كان عام 1979 عاما مفصليا في تاريخ الإسلام السياسي في الشرق الأوسط والعالم كله,ففي فبراير من نفس العام عاد الخوميني إلي طهران مفجرا ثورته في إيران, وفي نفس العام حدث الغزو السوفيتي لافغانستان وما ترتب علي ذلك من تصاعد الدور السعودي الباكستاني المصري في إدارة هذا الملف وما تبعه من عولمة للعنف والجهاد… وكانت المحصلة الختامية تنظيم القاعدة كمحرك رئيسي للعنف الدولي مع عدد كبير من التنظيمات الراديكالية التي تبنت العنف منهجا وسبيلا لتحقيق طموحاتها في الاستيلاء علي السلطة والثروة والنفوذ.
بعد ثلاثين عاما يجئ عام 2009 كنقطة تحول أخري في تاريخ الإسلام السياسي والجهادي, ولكنها نقطة انكسار كبيرة.
سبق عام 1979 عدة عقود من التنظير للعنف والجهاد وتكفير الحكام والدول وتقسيم العالم إلي فسطاطين… وجاءت الحرب الافغانية والثورية الإيرانية كنموذج عملي لتطبيق كل هذه الأفكار التنظيرية الجهادية…
في عام 2009 اكتشف الإيرانيون بأن ما كانوا يؤمنون به من أفكار عن الفقيه العادل مجرد أوهام , واكتشفوا إنهم تعرضوا لخدعة كبيرة…. فخرجوا للشوارع منددين بولاية الفقيه وبآيات الله, واسقطوا الهيبة عن هؤلاء الذين يدعون العصمة. كل المحللين الثقأة اتفقوا علي أن الغليان في الشارع الإيراني تجاوز بكثير الاحتجاج علي تزوير الإنتخابات, وأن الرغبة الحقيقية في الشارع الإيراني هي الخروج من نفق الدولة الدينية المظلم.بعد ثلاثين سنة أكتشفوا أن الذين يدعون العصمة يزورون الإنتخابات وينهبون ثروات الناس مثل غيرهم من الفاشيين.
المشكلة أن إيران يتصارع عليها ثلاثة تيارات حاليا,تيار يمثل محاولة ترميم الدولة الدينية وإعادتها إلي وهجها, وتيار ثان يمثل الرغبة في تحويل إيران من الدكتاتورية الدينية إلي الدكتاتورية العسكرية, وتيار ثالث يمثل الشارع الراغب في الخلاص من كل أشكال الديكتاتورية ,ويتعرض للضغوط والقمع من التيارين السابقين. علي العموم لن يعود وهج الدولة الدينية في إيران كما سبق بعد أن فقدت في الازمة الأخيرة المبرر الاخلاقي لوجودها من الذين كانوا مخدوعين فيها أو الخائفين من التجرأ عليها.
علي مستوي طريقة الوصول للحكم لم يصل الإسلاميون للحكم عن طريق أنتخابات نزيهة سوي في تركيا وكذلك حماس.. والتجربتان عليهما الكثير من المأخذ.
كما نعلم سلكت حماس الطريق التقليدي للإسلاميين وهو الانقضاض علي الديموقراطية بعد استخدامها كأداة فقط.. ومن ثم وضعت شعب غزة كله كرهينة لطموحات السلطة ومغامرات ومصالح القادة وتوظيف القضية اقليميا.
في تركيا تنكشف الصورة أكثر فأكثر, فحزب العدالة يهتم بأسلمة تركيا تدريجيا والرغبة في لعب دور في محيطه الإسلامي أكثر من اهتمامه بالانضمام إلي الاتحاد الأوربي الذي يتطلع اليه الشعب التركي. وأدرك الكثير من قادة الاتحاد الاوروبي هذا الاتجاه لاردوغان نحو وضع الاولوية لأسلمة بلاده… وبالطبع أدي ذلك إلي تراجع فرص تركيا في الالتحاق بالقطار الأوربي.
باقي الأنظمة الإسلامية سواء في افغانستان أو الصومال أو السودان أو إيران لم تأت للحكم بطريق ديموقراطي, وكان العنف هو سبيل الدخول وطريقة الخروج.
الكثير مما قلته معروف للمتابعين للنشاط السياسي والجهادي للحركات الإسلامية, الجديد هو الفتور الغربي تجاه هذه الحركات بعد الحماس المبالغ فيه من جهات أكاديمية وبحثية غربية في الفترة الثانية من رئاسة بوش. وكمتابع لهذه الحركات جاء وقت علي إدارة بوش وتصورت فيه أن الحركات الإسلامية التي تصبغ نفسها بالاعتدال يمكن أن تشكل بديلا للأنظمة المستبدة في منطقة الشرق الأوسط, وتحمست الكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية في استضافة مؤتمرات تروج لوصول هذه التيارات للحكم في بلادها, وقد تابعت أكثر من عشر مؤتمرات في أمريكا وأوربا تروج وتتبني دعم وصول التيارات الإسلامية للحكم في بلادها, واعتقد أن معظم هذه المؤتمرات تم تمويلها بواسطة هذه الحركات الإسلامية ذاتها ومن بعض الدول المتعاطفة معهم في الشرق الأوسط.
ولكن لاحظت وجود فتور كبير في الغرب تجاه هذه الظاهرة بدأ بعد أن خذلت حماس المتحمسين للتجربة,وازداد مع انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام .2008 وفي تصوري أن هناك العديد من الأسباب وراء هذه الفتور الغربي تجاه التيارات الإسلامية في الشرق الأوسط:
ربما يكون السبب هو تراجع شعبية هذه التيارات في بلدانها كما هو حادث في غزة ولبنان والمغرب والكويت والسودان وعدد من البلدان الأخري, بعض هذا التراجع جاء من خلال صناديق الانتخابات والبعض الآخر عبر قياس رضي الشعوب عن هذه التيارات.
وقد يعود سبب الفتور لأن هذه التيارات لم تحقق شيئا يذكر علي مستوي بلدانها ولم تقدم أجندة حقيقية تعتني بتقدم مجتمعاتها وإخراجها من ما هي فيه من ازمات ومشاكل.
وقد يعود سبب الفتور إلي أن هذه التيارات لم تنجح في إزالة المخاوف المثارة حولها في الغرب فيما يتعلق بايمانها الحقيقي بالديموقراطية والحريات وحقوق المرأة والأقليات والحريات الدينية, فكل ما قدمته هذه التيارات من أفكار ومشاريع فيما يتعلق بهذه المخاوف لا يعدو سوي نوع من المراوغة حتي تستطيع أن تستأثر بالسلطة, فبعض هذه التيارات يتحايل لفظيا بأنه حزب مدني بمرجعية دينية , ولكن مفهوم المرجعية الدينية لديهم, كما يقول د. محمد كمال عن الاخوان المسلمين, يعني أن مرجعيتهم فقط هي المادة الثانية من الدستور دون باقي مواد الدستور, كما أن مضمون السلوك الحقيقي لما يسمي بفصيل الإسلاميين المعتدلين لا يعطي الثقة لهذه التيارات بأنها مؤهلة للحكم الديموقراطي.
وربما يعود السبب أن الغرب منشغل بشكل كبير بمشاكله الاقتصادية الداخلية ويعود تراجع اهتمامه بالإسلاميين في سياق تراجع ملف الشرق الأوسط كله وسط هذه الأزمة العالمية الطاحنة.
ربما يعود السبب في تراجع الإسلامين يعود إلي حرب حزب الله عام 2006 وحرب غزة عام 2008 وإدعاءات النصر الالهي في كل من الحربين فتح عيون المواطن العادي إلي أن هذه القوي وصل تضليلها إلي اعتبار كل هذا الخراب والدمار نصر إلهي!!.
في تقديري أن عام 2009 يشكل نقطة انكسار مهمة في مسيرة الإسلاميين ولكنه ليس النهاية.. واعتقد أن مستقبل النظام السياسي في مصر يمثل منعطفا مهما في مسيرة الحركات الإسلامية, فكما كانت مصر هي محطة رئيسية في التنظير والتفريخ, فشكل النظام القادم سيكون منعطفا مهما في مسيرتهم,فإذا حدث أنتقال سلمي للسلطة في مصر وبطريقة تهمش طموحات التيار الديني فإن ذلك سيمثل نقطة مهمة في مسيرة تراجع الإسلاميين ونهاية حقبة عسيرة من سيطرتهم علي الشارع وعلي بعض أنظمة الحكم.