أزعم أن هناك علاقة وثيقة بين مفهوم العلمانية وغيابها عن ساحة الدولة والواقع المصري المعاش من جهة, والمذبحة المروعة التي حدثت ليلة رأس السنة بكنيسة الإسكندرية من جهة أخري.
فماذا تعني العلمانية..؟ العلمانية تعني أولا أنه ليس للدولة دين, وهذا لا يعني إطلاقا نفيا للدين, وإنما يعني أن الدولة ليست إنسانا, بل هي إدارة لشئون بني الإنسان في وطن معين, والإدارة أو الجهاز الإداري يختلف عن الإنسان, الذي هو كائن حي ذو حاجات مادية ونفسية وعقلية وروحية, والدين هو مدخل الإنسان لإشباع حاجاته الروحية, إذا الدين في صميم كيان الإنسان, ولما كانت الدولة ليست إنسانا وإنما هي إدارة وتنظيم لشئون البشر, فهي لا يمكن أن يكون لها دين بالمعني السابق ذكره, وعلي هذا فالدولة ترعي النزعة الدينية لدي أفراد المجتمع الذي تديره, ومن ثم تعمل علي أن يتاح للجميع حرية العقيدة وحرية العبادة وتمكن كل طائفة دينية من بناء دور العبادة الخاصة بها, وتسن القوانين الكفيلة بضمان حقوق كل ملة وطائفة وحمايتها من جور وعدوان الطوائف الأخري التي تشاركها الحياة والوجود علي أرض الوطن.
هذا يعني حياد الدولة إزاء أديان أفراد وطوائف المجتمع الذي تتولي الدولة إدارته, فهي لا تنحاز لأصحاب دين علي حساب أصحاب ديانة أخري, وتعامل الجميع علي اختلاف عقائدهم علي قدم المساواة.
يترتب علي حياد الدولة في المسألة الدينية أن لا يكون لديانة الفرد دور بتاتا في معايير اختيار الأفراد في مواقع العمل المختلفة, إذ أن المعيار المعمول به في السياق العلماني هو الكفاءة والمقدرة بغض النظر عن الانتماء الديني الطائفي, الأمر الذي يعني إتاحة الفرص أمام الجميع لتبؤ المناصب والقيام بالعمل.
بهذا المعني فإن الدولة من وجهة النظر العلمانية هي جهاز يدير شئون الناس لصالح الناس وفقا لمعايير الحقوق والكفاءة.
وهكذا فإن العلمانية لا تفصل الدين عن المجتمع وعن أفراد المجتمع ولكنها تفصل الدين عن السلطة الدولة, وتجرد المجال العام من الطابع الديني الطائفي مما يجعل من المجال العام مجالا محايدا ومن ثم يفتح هذا المجال أمام جميع الأفراد بكل تنوعهم واختلافهم فيشاركوا ويعملوا ويتفاعلوا وفقا لمعايير المواطنة والكفاءة الشخصية, أي أنه بلغة الفيلسوف المصري مراد وهبة يفكر في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق, بمعني أنه يوظف العقل وملكات المعرفة الإنسانية للنظر في أمور الحياة المعيشية, التي هي نسبية بطبيعتها بغرض الفهم وإيجاد حلول للمشكلات والإشكاليات.
أما ما يتجاوز الواقع من أمور عقائدية وتصورات إيمانية ميتافيزيقية, فإن التسليم الإيماني بها هو المدخل الصحيح للتعامل معها. طريق الإيمان وطريق العقل يتوازيان ولا يتقاطعان وهكذا نسلم بالعقائد الدينية علي أنها أمور تتجاوز المقدرة المعرفية للعقل, فنسلم بها علي اختلافها مما يفتح الطريق أمام إمكانية أن يتعايش أصحاب العقائد المختلفة معا وأن يحترموا عقائد بعضهم البعض.
فلو أن الدولة المصرية أخذت بهذا النهج العلماني, لما حدثت مذبحة كنيسة الإسكندرية المروعة ولما حدث ما حدث من مآس سبقتها بدءا من حادثة كنيسة الخانكة عام 1972 مرورا بأحداث ديروط وصنبو والمنيا والكشح ونجع حمادي وكنيسة العمرانية مؤخرا.
الدولة المصرية الحالية والمجتمع المصري وكافة مرافق الحياة المصرية مالت وتميل بل وتسرع في السير في اتجاه الأصولية.
فماذا تعني الأصولية…؟ الأصولية نقيض العلمانية, فإذا كانت العلمانية تقول بأنه لا دين للدولة, فإن الأصولية تقول بأن للدولة دينا معينا الأمر الذي يضع مواطني الدولة من معتنقي الديانات الأخري في موقف حرج! وإذا كانت العلمانية تقول بحياد الدولة إزاء جميع أطياف وطوائف المجتمع فإن الأصولية تجرد الدولة من حيادها فلا يسعها إلا أن تكون منحازة لمن يدين بدينها الرسمي!
وإذا كانت العلمانية تقول بالنسبية وأنه ليس في إمكاننا حيازة الحقيقة المطلقة, فإن الأصولية تري أنها تمتلك الحقيقة المطلقة ومن ثم فإن من يختلف معها وعنها في ضلال مبين
. وبعد.. ما مظاهر أصولية الدولة المصرية؟ تتبدي أصولية الدولة المصرية أولا في دستورها الذي ينص علي أن دينا معينا هو دينها الرسمي, وكأن الدولة أصبحت إنسانا يدين بدين ما, وكأن كل المواطنين المصريين يدينون بدين الدولة. والأمر الأخطر أن الدستور ينص علي أن مبادئ شريعة هذا الدين هي المصدر الرئيسي للتشريع, مما يؤدي إلي إهدار حياد الدولة إزاء طوائف المجتمع وبالتالي يعصف بحق المواطنين المصريين من أصحاب الديانات الأخري في المساواة.
في ظل هذا المناخ الأصولي يفقد المواطن المصري غير المسلم حقوق المواطنة, ويعامل معاملة مواطن من الدرجة الثانية, فلا يتساوي في فرص العمل وتقلد المناصب مع المواطن المصري المسلم. ولما كانت الدولة المصرية دولة أصولية بحكم مواد الدستور فمن المنطقي أن تنسحب هذه الأصولية علي كافة مرافق الدولة, فتظهر في مقررات التعليم الرسمي, ولعل مقررات اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة تنطق بوضوح شديد أنها لم تعد مقررات لغوية بقدر ما أصبحت مقررات في التربية الدينية الإسلامية, يتعلمها الطالب المسلم وغير المسلم, والأمر اللافت للنظر أن مقررات التاريخ تفرد مساحة كبيرة جدا لتاريخ الإسلام والدولة الإسلامية عبر عصورها المتعاقبة وتهمل تاريخ المصريين في الحقبة القبطية التي هي جزء من التاريخ القومي المصري.
وما يحدث في التعليم يحدث في الإعلام الرسمي, الذي يخلط ما بين الدنيوي والديني ويخصص ساعات إرسال وبرامج للبث الديني الإسلامي في مقابل صفر للبث الديني غير الإسلامي وكأن كل أفراد المجتمع مسلمون!
وذات النهج يتبدي في شأن تراخيص بناء دور العبادة لغير المسلمين من شروط متعسفة وتعقيدات وتعنت إداري.
كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلي أسلمة المجال العام الذي يعيش فيه المصريون جميعا. ويزيد المناخ احتقانا شرائط بعض الدعاة في وسائل المواصلات العامة التي منها ما يتعرض للعقائد غير الإسلامية بنقد وهجوم وتهكم وتجريح علي الملأ.
فإذا كانت الأصولية الدينية هي المتحكمة في المجتمع المصري علي هذا النحو الصارخ, والعلمانية التي هي الحل مغيبة, أخشي أن أقول إن القادم قد يكون أسوأ.