة وخدام للعالم,فليست هذه هي مهمة الدير ولا مهمة الرهبنة.مهمة الرهبنة مهمة روحانية تعبدية تصوفية.أما إعداد الخدام فهو مهمة المدارس اللاهوتية,وإن كان الخدام يحتاجون من وقت إلي آخر لقضاء فترة أو فترات خلوة روحية في الأديار والصحاري كما فعل مخلصنا يسوع المسيح,وكما فعل القديس بولس الرسول,وكما فعل القديس أثناسيوس الرسولي,والقديس كيرلس عمود الإيمان.
وقد كان التعاون بين الكنيسة والدير قديما,تعاونا من غير خلط بين الطريقين والمنهجين,ولذلك كان للأديرة استقلالها الروحي والإداري وكانت لها رياستها المستقلة بعيدة عن تدخل رئاسة الكنيسة وقياداتها.ومازالت إلي اليوم كل الأديان في الغرب والشرق لها رئاستها المستقلة,استقلال الجامعات واستقلال السلطة القضائية في الدول الراقية.ولابد أن نعترف هنا أن الضعف الذي نزل بالرهبنة في القرون المتأخرة يرجع أول ما يرجع إلي تدخل السلطة الكنسية في شئون الرهبان,ففقدت الرهبنة أكبر سند حفظ للرهبنة في العصور الأولي مقوماتها.ولن تعود الرهبنة إلي مجدها الروحاني الحقيقي إلا يوم تعترف رئاسة الكنيسة العليا بحق الرهبان في أن يعيشوا هادئين,وبعيدين عن سلطات القيادات الكنسية.إني أصلي وسأظل أصلي أن يكون هذا الدرس واضحا مفهوما,لضمائر المخلصين من أبناء الإيمان الأرثوذكسي,أبناء أثناسيوس وكيرلس عمود الإيمان.
وتعيد كنيستنا لذكري انتقال البابا كيرلس الأول إلي الأخدار السمائية في الثالث من شهر أبيب القبطي,ويوافق العاشر من شهر يوليو(تموز).أما الكنائس التي تسير علي الطقس البيزنطي والتي تتبع التقويم الغريغوري,فتعيد لنياحته في27من يونية(حزيران).وأما الكنيسة الرومانية اللاتينية فتحتفل بتذكاره المجيد في اليوم الثامن والعشرين من شهر يناير(كانون الثاني).
عاش القديس البابا كيرلس الكبير مناضلا مكافحا,في سبيل إيمانه,وكان حارا في الروح,شديد الغيرة علي مجد الرب يسوع,إلي درجة العنف والقسوة أحيانا,وكان شديد المراس,قوي الحجة,ثابت الجأش,لا تلين له قناة,قاوم الهراطقة وأصحاب البدع بكل قوة وشجاعة,وفند بالأسانيد النقلية والعقلية دعاواهم,وهزمهم جميعا…وضع في تفسير الكتاب المقدس والقضايا اللاهوتية والإيمانية كتبا وتواليف تميزت بالعمق والروحانية والأمانة والدقة.كانت ولا تزال تصريحاته وتعبيراته دستورا مقدسا التزم بها المسيحيون شرقا وغربا,ومازالوا يلتزمون بها إلي اليوم كأفضل تعبيرات وأدق صيغ إيمانية تترجم في أمانة وصدق عن حقيقة الاعتقاد في الاتحاد القائم بين لاهوت المسيح وناسوته,فالقول في هذا الموضوع عند الشرقيين والغربيين,عند الذين لا يعترفون بمجمع خلقيدونية والذين يعترفون به…عند جميع المسيحيين علي اختلاف كنائسهم…هو ما قاله القديس كيرلس الإسكندري…وفي المؤتمرات الكنيسة العالمية والمحادثات الثنائية الرسمية وغير الرسمية,تصدر بيانات يعترف فيها الجميع بأن القديس البابا كيرلس الإسكندري هو أبونا جميعا,أبو الشرقيين وأبو الغربيين…عند أبوته يلتقي الجميع وتحت عصا رعويته يجتمع الكل…وتعليمه في الاتحاد الكامل بين الإلهية والإنسانية في المسيح صار في المحادثات الكنسية الجارية اليوم نقطة البدء التي أجمع عليها الكل.
تلك هي أهم قضية إيمانية دافع عنها القديس البابا كيرلس الأول,وكان ذلك إيضاحا وبيانا لحقيقة المسيح الإلهية,وهو جوهر ديانتنا المسيحية وعمادها.
وردا علي نسطور بطريرك القسطنطينية الذي أساء الفهم والتفسير والبيان…
ولقد استاء نسطور من تصرف بطريرك الإسكندرية,واعتبر رسائل البابا كيرلس التي تناول فيها الرد علي البدعة النسطورية,تعديا علي الحدود,وخروجا علي اختصاصاته باعتباره أسقف الإسكندرية وليس له أن يتجاوز حدود إيبارشيته أو إقليمه لينقد تصرف أسقف القسطنطينية.فكان رد البابا كيرلس واضحا وصريحا:ليس لأسقف أن يتعدي علي حدود أسقف آخر إداريا أو رعويا.أما إذا كانت القضية إيمانية عقائدية,فللأسقف أن يتحدث ويدافع ويناقش ويرد علي تعليم يراه مخالفا للإيمان المسيحي.إن الأسقف له إيبارشية جغرافية لا يجوز له أن يتخطاها إلي حدود إيبارشية أسقف آخر,فلا يجوز له أن يدخل إلي بلد أخري تتبع أسقفا آخر بدون إذنه أو بدون علمه,أو بدون دعوة منه.أما أن يري مخالفة تتصل بالإيمان ويصمت,فهذا شر وخطيئة وإثم,وتقصير في أخص واجباته الأسقفية,لأن الأسقف مرسل إلي العالم كله,وليس له فيما يتصل بالعقيدة والإيمان حدود جغرافية…إنه رسول…والمسيح أرسل رسله للخليقة كلها…وبعبارة أخري يقول البابا كيرلس…ليس لي بوصفي أسقف الإسكندرية أن اقتحم إيبارشية القسطنطينية وأتدخل في تنظيمات الرعاية وإدارة شئون الرعية…فهذا كله من اختصاص أسقف القسطنطينية.أما قضايا الإيمان المسيحي فلأسقف الإسكندرية ما لكل أسقف آخر في المسكونة أن يتحدث فيها وعنها بوصفه رسولا للمسيح مرسلا للعالم بأسره.
بهذا المنطق السليم رد البابا كيرلس علي اعتراض نسطور الشكلي بقصد أن يوقف نضال القديس كيرلس ويصمت صوته…
ولكن صوت البابا كيرلس أخد يعلو ودفاعه يمتد..حتي شغل جميع كنائس بقضية طبيعة المسيح الإلهية,وحقيقة الاتحاد القائم بين لاهوته وناسوته في طبيعة واحدة وأقنوم واحد,طبيعة من طبيعتين,طبيعة مركبة جمعت بين خصائص اللاهوت وخصائص الناسوت معا ولكن باتحاد بسيط,بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير…شبيه مع الفارق باتحاد الروح والجسم في الإنسان,وباتحاد النار والحديد,واتحاد النار بالفحم في جمر النار…
لهذا الدفاع المجيد,والبيان العظيم الذي شرح للمسيحيين وغير المسيحيين,حقيقة المسيح وطبيعته الواحدة التي جمعت بين الخصائص اللاهوتية والإنسانية,صار كيرلس الأول هو ترجمان العقيدة المسيحية في القرن الخامس وامتد الإيمان بسلامة تعليمه إلي كل الأجيال اللاحقة,فصار يعرف بكيرلس عمود الإيمان,وكيرلس عمود الدين وكيرلس الكبير,والشبل القوي والشجاع ابن الأسد (أثناسيوس),ومصباح البيعة الأرثوذكسية,وكيرلس الحكيم,وحكيمنا,وكيرلس معلم الأقوال الإنجيلية المقدسة والراعي المغذي لكل القطيع الرسولي الذي للملك المسيح,وكيرلس الشبيه بالرسل,وكيرلس المدهش العظيم,وكيرلس الحكيم رئيس الكهنة,وكيرلس معلمنا,وكيرلس الجزيل الحكمة,وكيرلس العلامة العظيم,وكيرلس المعلم,ودكتور الكنيسة الجامعة,وكيرلس عمود النار المنير,وكيرلس النجم الذي أضاء علي المسيحيين,وكيرلس السحاب المنير,وكيرلس الصورة الحية للفضائيل المسيحية…
كل تلك الأسماء والألقاب والصفات خلعتها كتب الكنيسة الجامعة الرسولية علي البابا كيرلس الأول الإسكندري البطريرك الرابع والعشرين من بطاركة الإسكندرية.
وفي كتب المؤلفين والعلماء علي مر العصور وإلي اليوم نجد ثناء علي روحانيته وتقواه وغيرته وقداسة سيرته,وعلي علمه وسعة درايته بالكتب المقدسة,ورجاحة فكره وفصاحته,وبلاغته,وعمق تعبيراته,وصدقها وسلامتها,وعلي أمانته ودقته.
ومما يرد في كتب العلماء عنه أنه لاهوتي من أعلي طراز.فكر راسخ,وعقل واضح بصورة تستحق الإعجاب.وهو يعد-بلا منازع-أعظم معلم(لسر التجسد الإلهي),كما كان القديس أوغسطينوس أعظم معلم فيما يتصل بموضوع(النعمة الإلهية).ومن سجاياه الحماسة والغيرة المقدسة إلي حد العنف أحيانا,والقسوة في بعض الأحوال.ولكنه في نفس الوقت,جرئ,ولبق,وصبور,ومثابر,وقادر علي ضبط نفسه حتي في الأحوال التي يكون فيها ضبط النفس عسيرا.حياته الشخصية بلا لوم,وتند عن كل مأخذ.عنده النظرة الدينية والتصوفية السرية تعلو علي كل شئ آخر,وتتميز بميتافيزيقية راسخة جدا,علي عكس المدرسة الأنطاكية التي تبرز وتتميز بالنظرة التاريخية والفيلولوجية,وتهتم أولا وقبل كل شئ آخر بتحليل النصوص والوقائع البشرية تحليلا دقيقا متشددا…وكان البابا القديس كيرلس الأول يتملكه إيمان قوي حي أقوي ما يكون الإيمان قوة وحيوية,بوحدة طبيعة السيد المسيح وأقنومه وأنه واحد لا اثنان,هو ابن الله وهو أيضا ابن مريم…وهذه هي أساس إيماننا وعقيدتنا بحقيقة شخصيته,وأنه يجمع بين كونه إلها وبين كونه إنسانا في نفس الوقت…والقديس كيرلس الإسكندري لم يكن رجلا حزبيا,لكن يكن لحزب معين…وإنما كان ولايزال اللاهوتي العظيم للكنيسة كلها…أبونا كيرلسأبو المسيحيين جميعا في الشرق والغرب.