الاشتقاق اللغوي لتعبير(المواطنة) من المصدر(وطن) أما التعريف العلمي لمعني المواطنة فهو أن أبناء أي شعب متساوون في الحقوق والواجبات. بغض النظرعن انتماءاتهم الدينية. وهذا المبدأ يراعي أن المجتمعات الإنسانية لاتخلو من التعددية الدينية والمذهبية. وكان الحل الأمثل (كما في تجربة أوربا في عصرالنهضة) هو (علمنة مؤسسات الدولة) وأنتقل إلي شعوب أخري مثل الهند واليابان. وبفضل (علمنة مؤسسات الدولة) اختفت من دساتير هذه الأنظمة النص علي دين معين للدولة. وقامت فلسفة هذا المبدأ علي أساس أن الدولة شخصية اعتبارية مثلها مثل الوزارات. والشخصية الاعتبارية في القانون ليس لها دين ولاتتعامل بالدين. وأن عدم النص علي دين للدولة يؤكد الحياد المطلق تجاه كافة المواطنين بغض النظرعن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفلسفية. كما يؤكد أن هذا الحياد هوالسبيل الوحيد لتطبيق قواعد العدالة علي كافة المواطنين.
تواكب في تجربة أوربا تكريس فلسفة العالمانية (نسبة الي العالم الذي يضع البشرقوانينه) مع تعميق الحس القومي. والمتأمل لتجربة الاتحاد الأوربي يلاحظ أنه رغم إلغاء تأشيرة الدخول والتعاون الاقتصادي والبرلمان الأوربي والعملة الواحدة إلخ إلا أن كل شعب يعتز بشخصيته القومية من لغة وتراث وشخصيات تاريخية. وبالتالي لاتجد فرنسيا يقبل أن يقال عنه إنه إيطالي أو تجد إنجليزيا يقبل أن يقال عنه إنه ألماني إلخ.
وشهدت مصرقبل يوليو52 مفكرين دافعوا عن مفهوم العالمانية ومفهوم القومية المصرية. وأكدوا في كتاباتهم أن هذين المفهومين هما الجناحان اللذان تنهض بهما أية دولة تشق طريقها نحو الحرية والتقدم. فمثلا كتب قاسم أمين عن النظام السياسي (مهما دققنا البحث في التاريخ لانجد عند أهل العصورالإسلامية ما يستحق أن يسمي نظاما. فإن شكل حكومتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غيرمقيد ويديرمصالح الأمة مستبدا برأيه) ودعا الي أن نربي أولادنا (علي أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية. وأنه من المستحيل أن يتم إصلاح في أحوالنا اذا لم يكن مؤسسا علي العلوم العصرية. ولهذا لانتردد في أن نصرح بأن القول بأننا أرقي من الغربيين هو من قبيل ما تنشده الأمهات من الغناء لتنويم الأطفال) وكتب إسماعيل أدهم (إن في الشرق استسلاما محضا للغيب. وفي الغرب نضالا محضا مع قوي الغيب) ويوجه نداءه الي شعبنا لترك اللغة العربية. وأن لنا لغة قومية هي اللغة المصرية. والقول بأنها عامية العربية خطأ (فهذه لغتكم وهي أولي بعنايتكم من إحياء لغة بدو لايربطكم بهم صلة ولارابط) وكتب أحمد زكي أبوشادي (إن تعليم الدين في المدارس غيرموحدة العقيدة , فيه أخطرعوامل التنافر. والفضائل الأدبية التي يجب أن تدرس في المدارس يجب أن تقوم علي السيكولوجيا الحديثة وعلي فلسفة الاجتماع بحيث يشعركل طالب بشخصية ضميره كوازع ومرشد في نورالعلم الصحيح لما فيه من خيره وخير وطنه وخير الإنسانية. أما شئون العبادات لمن يؤمن بها فلاشأن لها بالمدرسة ولا بأي مظهرمن مظاهرالحكم ولايجوزأن تتسرب الي المعاملات ولاينبغي أن تفرق بين أبناء الوطن الواحد) وكتب محمود عزمي مؤكدا علي المفهوم العالماني للتعليم (نحن ممن يدينون بضرورة جعل التعليم قائما علي فكرة (المدنية) غيرذات الصبغة الدينية وأن التعليم الذي يصرف عليه من خزينة الدولة يجب أن يكون غيرخاضع لغيراعتبارالقومية . وليس له نزعة دينية خاصة) وكتب عبدالقادرحمزة (أصبحنا آلات جامدة لاتكاد تتحرك إلا بالدين وللدين. وكأنما لم يخلق الله لنا عقولا. وكأنما نحن مسخرون بلا إرادة ولاتمييز. وكم من حركات دينية وقفت في وجه مكتشفات علمية صحيحة فكانت حاجزا منيعا ضد كثيرمن المباديء العلمية) .
والشيء الملفت للنظرأنه داخل التيارالواحد تجد دفاعا عن العالمانية وعن القومية المصرية. فإذا كان المشهورعن أحمد لطفي السيد دفاعه عن القومية المصرية مثل قوله (نحن المصريين نحب بلادنا ولانقبل مطلقا أن ننتسب الي وطن غيرمصرمهما كانت أصولنا حجازية أو سورية) وكتب أن (الإسلام ليس لمسلم بوطن. فوحدة الاعتقاد الديني ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطني) ربط لطفي السيد بين الدفاع عن القومية المصرية والدفاع عن الدولة العصرية. فنادي بضرورة استقلال القضاء(لأن حرية الأفراد وحقوقهم بغيراستقلال القضاء هباء. والقضاء إن لم يكن حرا ومستقلا فمصالحنا همل وحريتنا هراء) وعن الصحافة ذكرأنها صانعة الرأي العام وهي الحكومة الحقيقية للبلاد المتمدنة. وكتب طه حسين مقالا في شهر فبراير من عام 1927 في مجلة الحديث يعترض فيه علي اللجنة التي وضعت دستور23 بسبب المادة 149 التي نصت علي أن دين الدولة الإسلام. وتصدي للأصولية الإسلامية فكتب (من المحقق أن تطورالحياة الإنسانية قضي منذ عهد بعيد أن وحدة الدين ووحدة اللغة لاتصلحان للوحدة السياسية ولاقواما لتكوين الدولة) ورغم أنه في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) كان يري أن انتماء مصر(ثقافيا) الي حوض البحرالمتوسط , كان إحساسه بمصريته عميقا فكتب (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وستبقي كذلك. بل يجب أن تبقي وتقوي. إن المصري مصري قبل كل شيء. وهولن يتنازل عن مصريته مهما تغلبت الظروف. وأن الأكثرية الساحقة من المصريين لاتمت بصلة الي الدم العربي) في ظل هذا المناخ كتب توفيق الحكيم في رسالة منه الي طه حسين خلال مايو ن عام 1933 يقول فيها (لابد لنا أن نعرف من المصري ومن العربي) وفيها يلخص الفرق بين خصائص الثقافة القومية لكل من المصريين والعرب. وفي رسالة أخري كتب (إن المنطق الذي شيد الأهرام لهوصورة محكمة للمنطق الذي شيد الكون.وأن القاعدة التي بنيت عليها الأهرام , هي قاعدة كل بناء : التماسك بين الأجزاء في كل واحد متسق. أي جمال للأهرام غيرذلك التناسق الهندسي الخفي؟) أما العرب فهم (أمة نشأت في فقرلم تعرفه أمة غيرها. صحراء قفراء. قليل من الماء يثيرالحرب والدماء. كل تفكيرالعرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة . لذة سريعة منهومة مختطفة اختطافا. لأن كل شيء عند العرب سرعة ونهب واختطاف. ومر العرب بحضارات مختلفة فاختطفوا من أطايبها اختطافا ركضا علي ظهورالجياد. كل شيء قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار. وكيف يعرفون الاستقراروليس لهم أرض ولاماض ولاعمران. دولة أنشأتها الظروف ولم تنشئها الأرض. وحيث لاأرض فلااستقرار. وحيث لا استقرار فلا تأمل. وحيث لاتأمل فلا ميثولوجيا ولاخيال واسع ولاتفكيرعميق ولا إحساس بالبناء. لهذا السبب لم يعرف العرب البناء سواء في العمارة أو في الأدب أو في النقد. كل شيء عند العرب زخرف. لايقوم علي البناء. فلاملاحم ولاقصص ولاتماثيل. أتستطيع أن تتخيل العرب يبنون الأهرام ؟) .
كان هذا هوالمناخ السائد قبل يوليو1952. وبعد هذا التاريخ ركزالنظام ومعه الثقافة السائدة علي أننا نحن المصريين عرب وعلي طغيان اللغة الدينية في كل مؤسسات الدولة. ومن هنا بدأ انهيار مفهوم المواطنة مع العداء للقومية المصرية لصالح القومية العربية. وهذا العداء أخذ أشكالا عديدة مثل العداء لظاهرة الموالد التي يعشقها المصريون (مسلمين ومسيحيين) والعداء للموروث الشعبي مثل الاحتفال بسبوع الطفل وأعياد الميلاد وشم النسيم وخميس وأربعين المتوفي وأسلوب الدفن. والعداء لجدودنا المصريين القدماء واتهامهم بالظلم والطغيان. في حين أن علم المصريات ينفي عنهم هذه التهمة تماما. بل العكس حيث أشاد أكثرمن عالم بقيمة العدالة في مصرالقديمة. لدرجة أن جدودنا أبدعوا إلهة للعدالة (ماعت) .
واذا كانت الثقافة السائدة تسيرفي سكة العروبة وفي تعظيم اللغة الدينية فإن الإبداع الشعبي يؤكد أن المصريين يقاومون بالنكتة والمثل والتمسك بعاداتهم الموروثة عن الجدود. ولكن إلي أي مدي ستستمرالمقاومة في مواجهة ثقافة سائدة مسلحة بأخطرمؤسستين : التعليم والإعلام ؟ هذا هو السؤال : كيف يمكن مجابهة الثقافة السائدة لتعميق المعني العلمي لحق (المواطنة) وأنه لا يمكن فصل هذا المعني عن تعميق إحساسنا بقوميتنا المصرية. إذا نجحت الأجيال القادمة في هذا سيترسخ المبدأ الذي رفع الشعوب المتحضرة في طريق الحرية والتقدم : أننا مصريون قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين. وهو المعني الذي أنشده سيد درويش والشعب يردد وراءه : ( اللي تجمعهم أوطانهم.. عمرالأديان ما تفرقهم) .