الانتخابات العراقية تطرح علي العرب سؤال إمكانية الديموقراطية في بلداننا من عدمها, وليس العراق وحده الذي يطرح علينا هذا التحدي, فلبنان أيضا ورغم كل ما يقال عنه هو دليل قاطع علي أن الديموقراطية هي نبت لا ينمو في بلداننا, صحارينا وودياننا معا. العراق ولبنان هما حالتان تكذبان وهم الديموقراطية العربية واحتمال حدوثها في حياتنا نحن الذين تجاوزنا سن الأربعين. لبنان وكما واضح للعيان, هو بلد طائفي وعشائري بامتياز, الدروز والموارنة والشيعة والأرمن وغيرهم, إقطاع سياسي وزعامات يتم توريثها عائليا. فالتوريث الذي نشجبه في البلدان العربية الأخري هو نمط حياة في السياسة اللبنانية, فهذا مثلا أمين الجميل وابنه النائب في البرلمان, ووالده الشيخ بيار الجميل وأخوه الرئيس اللبناني الأسبق, بشير الجميل, جزء أساسي من الحياة السياسية اللبنانية, أي إننا نتحدث عن توريث واضح داخل الزعامات السياسية اللبنانية. ولا يختلف الأمر عند الدروز, حيث ورث السيد وليد جنبلاط قيادة الدروز بعد وفاة والده السيد كمال جنبلاط, وهذا هو الرئيس سعد الحريري أيضا ورث زعامة السنة في لبنان عن والده أيضا. إذن وكما يقول المصريون لا تعايرني ولا أعايرك, الهم طايلني وطايلك. وحتي عندما نتحدث عن حرية الصحافة في لبنان وعن جو الحرية, كما رأينا في الآونة الأخيرة, الصحف والمحطات التلفزيونية اللبنانية تسخر من كل ساسة لبنان في برامجها, ومع ذلك, لم تجرؤ محطة أو صحيفة واحدة علي الحديث عن زعيم حزب الله. إذن حرية الصحافة تحكمها القوة وتحكمها البنادق, وما سوي ذلك وهم.
في العراق اليوم وبعد نهاية الديكتاتورية الرهيبة لصدام حسين ونظامه, إلا أن العراقيين ما زالوا يتحدثون عن تزوير الانتخابات. يبدو أن كل العالم قد صدق أن صدام حسين قد مات وأن نظامه انتهي, إلا العراقيين أنفسهم الذين ما زالوا يمارسون سلوكا أقرب إلي سلوك البعث في حياة صدام من خلال محاكم التفتيش المتمثلة في هيئة العدالة والمساءلة في العراق – هيئة اجتثات البعث سابقا – والتي منعت ما يقرب من خمسة عشر كيانا سياسيا من دخول المعركة الانتخابية بدعوي أن لهم جذورا بعثية. هذا النوع من الهيئات ومن اللجان يشبه إلي حد كبير ما مورس في الصين أيام الثورة الثقافية في بداية عهد ماو تسي تونج والتي أرسلت خيرة علماء ومثقفي الصين إلي الريف ليمارسوا الفلاحة حتي يعاد تأهيلهم ضمن البلوريتاريا الثورية, فهم مشكوك في ولائهم حتي ينصلح حالهم. فهل من المعقول أن يمارس ذات السلوك الفاشستي في كيان بازج يدعي أن الديموقراطية هي مستقبله؟
الديموقراطية هي عملية طويلة الأمد ولا توجد في يوم وليلة, العراقيون اليوم يظهرون علي العالم كما الخفاش الذي خرج من ظلام الديكتاتورية إلي نور الشمس, يتخبط الخفاش هلعا من النور لأنه معتاد علي حياة الظلام. سلوك هيئة اجتثاث البعث وغيرها هو سلوك الخفافيش التي لم تعتد علي الشفافية والنور, ويكفي هذا في الحديث عن هكذا مؤسسات, كما يقول الإخوة العراقيون.
العراق ورغم كل هذه الحرية التي جاءت بعد نهاية الديكتاتورية, لم يستطع حتي الآن أن يقيم صحافة حرة تتحدث بموضوعية بعيدا عن الطائفية, فمثلما هناك طائفية سياسية, أنتج لنا العراق, كما أنتج لنا لبنان في السابق, إعلاما طائفيا. كل وسيلة إعلام في لبنان وفي العراق تمثل الناطق الرسمي لطائفة بعينها. حتي القنوات الأجنبية الموجهة للعراق مثل قناة الحرة الأمريكية اكتست باللون الطائفي أيضا.
أما في موضوع التوريث السياسي, فالعراق لا يختلف عن لبنان أو عن دول الجوار الأخري, فهذا عمار الحكيم يرث تركة والده عبد العزيز الحكيم, الذي ورث القيادة عن أخيه وعن أبيه في قيادة المجلس الأعلي, وهذا مقتدي الصدر يرث والده محمد صادق الصدر, رغم صغر سن مقتدي وقلة خبرته السياسية. إذن العراق مثله مثل لبنان يتجه إلي الإقطاع السياسي والطائفية, وليس إلي الديموقراطية.
ردة الفعل العربية علي هذا الطرح هو أن هناك عائلات سياسية في الغرب أيضا, مثل عائلة كنيدي وعائلة بوش في الولايات المتحدة الأمريكية, أو العائلات الأوربية الموجودة علي الساحة السياسة, هذا كلام مردود عليه, لأن الأساس في الديموقراطية الغربية هو التغيير أو إعادة تصحيح الأوضاع, فربما تكون هذه العائلات مؤثرة, ولكن النظام يفرز حالة أوباما الأسود القادم من عائلة عادية ليتبوأ أهم منصب في البلاد, نفس الشيء ينطبق علي كلينتون الذي جاء من عائلة بها أم وليس بها أب, من عائلة مكسورة, كما يقول الأمريكيون. الديموقراطية ليست إجرائية وليست مجرد انتخابات. الديموقراطية عملية فرز للمجتمع لينتج أفضل ما عنده, وإن لم يكن هذا هو الأفضل, يستطيع المجتمع تغييره في الانتخابات القادمة, هذا ما حدث في حالة جورج بوش الابن. لم يكن موفقا فيما فعل فغيره النظام.
أمام العراقيين اليوم تحد كبير من أجل الخروج من عالم التوريث السياسي والطائفية والإقطاعيات والزعامات التقليدية, إلي عالم الديموقراطية وتنافس الأفكار والبرامج. فمن ينظر إلي أحزاب الغرب الديموقراطي, كالحزب الجمهوري في أمريكا أو المحافظين والعمال في بريطانيا, يدرك أن المحك هو قدرة الأحزاب علي حل قضايا المواطنين, قدرة الأحزاب علي مواجهة الأزمة المالية, أو طرح برنامج جاد للتعامل مع قضايا التعليم والصحة, هذه هي الديمقراطية, محاسبة القادة علي أفعالهم تجاه قضايا بعينها, أما أن نأخذ من الديموقراطية من خلال ممارساتها الشكلية مثل الانتخابات في لبنان والعراق, فهذا وهم كبير, ولا علاقة لما يحدث في هذين البلدين بالديموقراطية.
العراق ولبنان حالتان لا تبعثان علي التفاؤل فيما يخص مستقبل الديموقراطية في العالم العربي. فالطائفية والزعامات والتوريث هي الأنماط السائدة في تلك البلدان إلا إذا استطعنا الانتقال من عالم علاقات الدم إلي عالم العلاقات الفكرية التي تكون فيها أفكار المرشح, لا طائفته ولا عائلته هي الأساس في الاختيار.
طرحت في مقال سابق فكرة مفادها أن أفضل ما يطمح إليه العرب هو شيخ قبيلة طيب, ديكتاتور يقبل بالآخر, متسامح, لأن علاقات الدم لا علاقات الأفكار هي التي تحكمنا. الديموقراطية في الغرب هي نتيجة لتفاعلات الحداثة الأوربية, نحن لم نقترب بعد من عتبة الحداثة, ومع ذلك نوهم أنفسنا بأننا أمام تحولات ديموقراطية كبري في العراق وفي لبنان. إن الأساس في تأخر الديموقراطية في عالمنا, هو أننا واهمون بصددها, ويختلط علينا فيها السراب بالماء, لذا, وكي يكون لجيلنا ديموقراطية حقيقية, لا بد من مناقشة تلك البدائية السياسية التي نراها في لبنان والعراق, ونسمي الأمور بأسمائها الحقيقية, فهناك فرق بين الحقيقة والغش في موضوع الديموقراطية, مهما تزايدت عندنا أطباق الدش والفضائيات.
العراق ولبنان أكذوبتان لا بد من فضحهما, إن كنا جادين في الحديث عن مستقبل الديموقراطية في العالم العربي